يقول المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام:
“الصَلْيُ (الذي اشتُقّ منه لفظ الصلاة) يعني الحرق والشيّ، لذا فلا بد في الصلاة مِن حُرقةٍ تَشْوِي كما يُشوَى الكباب. فلا تتولد المتعة واللذة في الصلاة من دون حرقة القلب والتياعه. والحق أن الصلاة لا تصبح صلاة حقًّا إلا بهذه الكيفية. إن من شروط الصلاة أداءها بجميع لوازمها، أما من دون ذلك فإنها ليست صلاةً أصلًا، كما لا تتيسر فيها تلك الكيفية التي تجعلها مَعْلَمًا في السير الروحاني.
اعلموا أنه لا بد من اجتماع القال والحال في الصلاة، ذلك لأن الإعلام يكون بالصورة أحيانًا، حيث يُرَى المرءُ صورةً فيعرف بها قصد صاحبه. لأن المصلي كما يردد بلسانه بعض الكلمات، كذلك يرمز بحركات أعضائه وجوارحه إلى أمرٍ. وحالة المصلي حين يحمد الله ويسبحه واقفًا تسمى قيامًا، ومعروف لدى الجميع أن القيام أنسبُ وضعٍ للحمد والثناء، ألا ترى أن الشعراء يُلقون قصائدهم أمام الملوك قائمين؟ فإن الله تعالى قد فرض في الصلاة قياما ظاهريًّا من جهة، ومن جهة أخرى أمَر بالحمد والثناء عليه باللسان أثناء القيام، وإنما الغاية منه أن يقوم المصلي أمام الله تعالى قيامًا روحانيًا أيضًا. ومن المعروف أن الحمد يتم بعد الاقتناع بشيء، فحين يحمد المرء أحدا مصدِّقا إياه فلا يفعل ذلك إلا إذا كان ثابتا على موقف معين منه، لذلك فلا يكون أحد صادقًا في قوله (الحمد لله) إلا إذا أيقن تمامًا أن أنواع المحامد كلها لله تعالى وحده. فإيقانه بذلك بقلب منشرح هو القيام الروحاني، لأن القلب أصبح ثابتًا على هذا الأمر، فيُعَدّ المصلي قائمًا في الحقيقة ويتيسر له القيام الروحاني.
ثم في حالة الركوع يقول المصلي: “سبحان ربي العظيم“. ومعلوم أن المرء إذا اقتنع بعظمة أحد خضع له، فإن عظمة الله تعالى تقتضي من المصلي الركوع، ولذلك يقول “سبحان ربي العظيم” بلسانه كما يركع بجسده، ليتفق حاله مع قوله.
والجملة الثالثة هي “سبحانَ رَبِّيَ الأعلى“. وكلمة “الأعلى” هي على صيغة التفضيلِ أفعَلُ، وهذا في حد ذاته يقتضي السجود، ولذلك لا يلبث المصلي أن يخر ساجدًا لتتوافق صورته الظاهرة مع قوله، فيتلاءم وضعُه مع إقراره.
فمقابل اعترافاته الثلاثة هناك أوضاع جسمانية ثلاثة تقدِّم أمامه صورة ذات مغزى. فيقوم بهذه الحركات الثلاث كلها، التي يشترك فيها لسانه أيضًا الذي هو عضو من جسده، فيقرّ اللسان أيضا ويشترك مع الجسم في إقراره الظاهري. ولكن هناك شيء ثالث، إذا لم يشترك معهما فلا صلاة له. وما هو ذلك الشيء؟ ألا إنه القلب. ولذلك لا بد لقلب المصلي من قيام، حتى إذا نظر الله تعالى إلى قلبه وجد أن جسمه ليس قائمًا وحده أمامه تعالى، وليس لسانه وحده يحمده تعالى، بل إن قلبه أيضًا يحمده قائمًا وأن روحه أيضًا تحمده قائمةً. وحينما يقول المصلي: “سبحان ربي العظيم” فينبغي ألا يكتفي بإقرار لسانه بعظمة الله وركوع جسده فحسب، بل ينبغي أن تركع معه روحه أيضًا. ثم في المرحلة الثالثة عندما يخرّ ساجدًا برؤية علوّ شأنه ﷻ، فعليه أن يتأكد أن روحه أيضًا ساجدة على العتبة الإلهية. فعليه ألا يطمئن ما لم تتيسر له هذه الحالة في الصلاة، لأن هذا هو معنى إقامة الصلاة في قوله تعالى (ويقيمون الصلاة).
“ولو قيل: كيف تتيسر هذه الحالة؟ فإنما جواب ذلك أن على المرء أن يداوم على الصلاة ولا يضيق ذرعًا من هجوم الوساوس والشبهات، إذ لا بد له في البداية من خوض حرب ضد الشكوك والشبهات، وليس علاج ذلك إلا الدوام على الصلاة بثبات وصبر لا ينفدان، والاستمرار في الدعاء والابتهال أمام الله تعالى، وعندها سوف تتيسر له تلك الحالة التي قد وصفتُها آنفًا.” (جريدة “الحكم” مجلد 5 رقم 14 17 إبريل 1901م ص 1)