مجموع أقوال المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام عن اليقين ووسيلة العلم الكامل
علم اليقين، عين اليقين وحق اليقين
“وقد قسَّم الله العلمَ هنا ثلاث درجات: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين. ولكي يفهم عامة الناس هذه المراتب العلمية.. أضرب ثلاثة أمثلة: إذا رأى الإنسان دخانًا كثيفًا عن بُعد، وانتقل ذهنه من الدخان المتصاعد إلى النار المشتعلة، واستيقن وجودها هنالك قِياسًا على ما يوجد بين الدخان والنار من تلازم تام وعلاقة غير منفَكّة، إذ لا بد أن تكون النار حيث يوجد الدخان.. فمثلُ هذا العلم يسمّى علم اليقين. ثم إذا رأى لهبَ النار سُمّي هذا العلم بالرؤية عينَ اليقين. وإذا دخل بنفسه في النار كان علمه هذا حق اليقين.
فالله تعالى يقول هنا: إنه فيما يتعلق بالجحيم فإن الإنسان يستطيع أن يعلمها علمَ اليقين وهو في هذه الدنيا، ثم إنه سيعلمها عينَ اليقين في عالم البرزخ، ثم يصل نفسُ هذا العلم إلى درجة كاملة هي حق اليقين في عالم حشر الأجساد”. (فلسفة تعاليم الإسلام، ص 99)
“اعلموا أن مدارج العلم بحسب القرآن الكريم ثلاثة كما ذكرناها فيما سبق عند تفسير سورة التكاثر، وهي: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين. وقد قلنا هنالك أن علم اليقين هو معرفة شيء بواسطة شيء آخر لا مباشرة.. كما نستدل بالدخان المتصاعد على وجود النار. لم نر النار ولكننا رأينا الدخان ومن ثمَّ عرفنا باليقين أن هناك نارًا. وهذه الدرجة من المعرفة تُسمّى علمَ اليقين. أما إذا رأينا النار نفسها.. فهذه الدرجة تسمّى عين اليقين حسب مصطلح القرآن الحكيم. ثم إذا اصطلينا بالنار صار علمُنا هذا في مرتبة حق اليقين وفقًا للتعبير القرآني. ولا حاجة لإعادة تفسير سورة التكاثر هنا، إذ يستطيع القرَّاء مراجعة هذا التفسير في مكانه. واعلموا أن القسم الأول من العلم.. أي علم اليقين.. وسيلته العقل والنقل. يقول الله حكاية عن أهل الجحيم: (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير).. أي سيقول أهل النار: لو كنا عقلاء، واختبرنا أمور الدين والعقائد بوسائل عقلية، أو أصغينا إلى أقوال العقلاء والباحثين الكاملين لما كنا اليوم في الجحيم.
هذه الآية تتفق في المعنى مع آية أخرى حيث يقول الله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها).. أي أن الله تعالى لا يحمِّل النفس البشرية قبولَ ما ليس في سعتها العلمية، ولا يعرض على الإنسان إلا العقائد التي في وسعه أن يفهمها.. ذلك لكيلا تكون أوامره من قبيل التكليف بما لا يطاق. وتشير كلتا الآيتين أيضا إلى أن الإنسان بإمكانه أن يتلقى علم اليقين بواسطة سمعه أيضا. مثلا إننا لم نزر لندن، وإنما سمعنا من زوارها بأنها مدينة من المدن، ومع ذلك هل نستطيع أن نشك في وجودها ظانين: لعل هؤلاء جميعا يكذبون؟ ولم ندرك زمن السلطان “عالمكير” ولم نر صورته، ومع ذلك هل حامَ لدينا الشك أبدا في كون عالمكير أحد سلاطين “الجغتائين” (المغول). فكيف حصل لنا إذن هذا اليقين؟ الجواب: بطريق السماع المتواتر فقط. فلا مراء في أن السماع أيضا يوصل الإنسان إلى مرتبة علم اليقين”. (فلسفة تعاليم الإسلام، ص 128-129)
“وإننا نعتبر حكم الوجدان بمنـزلة علم اليقين.. لأنه – وإن كان لا يبدو في ظاهره الانتقالُ من علم إلى آخر كانتقال العلم بالدخان إلى العلم بوجود النار – إلا أنه في الحقيقة لا يخلو أيضًا من انتقال دقيق على نحو ما. وبيان ذلك أن الله قد أودع كلَّ شيء خاصيةً مجهولة، لا يمكن أن يحيط بها الوصف والبيان، ولكن إذا نظر الإنسان إلى شيء أو تصوَّره.. انتقل الذهن فورًا إلى تلك الخاصية الموجودة فيه لما بينهما من تلازم شديد.. فتلك الخاصية تستلزم ذلك الشيءَ كما تستلزم النارُ الدخانَ. فمثلا عندما نتدبر في ذات الله تعالى، ونفكر كيف يجب أن يكون.. أينبغي أن يكون مولودًا كمثلنا، ويقاسي الآلام كمثلنا، ويموت كما نموت؟ ما أن يعِنُّ لنا هذا التصورُ عن الله تعالى إلا وتتألم منه قلوبنا امتعاضًا، ويشمئز منه الوجدان ويثور عليه وكأنه يدفع هذا التصور دفعًا عنيفا.. وينادي قائلًا: إن الإله الذي على قدراته مدارُ جميع آمالنا، يجب أن يكون منـزّها عن العيوب والنقائص كلها، وكاملا وقويا. ما أن يمر بخاطرنا فكرة الإله إلا ونشعر بوجود تلازمٍ كاملٍ بين الله والوحدانيةِ تلازُمَ النار والدخان أو أشدّ منه. وهكذا فإن العلم الحاصل لنا بطريق الوجدان يدخل أيضا في عداد علم اليقين. أما العالم الثاني فعِلمنا بغيبياته لا يبلغ درجةَ عين اليقين إلا إذا تشرفنا بالوحي مباشرة بلا واسطة.. وسمعنا كلامَ الله بآذاننا.. وشاهدنا الكشوف الإلهية الواضحة الصحيحة بأم أعيننا. إننا، ولا ريب، بحاجة إلى الوحي الرباني المباشر حتى نكتسب العرفان الكامل. وفعلًا نجد في أنفسنا ظمأً وجوعًا لهذا العرفان الكامل. فلو لم يكن الله قد هيَّأ لهذه المعرفة أسبابها من قبل.. لما كان سبحانه قد أوجد فينا جوعَها وظمأها هذا. هل يكفينا في حياتنا هذه – التي هي المقياس الوحيد لذخيرتنا الأخروية – بأن نؤمن بذلك الإله الحق الكامل القادر الحيِّ.. إيمانًا لا يتجاوز الأقاصيص والحكايات فقط؟ أو أن نكتفي بمجرد المعرفة العقلية التي لم تزل حتى الآن معرفةً ناقصة غير كاملة؟ أولا يود العاشقون الصادقون.. الذين خَلَبَ حَبُّ الله قلوبهم.. أن يتمتعوا بكلام ذلك الحبيب؟ هل يمكن لأولئك الذين أضاعوا دنياهم كلها، وضحوا بنفوسهم، وفدَوا بقلوبهم.. أن يقتنعوا بالموت واقفين في ضوء ضئيل، ولا يتمكنوا من رؤية طلعة شمس الحق تلك؟ أو ليس حقًّا أن نداء ذلك الإله الحي قائلا “أنا الموجود”.. يمنح من العرفان درجة سامية، بحيث لو وضعنا نداء “أنا الموجود” في كفّةٍ.. ووضعنا في كفة أخرى ما ألّفه فلاسفة الدنيا بأجمعهم في كتبهم من عند أنفسهم.. لم يبق لكتبهم وزن ولا قيمة أمام ذلك النداء؟ ما عسى أن يعلِّمنا مَن لم يزالوا عميانا رغم اعتبارهم فلاسفة؟
إذن فما دام الله قد أراد أن يهب لطلاب الحق العرفانَ الكامل.. فلا بد أن يكون سبحانه وتعالى قد ترك لهم باب المكالمة والمخاطبة مفتوحا أيضا. قال الله جل شأنه في القرآن الكريم في هذا الشأن: (اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم). والمراد بالإنعام هنا الإلهام والكشف وما شابههما من العلوم السماوية التي يُعطاها الإنسان مباشرة من لدن الله تعالى”. (فلسفة تعاليم الإسلام، ص 131-133)
وسيلة العلم الكامل
“إن وسيلة العلم الكامل التي بها نشاهد الله تعالى، وإن الماءَ المطهِّر من الأدران الذي تزول به جميع الشكوك، وإن المِرآة الصافية التي تُري طلعةَ الإله العلي.. إنما هي المكالمة الإلهية التي ذكرتُها آنفا…. لا أحد يستطيع أن ينازع اللهَ في مشيئته وإرادته. فاعلموا يقينا أن وسيلة العرفان الكامل هي الوحي الرباني.. الذي أوتيه أنبياء الله الأطهار.. ثم من بعدهم لم يُرِد الله -وهو بحر الفيوض- أن يوصد بابَ الوحي في المستقبل فيُهلك العالمَ، بل إن أبواب وحيه ومكالمته سبحانه لمفتوحة للأبد. فقط عليكم أن تلتمسوها من سُبلها وسوف تجدونها عندئذ بسهولة”. (فلسفة تعاليم الإسلام، ص 139-140)
“والوسيلة الثالثة للعلم هي تلك الأمور التي هي على مرتبة حق اليقين، وهي كل ما يصيب أنبياءَ الله والصالحين من شدائد ومصائب وآلام، على أيدي الأعداء، أو بحكم القضاء والقدر من السماء. إن تعاليم الشريعة تكون في نفس الإنسان مجردَ معلوماتٍ نظرية قبل أن تعركه شدة المصائب والآلام، ولكن بوقوعها تتحول هذه التعاليمُ إلى أعمال، وتنشأ وتنمو في تربة العمل حتى تصل إلى الكمال، فإذا نفوس العاملين قد صارت نسخة كاملة من الشريعة الإلهية، وبسبب الممارسة العملية يأخذ كل عضو من أعضائهم نصيبَه من جميع الأخلاق: من عفو وانتقام وصبر ورحمة وغيرها.. وقد كانت من قبل حشوًا في الدماغ والقلب؛ وهكذا تنعكس على الجسم كله وتترك فيه نقوشَها.. كما يقول الله جل شأنه: (ولَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيء مِنَ الخَوْفِ وَالجوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوال وَالأنفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصاّبرِينَ. الذِينَ إِذَا أَصابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. أُوْلئِكَ عَلَيْهِم صَلَواتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحمَةٌ وَأُوْلئِكَ هُمُ المهْتَدُونَ)، ويقول: (لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ).. أي من المؤكد أننا سوف نختبركم بالخوف والفاقة والخسارة في الأموال والنفوس وضياع الجهود وموت الأولاد.. يعني أن كل هذه المصائب سوف تصيبكم إما بيد القدر أو بيد الأعداء. فطوبى لمن لا يقولون عند حلول المصيبة إلا “إننا مِلك لله وإنا إليه راجعون”. فعلى هؤلاء رحمة الله وصلاة منه، وهؤلاء هم الذين قد بلغوا ذروة الهدى.
بمعنى أنه ليس الفضل والشرف بمجرد اكتساب العلم الذي يكون حشوًا في الدماغ والقلب، بل إن العلم – في الحقيقة- هو ذاك الذي يسري من الذهن إلى الأعضاء كلها، فتصطبغ بصبغته، وتتأدب بأدبه، ويتحول ما حوته الذاكرة من معلومات إلى قالب الأعمال.
فإن أعظم الوسائل لإتقان العلم وإنمائه أن ترسَم نقوشه في الأعضاء بالممارسة العملية.. إذ لا يبلغ أي علم من العلوم – مهما كان بسيطا- الكمالَ بدون تدريب عليه. فمثلًا نعلم من طول ما شاهدناه أن صناعة الخبز أمر سهل جدًا لا يتطلب دِقةً كبيرة. فكل ما هنالك أن يُعجَن الدقيق، ويُقطع العجين قطعا بقدر رغيف، ثم يُبسط باليد، ثم يوضع على اللوح، ويسوّى على الجمر فإذا هو خبز. هذا هو مبلغ علمنا الذي لا يقوم على التجربة. وأما إذا بدأنا نخبز بدون تجربة سابقة.. فأول مشكلة نواجهها في ذلك هي المحافظة على قوام مناسب للعجين.. لأنه إما أن يتصلب كثيرا وإما أن يلين كثيرا ويسترخي فلا يصلح للرَّغْف. ولو أمكننا أن نعجنه بعد طول مشقة، نجد أن ما خبزناه من أرغفة قد جاء بعضها محترقا، وبعضها غير ناضج، وفي وسطه كتل، وقد تهدل من جوانبه في شكل غير منتظم.. مع أننا قد شاهدنا صنعَ الخبز منذ خمسين سنة. وهكذا نكون قد أضعنا بضعة أرطال من الطحين بسبب العلم النظري الذي لم يقترن بالتمرين.
فما دام هذا هو مصير علمنا في الأمور التافهة.. تُرى كيف يمكن أن نعتمد في عظائم الأمور على مجرد المعرفة السطحية التي لا يصاحبها التمرن والمزاولة العملية؟
لقد علّمنا الله في هذه الآية أن ما يصيبنا به من صنوف الآلام والبلايا.. إنما هو وسيلة لكسب العلم والتجربة.. أي أن علمنا يبلغ الكمالَ بسببها. ثم قال سبحانه وتعالى أنكم سوف تُختبرون في أموالكم وأنفسكم. سوف يسلبكم الناس أموالكم ويقتلونكم، وسوف تتحملون أذىً شديدا بأيدي اليهود والنصارى والمشركين، وسوف يأتون بأقوال تؤذيكم. فإن صبرتم عليها وتجنبتم ما لا يليق فذلك عمل يدل على الهمة والشجاعة منكم.
وخلاصة هذه الآيات أن العلم المبارك هو ما يتجلى أثره من خلال العمل، وأن العلم المشؤوم هو ما ينحصر في النظرية ولا يتجاوز إلى العمل أبدًا.
واعلموا أنه كما يربو المال ويثمر بالتجارة.. كذلك يبلغ العلم كمالَه الروحاني بالمزاولة العملية. فالتطبيق العملي وسيلة عظيمة لبلوغ العلم إلى الكمال، لأنه يُكسِب العلم نورًا. كيف يرتقي العلم إلى درجة حق اليقين؟ إنما سبيله أن يُختبر العلم من كل الوجوه اختبارًا عمليا. وهذا ما حدث بالضبط في الإسلام. فإن كل ما علّم الله الناسَ بالقرآن المجيد من تعليم، فقد أتاح لهم فرصًا لكي يصقلوه بالممارسة العملية، ويمتلئوا من نوره”. (فلسفة تعاليم الإسلام، ص141-143)
“إن وسيلة العلم الكامل التي بها نشاهد الله تعالى، وإن الماءَ المطهِّر من الأدران الذي تزول به جميع الشكوك، وإن المِرآة الصافية التي تُري طلعةَ الإله العلي.. إنما هي المكالمة الإلهية التي ذكرتُها آنفا. فلينهضْ وليطلبْها من كان في روحه شوق للحق. الحق والحق أقول: لو تولَّد في الأرواح رغبةٌ صادقه، وفي القلوب ظمأ حقيقي، لبَحثَ الناس عن هذا الطريق، وسعوا للعثور عليه.
ولكن كيف يُفتح ذاك الطريق، وأنّى يُرفَع ذاك الحجاب؟ إنني لأؤكد للطالبين جميعا أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يبشر بهذا الصراط.. وأما الأمم الأخرى فقد خَتمتْ على وحي الله من زمان بعيد. واعلموا يقينا أن خَتْمَهم المزعوم هذا ليس من الله الرحمان، وإنما هو عذر انتحله الإنسان عند الحرمان. واعلموا يقينا أنه كما لا يمكن لنا أن نرى بغير العيون، أو أن نسمع بدون الآذان، أو أن ننطق بغير اللسان.. كذلك من المستحيل أن نرى وجه ذلك الحبيب الودود بدون القرآن. كنتُ شابًا وقد صرتُ الآن شيخا، ولكن لم أجِد أحدًا شرِب كأسَ هذه المعرفة البيِّنة.. بدون هذه العين الصافية”. (فلسفة تعاليم الإسلام، ص 139)
الوحي والكشوف ومراتب اليقين
“الرزق الذي هو مُرادُ رجالٍ أُولي التقوى إنما هو فيوض الغيب من الكشف والإلهام والمخاطبات، ليبلغوا مراتب اليقين كلها، ويدخلوا في عباد الله العارفين. فقد وعد الله لهم وقال: (وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)”. (حمامة البشرى، ص 167)
“ومعلوم أن من أنواع الهداية كشفٌ وإلهام ورؤيا صالحة ومكالمات ومخاطبات وتحديث لينكشف بها غوامض القرآن ويزداد اليقين، بل لا معنى للإنعام من غير هذه الفيوض السماوية، فإنها أصل المقاصد للسالكين الذين يريدون أن تنكشف عليهم دقائق المعرفة، ويعرفوا ربهم في هذه الدنيا، ويزدادوا حُبًّا وإيمانا، ويصِلوا محبوبهم متبتّلين. فلأجل ذلك.. حثَّ الله عبادَه على أن يطلبوا هذا الإنعام من حضرته، فإنه كان عليما بما في قلوبهم من عطش الوصال واليقين والمعرفة، فرحِمهم وأمدّ كلَّ معرفة للطالبين، ثم أمرهم ليطلبوها في الصباح والمساء والليل والنهار، وما أمرهم إلا بعدما رضي بإعطاء هذه النعماء، بل بعدما قدّر لهم أن يُرزَقوا منها، وبعدما جعلهم ورثاء الأنبياء الذين أُوتوا مِن قبلهم كلَّ نعمة الهداية على طريق الأصالة. فانظر كيف منَّ الله علينا.. وأمَرنا في أمّ الكتاب لنطلب فيه هدايات الأنبياء كلها، ليكشف علينا كل ما كشف عليهم، ولكن بالاتّباع والظلّية، وعلى قدرِ ظروف الاستعدادت والهمم. فكيف نردّ نعمة الله التي أُعِدّت لنا إن كنّا طُلباء الهداية؟ وكيف نُنكرها بعدما أُخبرنا عن أصدق الصادقين؟” (حمامة البشرى، ص 168-169)
“أَلا يا عباد الله الطالبين إياه اسمعوا وعوا! إن اليقين لا يماثله شيء، إن اليقين وحده يخلِّص الإنسان من ربقة الذنوب، وإنه اليقين الذي يمنح القدرة على فعل الخيرات، وإنه اليقين الذي يجعل العبد عاشقًا صادقًا لله. أترون أنه بمقدوركم أن تهجروا الإثم بغير اليقين؟ أم أنه بمستطاعكم أن تنقذوا أنفسكم من نزعاتها بدون التجلي اليقيني؟ أم هل تستطيعون أن تنالوا أية طمأنينة بغير اليقين؟ أو تستطيعون بغير اليقين أن تُحدِثوا أي تغير حقيقي؟ وهل بإمكانكم أن تحصلوا على فرح حقيقي بغير اليقين؟ هل ثمة تحت السماء كفارة أو فدية تقدر على أن تمكِّنكم من ترك الذنوب؟… لذلك تذكّروا أنكم لا تستطيعون الانسلاخ من الحياة المظلمة بغير اليقين ولا يمْكنكم أن تظفروا بروح القدس. فمباركون أوّلئك الذين يحظون باليقين فإنهم هم الذين سَيَرَون ربّهم. ومباركون مَن تخلَّصوا من الشكوك والشبهات فإنهم هم الذين سيَنْجون من الذنوب. ومباركون أنتم إذا أوتيتم ثروة اليقين، فستكون من بعده خاتمة ذنوبكم. إِن الإثم واليقين لا يمكن أن يجتمعا أبدًا. أفيمكن أن تدسّوا أيديكم في جحْر ترون في داخله حيَّةً سامَّة جدًا؟ أم هل تستطيعون الوقوف حيث يُمطر البركان أحجارًا أو حيث الصواعق متساقطة أو حيث يهاجم الأسد الضاري بالتكرار؟ أو في مكانٍ يحصد فيه الطاعون الجارف نسل الإنسان حصدا؟ فإن كنتم توقنون بالله إيقانكم بالحيَّة أو الصاعقة أو الأسد أو الطاعون فليس بالإمكان أبدًا أن تقابلوه بالعصيان وتختاروا سبيل العقاب، أو أن تقطعوا عنه صلة الصدق والوفاء”. (سفينة نوح، الخزائن الروحانية مجلد 19 ص66-67)
“المعرفة التامّة هي جذر الخوف والحب والتقدير. فكلّ من أعطِي المعرفة التّامة فقد أُعطي الخشية والحب الكاملين أيضًا. وكلّ من أُعطي الخشية الكاملة والحب التامّ فقد نُجِّي من ذنب ينشأ عن جسارة. نحن لا نعتمد لتحقيق هذا الخلاص على أيّ دم، ولا نحتاج إلى أيّ صليب ولا أية كفّارة، بل فنحن بحاجة إلى تضحية واحدة، ألا وهي التضحية بالنفس التي تشعر فطرتنا بالحاجة إليها. وهذه التضحية تُدعى بتعبير آخر “الإسلام”. والإسلام يعني تسليم العنق للذبح. أي أن تضعوا أرواحكم على عتبة الله برغبة كاملة. إنَّ هذا الاسم الجميل هو روح جميع الشرائع السماوية وجذر التعاليم ونواتها. إن تسليم المرء عنقَه للذبح برضى وقناعة حقيقيين يتطلب حبًّا تامًا ومعرفة تامة. وهكذا فإنّ كلمة الإسلام تُشير إلى أنّ التضحية الحقيقية تحتاج إلى معرفة كاملة وحبّ كامل ولا تحتاج إلى شيء آخر”. (ليكجر (محاضرة) لاهور، الخزائن الروحانية مجلد 20، ص 151-152)
“وأمّا دين عيسى فما هو إلا كشجرة اجْتثّتْ من الأرض، وأزالت الصراصر قرارها، ثم اللصوص ما أبقَوا آثارها. وليس في دينهم إلا قصص منقولة، ومن المشاهدات معزولة. ومن المعلوم أن القصص المجرّدة لا تهب اليقين، وليس فيها قوّة تجذب إلى ربّ العالمين. وإنما الجذب في الآيات المشهودة، والكرامات الموجودة، وبها تتبدّل القلوب، وتزكّى النفوس وتزول العيوب، فهي مختصّ بالإسلام، واتّباع نبيّنا خير الأنام، وإنا على هذا من الشاهدين، بل من أهلها ومن المجرّبين، ونتمّ بها الحجّة على المنكرين. وأيّ شيءٍ الدينُ الذي كان كدارٍ عفَتْ آثارها، أو كروضةٍ أُجيحت أشجارها؟ ولا يرضى العاقل بدينٍ كان كدارٍ خربتْ، أو كعصا انكسرتْ، أو كامْرأة عقَرتْ، أو كعين عميتْ”. (الاستفتاء، ص 30-31)