يقول المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام:
“إن المعاني المقبولة للإسلام اصطلاحا هي ما أشير إليه في الآية الكريمة: {بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} بمعنى أن المسلم من يُسلِم كل كيانه في سبيل الله تعالى، أي أنه يكرس نفسه وينذرها لله تعالى ولاتباع مشيئته والفوز برضاه؛ ثم يقوم بالأعمال الصالحة لوجهه تعالى، ويبذل في سبيله جميع طاقاته وقدراته، أي أنه يصبح لله تعالى فحسب، اعتقادًا وعملاً.
فاعتقادا هو يعتبر كل كيانه شيئًا خُلق لمعرفة الله تعالى وطاعته ولنيل محبته ولكسب رضاه. أما عمليا فهو يقوم بالأعمال الصالحة بكل ما أعطي من الله من قوة وقدرات، خالصة لوجه الله تعالى، بكل اندفاع وحماس واستغراق وكأنه يرى وجهَ معبوده الحقيقي في مرآة طاعته….
والآن بإمكان كل ذي عقل سليم أن يفهم، على ضوء هذه الآية الكريمة، أن حقيقة الإسلام وجوهره لا تتجذر في أحد إلا حينما يكرّس نفسه لله ويقفها في سبيله تعالى بكل قواه الباطنة والظاهرة؛ ويردّ تلك الأمانات التي وُهبت له من الله إلى الله سبحانه وتعالى الذي هو المعطي الحقيقي عز وجل؛ ويُظهر إسلامه بصورة حقيقية كاملة من خلال مرآة عمله لا بمجرد اعتقاد دون عمل؛ أي أن الشخص المدعي بالإسلام يثبت أن يديه ورجليه، وقلبه وذهنه، وعقله وفهمه، وغضبه ورحمته، وحلمه وعلمه، وجميع قواه الروحانية والجسدية، وشرفه وماله، وراحته وسروره، وكل ما يملك من قمة رأسه إلى أخمص قدمه ظاهرًا وباطنًا، حتى إن نياته وخواطر قلبه وعواطف نفسه كلها قد أصبحت خاضعة لإرادة الله تعالى كما تكون أعضاء الإنسان تابعة له وتحت سيطرته. وخلاصة القول، يجب عليه أن يُثبت أن نقاء سريرته وصدق أعماله قد بلغ درجة بحيث إن كل ما كان له لم يعد له الآن، بل أصبح لله تعالى، وأن تنخرط كل جوارحه وقواه في سلك الخدمة الإلهية وكأنها جوارح الحق عز وجل.. أي أن يصبح اللهُ سمعَ الإنسان الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطش بها، ورجلَه التي يمشي بها، كما جاء في الحديث الشريف.
ويتضح جليًا من خلال التدبر في هذه الآية أن نَذْر الحياة في سبيل الله – وهو حقيقة الإسلام وجوهره – إنما يتحقق بالقيام بأمرين، أحدهما أن يتخذ الإنسانُ اللهَ تعالى وحده معبودًا ومقصودًا ومحبوبًا له، وألا يُشرك أحدا في عبادته ومحبته له، وخوفه ورجائه منه، وأن يقبل بطيب الخاطر آدابَ تقديسه وتسبيحه وعبادته وعبوديته، وأحكامه وأوامره وحدوده وقضائه وقدره السماويَّين؛ وأن يقبل جميع هذه الأحكام والحدود والقوانين والأقدار بكامل التفاني والتذلل والإرادة…
والأمر الثاني هو أن يكرس حياته لخدمة عباده ومواساتهم ومساندتهم وحمل أثقالهم ومشاطرتهم أحزانهم، وأن يتحمل الأذى من أجل الآخرين، وأن يرضى بالآلام لنفسه من أجل راحتهم…
إذًا فلا يقال لأحد مسلمٌ حقيقة إلا إذا حدث في حياته الغافلة انقلابٌ عظيم تتلاشى معه جميع نقوش نفسه الأمارة بكل ثوائرها. فبعد هذا الموت تسري فيه حياة جديدة ليصبح تقيا نقيا محسنًا لوجه لله، وتكون هذه الحياة طاهرة لدرجة لا يملؤها سوى طاعة الخالق ومواساة الخلق.
أما طاعة الخالق، فأنْ يكون مستعدًّا لقبول كل إهانة ومذلة لإظهار عزة الله وجلاله ووحدانيته، وأن يكون جاهزًا لقبول الموت ألف مرة لرفع راية وحدانيته عز وجل. وأن يطيعه لدرجة يكون فيها مستعدا أن تَقطَع إحدى يديه يدَه الأخرى بطيب خاطر إذا أراد الله ذلك. وأن يجعله الحب لعظمة أحكامه عز وجل والعطش لنيل رضاه يتنفّر من الإثم وكأنه نار ملتهمة أو سمّ فتاك أو صاعقة محرقة تستدعي الهروب منها بكل قواه…
أما خدمة خلق الله، فهي أن يقوم العبد بكل ما ينفع الخلق… ويمد يد العون إلى كل محتاج بكل الطاقات الموهوبة له من الله تعالى، وأن يجاهد في سبيل إصلاح أحوالهم في أمور الدنيا والآخرة.
إن هذه الطاعة العظيمة لله تعالى والخدمة العمَلية الممزوجة بالألفة والمحبة التي تفيض بالإخلاص والحنيفية التامة لهي الإسلام وحقيقته وجوهره ولبّه الذي لا يُنال إلا بعد القضاء على الأنانية وخوف المخلوق والطمع والهوى والإرادة.” (مرآة كمالات الإسلام، الخزائن الروحانية ج5 ص60- 62)
يمكن تحميل الكتاب من هنا