مجموعة أقوال المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام
يقول حضرته:
ضرورة الوحي مع العقل
“وحي الله تعالى يهيئ – مِثل الليل – سترًا للعقل الإنساني.. فلا يَدَع أخطاءه الخبيثة تنكشف للدنيا.. لأن أصحاب العقل متى تلقوْا نورَ الوحي أصلحوا أخطاءهم بأنفسهم، واتقوا الفضيحة بفضل برَكة الوحي الإلهي القدسي. لذلك لن تجدوا أحدًا من فلاسفة الإسلام قرّب للأصنام دجاجًا كما فعل “أفلاطون” الفيلسوف. كان أفلاطون محرومًا من نور الوحي لذلك انخدع، وبدرت منه تلك الحماقُة البشعة.. رغم كونه فيلسوفا كبيرا. ولكن حكماء الإسلام عُصِموا من مثل هذه الأعمال النجسة الحمقاء.. بفضل اقتدائهم بسيدنا ومولانا رسول الله ﷺ”. (فلسفة تعاليم الإسلام، ص 124)
استمرار الوحي
“إن الله الذي ما زال يتجلى للنبيين كافة، هو الذي تجلى لموسى كليم الله ؏ بالطور، كما أشرق نوره للمسيح الناصري ؏ بجبل سعير، وهو الذي تبلجت أشعته النورانية من جبل فاران لسيدنا ومولانا محمد ﷺ. أجل، إن نفس ذلك الإله المقتدر القدوس قد تفضل عليَّ بتجليه النوراني، وشرّفني بكلامه، وأخبرني قائلا: إني أنا الإله الذي أرسل جميع الأنبياء لعبادته، وأنا الخالق المالك، وأنا الذي لا شريك له ولا نِدّ، وأنا الأجلُّ والأسمى من الولادة والموت”. (الحكومة الإنجليزية والجهاد، الخزائن الروحانية ج 17 ص 29)
“ومن الناس من يقول إن باب الإلهام مسدود على هذه الأمة، وما تدبَّرَ في القرآن حق التدبر، وما لقي الملهَمين. فاعلم أيها الرشيد أن هذا القول باطل بالبداهة، ويخالف الكتاب والسنة وشهادات الصالحين. أما كتاب الله.. فأنت تقرأ في القرآن الكريم آياتٍ تؤيد قولنا هذا، وقد أخبر الله تعالى في كتابه المحكم عن بعض رجال ونساء كلّمهم ربهم وخاطبهم وأمرهم ونهاهم، وما كانوا من الأنبياء ولا رسل رب العالمين. ألا تقرأ في القرآن: (ولا تَخَافي وَلا تَحْزَني إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ). فتدبَّرْ أيها المنصف العاقل.. كيف لا يجوز مكالماتُ الله ببعض رجال هذه الأمة التي هي خير الأمم وقد كلّم اللهُ نساءَ قوم خلوا من قبلكم، وقد أتاكم مثل الأولين؟ فإن كان بعض الناس في شك من إلهامي، وكان لهم عجبٌ من أن يخاطب الله أحدا من هذه الأمة ويكلّمه من غير أن يكون نبيا.. فلِمَ لا يحكّمون القرآنَ فيما شجر بينهم؟ ولِمَ لا يردّون الأمر إلى الله ورسوله إن كانوا مؤمنين؟ وقد قال الله تعالى: (لَهُمُ الْبُشْرَى في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، وقال: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنـزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ)، وقال: (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشاَءُ مِنْ عِبَادِه لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ)، وقال: يجعل لهم فرقانا، ويجعل لهم نورا يمشون به. فالنور.. الذي هو الأمر الفارق بين خواص عباد الله وبين عباد آخرين.. هو الإلهام والكشف والتحديث، وعلوم غامضة دقيقة تنـزل على قلوب الخواص من عند الله. وكذلك قال عز وجل: (وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)”. (حمامة البشرى، ص 166-167)
“من كان يؤمن بالله وآياته، فقد وجب عليه أن يؤمن بأن الله يوحي إلى من يشاء من عباده، رسولًا كان أو غير رسول، ويكلّم من يشاء، نبيًّا كان أو من المحدَّثين. ألا ترى أن الله تعالى قد أخبر في كتابه أنه كلَّم أُمَّ موسى وقال: (لا تَخَافي ولا تَحْزَني إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسَلينَ). وكذلك أوحى إلى الحواريين وكلّم ذا القرنين وأخبَرنا به في كتابه، ثم بشّر لنا وقال: (ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّن الآخِرِينَ). وفي هذه الآية أشار إلى أن هذه الأمّة تُكلَّم كما كُلِّمت الأمم من قبل، فمن كان له صدق رغبة في الاتّعاظ بالقرآن فلا يتردد بعد بيان كتاب الله ولا يكون من المرتابين. ومن لم يبال امتثالَ أوامره وانتهاء نواهيه فما آمن به وما كان من المؤمنين.
وقد اتفق الأولياء كلّهم على أن لله تعالى مخاطباتٍ ومكالماتٍ بالمحدَّثين، كما قال سيدي وحبيبي الشيخ عبد القادر الجيلاني ؓ في كتابه “الفتوح” تعليما للسالكين. ومن ملخصات كلامه أنه قال: إن لأهل الله علاماتٍ يُعرَفون بها، فمنها الخوارق والكشوف، ومكالمات الله تعالى، وخوف الله وخشيته، وإيثاره على غيره، وكل ما يجب للمتقين. وقال: إذا مِتَّ عن الخَلْق قيل لك: رحمك الله وأماتك عن إرادتك ومُناك، وإذا مِتَّ عن الإرادة ومُناك قيل لك: رحمك الله وأحياك، فكنت من المرحومين. فحينئذ تُحيى حياة لا موت بعدها، وتُغنَى غناءً لا فقر بعده، وتُعطَى عطاءً لا منع بعده، وتُراحُ براحةٍ لا شقاء بعدها، وتنعم بنعيم لا بؤس بعده، وتُعلَّم علمًا لا جهل بعده، وتُؤَمَّن أمنًا لا تخاف بعده، وتسعد فلا تشقى، وتُعَزّ فلا تُذلّ، وتُقرَّب فلا تُبعَد، وتُرفَع فلا تُوضَع، وتُعظَّم فلا تُحقَّر، وتُطهَّر فلا تُدنَّس، ونجّاك الله وطهّرك من أدناس طرق الفاسقين. فيتحقق فيك الأماني، وتصدُق فيك الأقاويل، فتكون كِبْريتًا أحمرَ فلا تكاد تُرى، وعزيزًا فلا تُماثَل، وفريدًا فلا تُشارَك، ووحيدًا فلا تُجانَس، وتكون عند ربك من أهل السماء لا من أهل الأرضين. فردُ الفردِ، وترُ الوتر، غيب الغيب، سرّ السرّ، فحينئذٍ تكون وارثَ كل رسول ونبيّ وصِدّيق، فتُعطَى كلَّ ما أُعْطُوا من الأنوار والأسرار، والبركات والمخاطبات، والوحي والمكالمات، وغيرها من آيات رب العالمين. وبِكَ تُختَم الولاية، وإليك تصدُر الأبدال، وبك تنكشف الكروب، وبك تُسقَى الغيوث، وبك تنبت الزروع، وبك تُدفَع البلايا والمحن من الخاص والعام وأهل الثغور، والراعي والرعايا، والأئمة والأُمّة، وسائر البرايا، فتكون شِحْنةَ البلاد والعباد ومن المأمورين. فينطلق إليك الأرجلُ بالسعي والترحال، والأيدي بالبذل والعطاء والخدمة بإذن خالقِ الأشياء في سائر الأحوال، والألسنُ بالذكر الطيّب والحمد والثناء في جميع المحالّ، ولا يختلف إليك اثنان من أهل الإيمان، وتهوي إليك أفئدة من العُلماء والأُمّيّين، ويدعوك لسانُ الأزل، ويُعلّمك ربُّ المُلك، ويكسوك أنوارًا منه والحُلل، ويُنـزلك منازلَ مَن سلَف من أولي العلم الأُوَل، من الأنبياء والصدّيقين.
فحينئذٍ يُضاف إليك التكوين وخرق العادات، فيُرَى ذلك منك في ظاهر العقل والحكم، وهو فعل الله وإرادته حقًّا في العلم، فتدخل حينئذٍ في قومٍ مُوجَعٍ، وفي زمرة المنكسرين الذين انكسرت قلوبهم، وكُسرت إراداتهم البشرية، وأُزيلت شهواتهم الطبيعية، فاستُؤنفتْ لهم إرادة ربّانية، وشهوات وظيفية، وكانوا من المبدَّلين. ويُكشَف للأولياء والأبدال من أفعال الله ما يبهر العقول، ويخرِق العادات والرسوم، ويكلّمهم الله تعالى بالكلام اللذيذ، والحديث الأنيس، والبشارة بالمواهب الجِسام، والمنازل العالية، والقُرب منه مما سيؤول أمرُهم إليه وجفَّ به القلمُ من أقسامهم في سابق الدهور فضلًا منه ورحمة وإثباتًا منه لهم في الدنيا إلى بلوغ الأجل، وهو الوقت المقدَّر لهم من أرحم الراحمين.
وقال الله تعالى في بعض كتبه: يا بن آدم أنا الله لا إله إلا أنا. أقول لشيء: كُن، فيكون. أَطِعْني أجعَلْك تقول للشيء: كُنْ، فيكون. قد جعل الله أولياءه أوتادَ الأرض، وجعل الدنيا لهم جنّةَ المأوى، فلهم جنّتان: الدنيا والآخرة. وهم كالجبل الذي رسا، تفرّدوا في الصدق والوفاء والتقوى، فتَنَحَّ عن طريقهم ولا تُزاحِمْ يا مسكين. الرجال الذين ما قيّدهم أحد عن قصد الحق من الآباء والأمهات والبنات والبنين، فهم خيرُ مَن خلَق ربّي وبثَّ في الأرض وذرَأ، فعليهم سلام الله وتحياته وبركاته أجمعين.
أيها السالك! إذا قوِي علمك ويقينك، وشرح صدرك وقوي نور قلبك، وزاد قربُك من مولاك، ومكانُك لديه، وأمانتُك عنده وأهليّتُك لحفظ الأسرار، فعُلِّمتَ من لدنه، ويأتيك قِسْمُك قبل حين. وتلك كرامةٌ لك وإجلالٌ لحرمتك، فضلًا منه ومنّةً وموهبةً، ثم يَرِدُ عليك التكوين، فتُكَوَّن بالإذن الصريح الذي لا غُبار عليه، والدلالات اللائحة كالشمس المنيرة، وبكلامٍ لذيذ ألذّ من كل لذيذٍ، وإلهامٍ صدقٍ مِن غير تلبُّسٍ، مُصفًّى من هواجس النفس ووساوس الشيطان اللعين.
تمَّ كلام السيّد الجليل قُطب الوقت إمام الزمان (ؓ)، وقد كتبناه بتلخيصٍ منَّا، فارجع إلى كتابه: “فتوح الغيب” إن كنتَ من المرتابين. وقد ظهر من كلام الإمام الموصوف أن الوحي كما ينـزل على الأنبياء كذلك ينـزل على الأولياء، ولا فرْق في نـزول الوحي بين أن يكون إلى نبيٍّ أو وليٍّ، ولكلٍّ حظٌّ من مكالمات الله تعالى ومخاطباته على حسب المدارج. نعم.. لوحي الأنبياء شأنٌ أتمّ وأكمل. وأقوى أقسامِ الوحي وحيُ رسولنا خاتم النبيين.
وقال المجدّد الإمام السرهندي الشيخ أحمد (ؓ) في مكتوب يكتب فيه بعض الوصايا إلى مريده محمد صدّيق:
اعلم أيها الصديق، أن كلامه سبحانه مع البشر قد يكون شفاهًا، وذلك لأفرادٍ من الأنبياء، وقد يكون ذلك لبعض الكُمَّلِ مِن متابعيهم، وإذا كثُر هذا القسم من الكلام مع واحد منهم يُسمّى مُحدَّثًا، وهذا غير الإلهام وغير الإلقاء في الروع وغير الكلام الذي مع المَلَك، إنما يُخاطَب بهذا الكلام الإنسانُ الكامل، والله يختص برحمته من يشاء.
تمَّ كلامه، فارجعْ إلى كلامه إن كنت من المنكرين.
واذكُرْ قصة من قال: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) صدق الله العظيم، وما كان من المرسلين.
واذكُرْ ما قال الله تعالى: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا )
فانظُرْ كيف كلَّم مَلَكُ الله مريمَ وما كانت نبيّةً، فاتّقِ الله ولا تكن من المعتدين.
وقد جاء في الحديث الصحيح عن عمرو بن الحارث قال: بينما عمرُ يخطب يوم الجمعة إذا ترك الخُطبة ونادى يا ساريةُ الجبل مرتين أو ثلاثا، ثم أقبلَ على خطبته. فقال ناسٌ من أصحاب رسول الله ﷺ: إنه لمجنون.. ترَك خطبة ونادى “يا ساريةُ الجبلَ”. فدخل عليه عبد الرحمن بن عوف وكان ينبسط عليه فقال: يا أمير المؤمنين! تجعل للناس عليك مقالا؟ بينما أنت في خطبتك إذ ناديتَ: “يا ساريةُ الجبلَ”. أيُّ شيء هذا؟ قال: والله، ما ملكتُ ذلك حين رأيتُ ساريةَ وأصحابه يقاتلون عند جبل ويُؤتَون مِن بين أيديهم ومن خلفهم، فلم أملِكْ أن قلتُ: “يا ساريةُ الجبلَ”، ليلحقوا بالجبل. فلم تمض الأيام حتى جاء رسولُ سارية بكتابه أن القوم لقُونا يوم الجمعة، فقاتلناهم مِن حين صلّينا الصبح إلى أن حضرت الجمعةُ، فسمعنا صوتَ منادٍ يُنادي: الجبلَ مرتين، فلحقنا بالجبل.. فلم نزل لعدوّنا قاهرين حتى هزمهم الله تعالى وتراءى فتح مبين”. (تحفة بغداد، باقة من بستان المهدي، ص 27-30 الحاشية)
وحي في حلل الاستعارات
“وأنت تعلم أن الله تعالى قد يُوحي إلى أنبيائه ورسله في حُلل المجازات والاستعارات والتمثيلات، ونظائره كثيرة في وحي خير الرسل ﷺ، منها ما جاء في حديث أنس ؓ قال: قال رسول الله ﷺ: رأيتُ ذاتَ ليلة فيما يرى النائم كأنّا في دار عقبة بن رافع، فأتينا برُطب من رطب ابن طاب. فأوّلتُ أن الرفعة لنا في الدنيا والعافية في الآخرة، وأن ديننا قد طاب.
ومنها ما جاء في حديث أبي موسى قال: قال رسول الله ﷺ: رأيتُ في رؤياي أني هززتُ سيفا فانقطع صدره، فإذا هو ما أُصيبَ من المؤمنين يومَ أُحُد، ثم هززتُه أخرى فعادَ أحسنَ ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين.
فانظر كيف رأى رسول الله ﷺ الكيفيات الروحانية في الصور الجسمانية. ولا يخفى عليك أن رؤيا الأنبياء وحيٌ، فثبت من ههنا أن وحي الأنبياء قد يكون من نوع المجاز والاستعارة، وقد أوّلَ رسولُ الله ﷺ مثلَ ذلك الوحي، وتأويلاته كثيرة كما في رؤية سِوار الذهب والقميص والبقر وغيرها من الرؤيا التي هي مشهورة في القوم، فلا حاجة إلى أن نقصّ عليك.
وقد رأى رسول الله ﷺ في رؤيا أخرى الدجّالَ المسيح واضعًا يديه على منكبَي رجلين يطوف بالبيت. فلو حملْنا تلك الوحي على الظاهر لوجب أن يكون الدجّال مسلما مؤمنا لأن الطواف من شعائر المسلمين”. (حمامة البشرى، ص 27 الحاشية)