يقول المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام:
“فاعلموا، أيّدكم الله، أن آبائي كانوا الفارسيين أصلاً ومِن سادة القوم وأمرائهم. ثم قادهم قضاء الرحمن إلى بلدة “سمرقند”، فلبثوا فيه برهة من الزمان، والله يعلم بما لبثوا، ولا علم لي إلا ما أُنبئتُ من صحفهم التي كانوا يكتبون. ثم بدا لهم أن يسيروا إلى أرض الهند، فسافروا من وطنهم، وانحدروا إلى بعض أضلاع منها يقال لها “فنجاب”، ووجدوا في بعض نواحها أرضا طيبة مُخصبةً، صالحة الهواء عذبة الماء، فألقَوْا بها عصا التَّسْيار، ونزلوا فيها بِنيّة الاستقرار، وكانوا متغـربين في نفر من قومهم.. منهم السادة ومنهم الخادمون. فآواهم الله في تلك الأرض، وبوّأهم مبوّأ عزة، ومكّنهم. فعمروا فيها قرية، وسموها: “إسلام بور” (المعروفة بقاديان)، ذلك بأنهم أرادوا أن يُسكنوها جماعة المسلمين من أعزتهم، ليكون بعضهم لبعض ظهيرا، ولعلهم يحفظون أنفسهم من الأعداء، وإذا أصابهم البغي ينتصرون. وسكنوها وتملكوا، وأثمروا وبوركوا، وكان هذه الواقعة في أيام دولة الملوك الجغتائية، الذين كانوا من أقوام الجيل، وكان زمام الحكومة إذ ذاك بيد اقتدار المـلك الذي كان اسمه “بابر”، وكان من الذين يكرمون الشرفاء ويعظمون. فأعزّهم وأكرمهم، وأعطاهم قرى كثيرة، وجعلهم من أمراء هذه الديار وأهل الأرضين، وعظماء الحرّاثين وزعمائهم، ومن الذين يتملكون.
فرَقُوا في مدارج الإقبال، وزادوا أموالا وأراضي وإمارةً، وكانوا.. مع إماراتهم وثروتهم.. يتقون الله، وفي سبل الخير يسلكون. وفي أيّام إمارتهم تَهلَّلَ وجه الإسلام في رعاياهم وأقوامهم، وكانوا أتقياء، وكانت الأمم لهم يخضعون. وكانوا يرغبون في الصالحات، وفعل الخيرات، ويمسكون بكتاب الله، وينصرون دين الله، وإلى نوائب الحق يَأفَدون.
وبعد ذلك الأيام.. قُلِّب أمر سلطنة الإسلام، وتطرق الاختلال والضعف فيها، ليصيب الذين أجرموا من الملوك صغار من عند الله، وعذاب شديد بما كانوا نسوا حدود الله، وبما كانوا يعتدون. فصاروا طرائقَ قِدَدًا.. يبغي بعضهم على بعض، ويقتلون أنفسهم ويفسدون. وتركوا كل رشدٍ وصلاح، ومالوا إلى ما يباين الورع، وكانوا في أعمالهم يعتدون. ولم يبق فيهم من يتعاشر بالمعروف، ويرحم على الضعيف المؤوف، بل عاقب بعضهم بعضًا بالسيوف، وأرادوا أن يأكلوا شركاءهم، ويستأصلوا إخوانَهم، وأكابرهم وآباءهم، وكانوا من بعدهم كالذين لا شريك لهم في الملك وهم متوحدون. وأكثرهم كانوا يعملون السيئات، ويستوفون دقائق الشهوات، ويتركون فرائض الله وحدوده، وإلى شرك الأهواء يُوفِضون ثم لا يُقصِرون. وفرحوا بما عندهم من الدنيا، واستقرأوا طرقا منكرة، وأخذوا سبلا منقلة، وطاغوا وزاغوا، وانتهى أمرهم إلى فساد ذات البين، فسقطوا من الزين في الشين، فغيِّر زمانهم، وقلِّب دهرهم، ذلك بأن الله لا يرضى أن يرث أرضه الفاسقون. وكان بعضهم كمثل الذين ارتدوا من دين الإسلام، وخلعوا عنهم رداء أسوة خير الأنام، وكانوا لا يعرفون نعماء الله ولا يشكرون. فغضب الله عليهم، ومزق ملكهم، وجعله عضينَ، وبعث أقوامًا كانوا يبسطون أيديهم إلى ممالكهم ويقتسمون.
وكان ذلك الزمن زمان طوائف الملوك، وكانوا إلى ثغورهم يحكمون. وكان آبائي منهم، يأمرون على ثغرهم، وكالملوك على قراهم يقتدرون. وكان يُرفَع إليهم ما وقع في رعاياهم، فكانوا يحكمون كيف يشاءون، ولا يخافون إلا الله ولا يستجيزون أحدا ولا يستأذنون.
ثم نُقل صلحاء آبائي إلى جوار رحمة الله، وخلَف من بعدهم قوم أضاعوا الصالحات المسنونات، وما رعَوها حق رعايتها، ووقعوا في البدعات والرسوم وما تَعافَوها، وكانوا لدنياهم يلتاعون. وكذلك هبّت الريح في تلك الأيام على جميع أمراء المسلمين وطوائف ملوكهم، وغفلوا من الانقياد إلى الله والإخبات له، وعصوا أحكام القرآن، وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، وكانوا يراءون ولا يخلصون.
ونظر الله إليهم فوجدهم كأجساد لا أرواح فيها، ورآهم أنهم انتكسوا على الدنيا وكانوا مما سواها يستوحشون. وكانوا يشفقون على مهمات دنياهم وعلى الدين لا يشفقون. وتلطخوا بقاذورات النشأة الأولى، وغفلوا عن النشأة الثانية، فما طلبوها وما كانوا يطلبون. فاقتضت حكمة الله تعالى لينبههم، وأراد أن ينـزع الملك منهم، ويؤتي قومًا من عبدة الأوثان كانوا يسمون أنفسهم “خالصة” (أي السيخ)، وكانوا أميّين لا يعلمون شيئا ولا يعقلون. فأهاج الله تقريبات عجيبة لنصرتهم وإقبالهم، وإزعاج شجرة المسلمين وحطمهم، ليعلموا أنهم فسقوا أمام ربهم وأنهم ظالمون.
فقام “الخالصة” بجميع الجهد والهمة ليستأصلوا المسلمين، ويصفو ملكهم لهم، وأعانهم الله عونًا عجيبًا، فكانوا في كل موطن يغلبون. ففي هذه الأيام صبت على آبائي حوادث ونوازل، واستولى “الخالصة” على بلادهم وجاسوا ديارهم، وغصبوا ملكهم ورياستهم واستخلصوها من أيديهم، ونهبوا أموالهم وخرّبوا عماراتهم، وفرّقوا أجيالهم، وأحرقوا دار كتبهم، وأُحرق فيها زهاء خمسمائة مجلدات كتاب الله الفرقان، وكان المسلمون ينظرون إليها ويبكون. واتخذوا مساجدهم معابد أصنامهم، وقتلوا كثيرًا منّا بحسامهم، وجعلوا أعزّتنا أذلة. حتى إذا بلغت الكربة منتهاها، وأحاطت الهموم على آبائي، وضاقت الأرض عليهم بما رحبت، وأُخرجوا من دار رياستهم، في نفر من إخوانهم وعبيدهم وخدمهم، فكانوا في كل أرض يتيهون. وأظهر الكفرة في بلادهم شعائر الكفر، ومحوا آثار الإسلام وجعلوها غثاءً، وقلبوا الأمور كلها وكذلك كانوا يفعلون. فأصابت المسلمين في هذه الأيام مصيبة عظيمة، وداهية عامة، وما كان لأحد أن يؤذن في مسجد، أو يقرأ القرآن جهرًا، أو يُدخِل أحدًا من الهنود في دين الله، أو يذبح بقرة، وكان الجزاء في كل هذه الأمور القتل والنهب، وإن خُفِّف فتقطيع الأيدي والأرجل، وإن رُحِمَ عليه فالحبس الشديد حتى يموت في السجن ظمأً ومخمصةً وهم يشهدون“. (التبليغ، ص 73-78)
“فاعلموا، أيها السّادة أنّ آبائي – كما ذكرت فيما مر – كانوا من عظماء الحراثين، وكانت صناعتهم الفلاحة، وكانوا من أهل الإمارة والقرى والأرضين. وكانوا من أكرمِ جرثومة، وأطهرِ أَرومة، ذوي فضل ووجاهة، وسَيدودة ونباهة، بُناة المجد وأرباب الجد ومن المقبولين. وكانوا في زوايا هذه الأرض خبايا وبقايا من الأمراء الصالحين. وبعضهم كان من مشاهير المشايخ ونادرة الدهر في التزام دقائق العفة وأنواع الصالحات، وصاحب الأوقات، المشهود بالكرامات والآيات وخرق العادات، ومن المتعبدين المنقطعين. وكانوا في هذه الأرض ثاوين في الكفرة الفجرة، فصُبّت عليهم ما صبت، وقد ذكرناها من قبل للناظرين. وكنا ذرية ضعفاء من بعدهم ومن المستضعفين.
ولما مكر “الخالصة” مكرهم، وأخرجوا آباءنا من ديارهم، توفي جدي في الغربة، وسمعت أنه مات وهو من المسمومين. وبقي أبي يتيما غريبا مسافرا خاوِيَ الوفاض، بادِيَ الإنفاض، مضروبَ النوازل كالملمّ في الليل المدلهمّ، يجوب طرقات البلاد مثل الهائم ما يدري ما الشمال ولا اليمين. وكان شغل أبي في تلك الأيام مكابدة صعوبة الأسفار أو مطالعة الأسفار، وسمعت منه – غفر الله لـه – مرارًا أنه كان يقول: كل ما قرأت قرأته في أيام المصائب والغربة والتباعد من الدار. وكان يقول مرارا: إني جربت الخاص والعام كما يجرب الحائر الوحيد، ورأيت مَكارهَ كنتُ منها أَحيد، وكان من المزؤودين. فكان أبي طالما سار كمستهام ليس له قيام، لأنه كان أُخرجَ من أرض الآباء، وصُدَّ عن الانكفاء، وكان عرضةً لنـزوات الظالمين وإعنات المؤذين وغِيل المغتالين وسلبِ السالبين، وطُعمةً للمغيرين وأسيرًا في أكفّ الضائمين. ثم بعد تراخِي الأمد وتلاقي الكَمَد، قصَد “كشميرَ” يستقري أسباب المعاش، لعل الله يدرأ بلاءه، ويدفع داءه، ويأتي قضاؤُه بأيام الاطْرِغْشاش، ويكون من المطعمين.
وقد اتفق في تلك الأيام أن ربي ألبسَني خلعةَ الوجود، ونقلني من زوايا الكتم إلى مناظر الشهود، وصرتُ على مسقط رأسي من الساجدين. وكانت هذه هي الأيام التي بدّل الله أبي مِن بعد خوفه أمنًا، ومِن بعد عسره يسرًا، وصار من المنعَمين. وأوى له الوالي، ورقَّ قلبه لمصيبته ومِن غِيَرِ الليالي، فلما كلّمه ورأى الوالي ما أعطاه الله من العلم والعقل والطبع العالي، شهد توسُّمُه بأنه من أبهى اللآلي، فصبا إلى الإسعاف والاختصاص، والتسليك في زمرة الخواص، وقال: لا تخف، إنك اليوم من أعواننا المكرمين. وكذلك مكّن الله أبي وحبّبه إلى أعينهم، ووهب لـه عزة وقبولا وميسرة، ونظر إليه إنعامًا ومياسرة، وكان هذا فضل الله ورحمته وهو أرحم الراحمين.
وسمعت أمي تقول لي مرارًا: إن أيامنا بُدّلت من يوم ولادتك، وكنا من قبل في شدائد ومصائب، وذا أنواع كروبٍ ومحنٍ، فجاءنا كل خير بمجيئك، وأنت من المباركين.
وكان أبي يعرج من مرتبة إلى أخرى، ومن عالية إلى عليا، حتى عرج إلى معارج الإقبال، وخلع الله عليه من خُلَعِ الإكرام والإجلال، وما أَلَتَه من شيء، وصار من المتمولين.
ثم غلب عليه تذكار الوطن، والحنين إلى المسارح المهجورة والعطن، فقوّض خيام الغربة والغيبة، وأسرجَ جواد الأَوبة إلى الأهل والعشيرة، ورجع سالـمًا غانـمًا إلى العِترة بنضرةٍ وخضرةٍ ومتاعٍ وأثاثٍ، رحيبَ الباع، خصيب الرِّباع. وكان ذلك فعل الله الذي أذهب عنّا حزننا، وأماط شَجننا، ومَنّ علينا، وتولى وتكفل وأحسن إلينا، وهو خير المحسنين.
ثم عزم أبي على أن يسبر بخته في الزراعات، لينجو من السفر المبرِّح، والبين المطوِّح من الأهل والبنين والبنات، فاستحسن لنفسه اتخاذ الضياع، والتصدي للازدراع، فأحمدَ بفضل الله معيشتُه، واسترغدَ فيها عيشتُه، ورُدّ عليه قليل من القرى، التي غُصبت من الآباء في زمن خلا. وقواه الله بعد ضعف المريرة، وبارك الله له في أشياء كانت من قبل نَكِدَ الحظيرة. وكل ذلك كان من فضل الله ورحمته، وإن خفي على المحجوبين، ليتم قول رسوله ﷺ إن الموعود الآتي يكون من الحارثين“. (التبليغ، ص 99-102)