البيعة وتأسيس الجماعة
“… أودّ هنا تبليغَ رسالة أخرى إلى خلق الله عمومًا وإلى إخواني المسلمين خصوصًا بأني قد أُمرت بأن آخذ البيعة من الذين يبحثون عن الحق لكي يهتدوا إلى صراط الإيمان الحقيقي والطهارة الحقيقية والحب الإلهي، ولكي يتخلصوا من حياة النجاسة والكسل والخيانة. فالذين يجدون في أنفسهم شيئًا من القدرة على ذلك لا بد لهم أن يتوجهوا إلي، فإني سأواسيهم وسأسعى جاهدًا لأن أضع عنهم إصرهم، وسيبارك الله تعالى لهم في دعائي وعنايتي بهم، شريطة أن يكونوا مستعدين بالقلب والروح للعمل بالشروط الربانية. هذا حُكمٌ رباني قد بلّغتُه اليوم، وها هو الوحيُ العربي الذي تلقيته بهذا الصدد: “إذا عزمتَ فتوكلْ على الله. واصنعِ الفُلك بأعيننا ووحينا. الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يدُ الله فوق أيديهم”. والسلام على من اتبع الهدى.
المبلّغ: العبد المتواضع غلام أحمد عُفي عنه
1 ديسمبر/كانون الأول 1888م”
(الإعلان الأخضر، الخزائن الروحانية المجلد 2 ص 470)
حقيقة البيعة
“إن نظام البيعة لا يهدف إلا إلى تكوين جماعة من المتقين، لكي تترك هذه الجماعة المتألفة من المتقين على الدنيا تأثيرها الحسن. ولكي يكون اجتماعهم مدعاة للخير والبركة والعاقبة الحسنة للإسلام. ولكي يستخدموا لأداء الخدمات النبيلة للإسلام ببركة إجماعهم على كلمة واحدة، ولكي لا يكونوا مسلمين كسالى وبخلاء لا فائدة منهم، ولا مثل هؤلاء الجهال الذين ألحقوا بالإسلام أضرارا فادحة بسبب تفرقتهم وتشتتهم، ووصموا وجهه الجميل بسبب تصرفاتهم الفاسقة. ولا مثل النساك الغافلين والمنطوين على أنفسهم الذين لا يعرفون شيئا عن حاجات الإسلام، ولا يهتمون بمؤاساة إخوانهم شيئا، ولا يجدون في أنفسهم أدنى حماس لإيصال الخير إلى الناس. بل يجب عليهم أن يكونوا متعاطفين للأمة حتى يصبحوا ملاذا للفقراء، ولليتامى كالآباء ويظلوا جاهزين للتضحية في سبيل خدمة الإسلام مثل العاشق المشغوف. ويبذلوا قصارى جهودهم أن تنتشر بركاتهم العميمة في الدنيا وينفجر الينبوع الطاهر لحب الله ومؤاساة عباده من كل قلب، ثم يتمركز في مكان واحد ويتراءى مثل البحر الزاخر. لقد أراد الله ﷻ أن يجعل بفضله البحت ورحمته المحضة من أدعية هذا العبد الضعيف وتوجهاتي المتواضعة وسيلة لظهور قدراتهم الطيبة. ولقد وهبني ذلك القدوس ﷻ حماسا مفرطا لأربي هؤلاء الباحثين تربية روحانية، وأن أسعى ليل نهار لإزالة أوساخهم، ولأبحث لهم عن نور يتحرر الإنسان بسببه من عبودية النفس وعبودية الشيطان، فيشرع في حب سبل الله تعالى بطبيعته. وأن أطلب لهم روح القدس التي تتولد عند اجتماع الربوبية الكاملة والعبودية الخالصة. وأن أتحرى لهم النجاة من الروح الخبيثة التي تنجم عن علاقة قوية بين النفس الأمارة والشيطان. فبتوفيق من الله تعالى لن أتكاسل ولن أتوانى ولن أغفل أمر تحري إصلاح الأصدقاء الذين اختاروا الانضمام إلى هذه الجماعة بصدق طويتهم، بل لن أخشى الموت من أجل حياتهم. ولسوف أطلب لهم من الله تعالى قوة روحية يجري تأثيرها في كل ذرة من وجودهم مثل التيار الكهربائي. وإنني على ثقة بأن هذا ما سوف يحصل بالضبط للذين ينتظرون بالصبر والمثابرة بعد انضمامهم إلى هذه الجماعة، لأن الله تعالى قد أراد أن يخلق هذه الجماعة ثم يهبها تقدما ليظهر جلاله ويري قدرته لكي ينشر في الدنيا حب الله تعالى والتوبة النصوح والطهارة والبر الحقيقي والأمن والصلاحية ومؤاساة البشر. فهذه الجماعة ستكون جماعته المختارة التي سوف يهبها القوة بروحه الخاصة ويطهرهم من الحياة القذرة، وسوف يحدث تغييرا طيبا في حياتهم. وكما أنه ﷻ قد وعد في أنبائه المقدسة فإنه سوف يجعل هذه الجماعة تزدهر، ويدخل فيها ألوفا من الصلحاء. إنه تعالى سوف يرويها بنفسه ويكتب لها الازدهار حتى إن كثرتها وبركتها سوف تبدو غريبة للأعين. وسوف ينشرون ضوءهم إلى جميع أرجاء المعمورة مثل المصباح الموضوع في المكان المرتفع، وسيكونون نموذجا للبركات الإسلامية. إنه Y سوف يهب للأتباع الكاملين غلبة على الفئات الأخرى كلها في مجال كل نوع من البركات، ولسوف يكون في هذه الجماعة إلى يوم القيامة أناس يوهبون القبول والنصرة. هذا ما أراد الله الرب الجليل، إنه لقادر يفعل ما يريد، له القوة وله القدرة. فالحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا أسلمنا له، هو مولانا في الدنيا والآخرة، نعم المولى ونعم النصير“. (إزالة أوهام، الخزائن الروحانية مجلد 3 ص 561 – 563)
“إن الله يريد أن يجذب إلى التوحيد جميع الأرواح ذوي الفطرة الصالحة من مختلف أقطار المعمورة، سواء كانوا من أوروبا أو آسيا، وأن يجمع عباده على دين واحد. هذه هي غاية الله ﷻ التي أُرسِلتُ من أجلها“. (الوصية، ص 7)
“كان الصحابة يبايعون على تضحية الأنفس. إننا نأخذ البيعة بأمر من الله، حيث سجّلنا في الإعلان المطبوع أيضا الوحي التالي: “إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله“. (الملفوظات مجلد 2 ص 295)
“كل من يبايع على يدي يجب أن يعلم ما هو الهدف من بيعته؟ هل يبايع للدنيا أو لرضا الله تعالى؟ هناك كثير من الأشقياء الذين تكون الدنيا وحدها غايتهم المنشودة من البيعة، ولا يحدث فيهم أي تغير إثر البيعة، ولا يتولد فيهم نور المعرفة واليقين الحقيقي اللذان هما نتاج البيعة الحقيقية وثمارها، ولا تصفو أعمالهم ولا تتحسن. ولا يتقدمون في الحسنات، ولا يتجنبون من الذنوب. فمثل هؤلاء الناس الذين يجعلون الدنيا غايتهم الوحيدة يجب أن يتذكروا أن الدنيا فانية ثم العودة إلى الله ﷻ. فهذه الحياة الفانية سوف تنقضي في كل حال، سواءً في العسر أو في اليسر، ولكن أمر الآخرة خطير جدًا. إنها دار الخلود، ولا تنقطع. فإذا انتقل الإنسان إلى تلك الدار بحيث تكون معاملته مع الله تعالى نزيهةً صافية وكانت خشيته مسيطرةً على قلبه، وتجنّب – بعد التوبة من المعاصي – من كل الذنوب التي سماها الله تعالى ذنوبًا، عندها سيأخذ الله تعالى بيده رحمةً منه وفضلًا، وسيحظى هذا الشخص بمكانة حيث يكون الله تعالى راضيًا عنه وهو راضٍ عنه ﷻ. ولو لم يفعل ذلك بل قضى حياته في حالة الغفلة لكانت عاقبته وخيمة.
لذا يجب أن يؤخذ القرار عند البيعة، ويرى المبايع ما هو المقصود من البيعة وماذا تكون الفائدة منها؟ فإذا كانت البيعة للدنيا فلا طائل من ورائها. أما لو كانت للدين ولرضى الله تعالى لكانت مباركة ومصحوبة بالهدف والغاية الحقيقية منها، وتُتوقع منها تلك الفوائد والمنافع التي تُنال إثر البيعة الصادقة. مثل هذه البيعة تعود على الإنسان بفائدتين كبيرتين:
أولا: إنه يتوب من ذنوبه، والتوبة الحقيقية تجعل الإنسان محبوبًا لدى الله تعالى، وبسببها يوفَّق الإنسانُ للتقوى والطهارة، كما وعد الله تعالى في القرآن الكريم في قوله: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين).. أي أن الله تعالى يحب الذين يقومون بالتوبة ويتطهرون مما يدفع إلى الذنوب من أهواء. الحق أن التوبة لو تمت بحسب مقتضياتها الحقيقية لبُذرت في الإنسان لتوِّها بذرةُ الطهارة التي تجعله وارثًا للحسنات. لذلك قال النبي ﷺ أيضا: “التائب من الذنب كمن لا ذنب له”.. أي تُغفر له الذنوب التي سبقت التوبة. ويعفو الله تعالى له بفضل منه عما كان عليه من قبل، وعن كلِّ ما وُجد في أعماله من تصرفات غير لائقة وغير متوازنة، ويعقد التائب عقدًا جديدًا للصلح مع الله تعالى، وتبدأ معاملته معه ﷻ من جديد. فلو كان قد تاب في حضرة الله بصدق القلب لكان لزامًا عليه ألا يشرع بالذنوب من جديد، ولا يوسِّخ نفسه بأوساخ المعصية، بل يبقى متوجهًا إلى طهارته وتزكيته بالاستغفار والدعاء بصورة مستمرة، ويفكر دائمًا للحصول على رضى الله تعالى، ويبقى نادمًا خجلًا على أحوال حياته السابقة.
هناك فترات كثيرة لحياة الإنسان، وكل فترة تتسم بأنواع عدة من الذنوب. منها فترة الشباب التي تتسم بالكسل والغفلة. ثم بعدها فترة أخرى من الحياة حيث تصحبها مختلف أنواع الذنوب كالخداع والغش والرياء. فلكل فترة من الحياة هناك ذنوب مختلفة تختص بها.
فمن فضل الله علينا أنه أبقى باب التوبة مفتوحًا، وأنه يغفر الذنوب للتائبين. وعن طريق التوبة يستطيع الإنسان أن يقيم الصلح مع الله تعالى مجددًا. إن الإنسان عندما يُدان بارتكاب جريمة فإنه يستوجب العقاب، كما قال الله تعالى: (إنه مَن يأتِ ربَّه مجرمًا فإن له جهنّمَ لا يموت فيها ولا يحيا). وهذه عقوبةُ جريمة واحدة، فما بالك بالذي ارتكب ألوفًا بل مئات الألوف من الجرائم. فإذا مَثُلَ أحد أمام المحكمة وتمت إدانته أيضًا، ومع ذلك لو عفتْ عنه المحكمة، كم كانت منة الحاكم عليه كبيرة؟ فالتوبة هي بمثابة العفو الذي يتم بعد الإدانة. إن الله تعالى لا يلبث أن يغفر الذنوب إثر التوبة، لذا يجب على الإنسان أن يحاسب نفسه وينظر كم كان متورطًا في الذنوب، وكم استحق عليها من العقاب، ولكن الله تعالى عفا عنه بفضل منه.
فأنتم الذين قمتم بالتوبة الآن يجب أن تعوا حقيقة هذه التوبة، وتجنبوا جميع الذنوب التي كنتم متورطين فيها والتي قررتم تركها. يجب أن تتجنبوا كل الذنوب التي لها علاقة باللسان أو العين أو الأذن، إذ لكل عضوٍ ذنوبٌ تخصه. فإن الذنب سمٌّ يقتل الإنسانَ. إن سمَّ الذنوب يظل يتراكم يومًا بعد يوم، وفي النهاية يبلغ مقدارًا يقتل الإنسان. فالفائدة الأولى من البيعة هي أنها بمثابة الترياق لسم الذنوب، وتحمي من تأثيرها وتمحوها نهائيا. والفائدة الثانية هي أن البيعة التي تتم بصدق القلب على يد مأمور من الله تتسم بالقوة والطاقة. إن التوبة التي يقوم بها المرء بنفسه تنهار في معظم الأحيان، إذ يتوب مرارًا، ثم ينقض توبته مرارًا، ولكن التوبة التي يقوم بها على يد مأمور من الله بقلب صادق، فبما أنها تكون وفق إرادة الله تعالى لذا يقوي اللهُ صاحبَها من عنده، فيوهَب للثبات عليها قوةً من السماء. والفرق بين التوبة الذاتية والتوبة على يد المأمور من الله هو أن الأولى تكون ضعيفةً والثانيةَ قويةً، لأنها تكون مصحوبة بعناية المأمور الشخصية واجتذابِه وأدعيتِه التي تقوّي عزيمة التائب وتهبه قوة سماوية تتسبب في إحداث التغيير الطيب فيه، وتزرَع فيه بذرة الحسنة، فتصبح شجرة مثمرة في نهاية المطاف.
فلو بقيتم صابرين صامدين لرأيتم بعد أيام قلائل أنكم تقدمتم كثيرًا على الحالة الأولى.
فهناك فائدتان من البيعة التي تؤخذ على يدي:
أولا: أن الذنوب تُغفر، ويصبح الإنسان مستحقًا لمغفرة الله تعالى حسب وعده.
ثانيا: يوهب التائب قوةً لدى التوبة أمام المأمور من الله فيتّقي هجمات الشيطان. فحذار ثم حذار أن تكون الدنيا هي المقصود من الدخول في هذه الجماعة، بل ينبغي أن يكون الهدف هو الحصول على رضى الله تعالى. فإن الدنيا دار الفناء ولا بد أن تنقضي في كل حال. يقال في المثل الفارسي: الليلُ ينقضي لا محالة، سواءً نمتَ على سطح التنور أو على فراش الحرير.
يجب أن تتركوا الدنيا وأهدافها كليًّا، ولا تخلطوها بالدين إطلاقًا، لأن الدنيا فانية، أما الدين وثماره فهي أبدية لا تفنى. الدنيا عمرها قصير جدا. ترون أن ألوفًا من الناس يموتون في كل لحظة وآن. وهناك أنواع مختلفة من الأوبئة والأمراض التي تحصد الدنيا حصدًا.كانت الكوليرا تُهلك أحيانًا، والطاعون يُهلك الآن. لا يعرف أحد مَن سيبقى حيًّا وإلى متى؟ إذا كان الإنسان لا يعرف متى سيحل به الموت، أفليس من الخطأ الفاحش والغباوة المتناهية أن يبقى غافلا عنه. لذا من الواجب أن تتفكروا في الآخرة، ومَن يفكِّر في الآخرة يرحمه الله في الدنيا. هناك وعدٌ من الله أن الإنسان عندما يصبح مؤمنًا كاملا يجعل الله بينه وبين غيره فرقانًا، لذا يجب أن تكونوا مؤمنين أولا. وإنما يتم ذلك إذا لم تخلطوا على الإطلاق أهدافًا دنيوية بأهدافِ البيعة الحقيقية التي هي مبنية على خشية الله وتقواه. أقيموا الصلاة، وثابِروا على التوبة والاستغفار. حافِظوا على حقوق الناس، ولا تؤذوا أحدا، وتَقدَّمُوا في التقوى والصدق، يُنـزلِ اللهُ عليكم كلَّ نوع من فضله. كما يجب أن تعِظوا النساء أيضًا في بيوتكم بإقامة الصلاة، وانهوهن عن الشكاوى والغيبة، وعلِّموهن التقوى والصدق“. (جريدة “الحكم” مجلد 7، رقم 38، ص 2، عدد 17 أكتوبر 1903)
“معنى البيعة هو بيع النفس. وهذه حالة يشعر بها القلب. وتتولد هذه الحالة حين يتقدم المرء في صدقه وإخلاصه حتى يبلغ درجة يضطر فيها للبيعة من تلقاء نفسه. وما لم تتولد هذه الحالة يجب أن يعرف الإنسان أن صدقه وإخلاصه ما زالا ناقصين“. (الملفوظات ج 2 ص 244)
“البيعة ليست لُعبة الأطفال. المبايع الحقيقي هو ذلك الذي يأتي الفناءُ على حياته السابقة وتبدأ حياةٌ جديدة. لا بد من إحداث التغيير في كل شيء. إن العلاقات السابقة تنعدم وتبدأ علاقات جديدة. عندما كان الصحابة – رضي الله عنهم – يُسلمون كان بعضهم يواجهون ظروفا تضطرهم للانفصال عن الأصدقاء والأقارب جميعًا“. (الملفوظات، مجلد 3 ص 339-340)
“كل مؤمن يمر بالظروف نفسها. المؤمن عندما يكون لله تعالى بكل إخلاص ووفاء يكون الله تعالى وليًّا له. ولكن إذا كانت بناية الإيمان بالية فهناك خطر. إننا لا نعلم ما في قلب أحد، والله وحده عليم بذات الصدور، غير أن الإنسان يؤخذ بخيانته هو. لو لم يكن الأمر سويًّا مع الله تعالى لن تنفع البيعة. أما إذا كان خالصا لله فإن الله تعالى يحميه حمايةً خاصة. لا شك أن الإنسان كله مِلْكٌ لله تعالى، ولكن الذين يخلصون لله ﷻ فإنه يتجلى عليهم تجليًا خاصًا. والإخلاص لله يعني أن تفنى النفسُ كلية ولا تبقى منها ذرة“. (الملفوظات ج5، ص70،71)
“البيعة على يدي تتطلب منكم موتًا لكي تحظَوا بولادة جديدة في الحياة الجديدة. إذا لم تكن البيعة من القلب فلا فائدة منها. إن الله تعالى يريد إقرار القلب من خلال بيعتي. فالذي يقبلني بقلب صادق ويتوب عن ذنوبه توبةً نصوحًا يغفر له الله الرحيم الكريم بإذنه تعالى، ويصبح وكأنه خرج من بطن الأم، فتحميه الملائكة“. (الملفوظات ج 3 ص 262)
“البيعة هي عملية بذْرِ البذور للأعمال الصالحة شأن البستاني الذي يزرع شجرة أو يبذر بذرة. فلو زرع أحد شجرةً أو بذر بذرةً ثم تركها على حالها ولم يهتم بِرَيِّها في المستقبل ولم يحفظها لضاعت البذرة أيضا. تذكَّروا أن هناك بركةً في الإقرار بالتوبة لدى البيعة. ولو فرض الإنسان على نفسه تقديمَ الدِّين على الدنيا لأحرز الرقي. ولكن تقديم الدين ليس بوسعكم، بل هناك حاجة ماسة إلى نصرة الله، كما يقول تعالى: (والذين جاهَدوا فينا لنهدينَّهم سبلنا). وكما أن البذرة دون بذل المجهود والريِّ تبقى عديمة البركة بل تفنى أيضا، كذلك لو لم تذكَّروا أنتم هذا الإقرار كلَّ يوم، ولم تَدْعوا الله تعالى بأن ينصركم، فلن ينـزل فضله. وحدوث التغيُّر بدون نصرة الله محال. إذا كنتم لا تدعون بعد بذر البذرة تبقون محرومين حتمًا. إن الفلّاح الذي يجتهد ويحرث الأرض جيدًا لا بد أن ينجح أكثَر، وأما الفلاح الذي لا يجتهد أو يجتهد أقلَّ نسبيًّا فيبقى محصوله ناقصًا على الدوام، وقد لا يستطيع به دفعَ الضرائب الحكومية أيضا، ويظل فقيرًا دائمًا. ونفس الحال بالنسبة إلى أعمال الدين أيضًا. فمن الناس منافقون، ومنهم كسالى، ومنهم صالحون يصلون إلى مرتبة الأبدال والأقطاب، وينالون درجةً عند الله. وهناك مَن يصلّي إلى أربعين سنة، ومع ذلك يبقى على ما كان عليه في اليوم الأول، ولا يحدث فيه أي تغيير، ولا يشعر بأية فائدة من ثلاثين صومًا. هناك كثير من الناس الذين يقولون إننا متقون ونصلِّي منذ مدة طويلة، ولكننا لا نتلقى أية نصرة. السبب أنهم يعبدون عبادة تقليدية فارغة. لا يفكرون في التقدم الروحاني إطلاقا، ولا توجد لديهم رغبة في البحث عن ذنوبهم، ولا يوجد لديهم طلب صادق للتوبة، فيَظَلُّون على حالتهم الأولى. وأمثال هؤلاء ليسوا بأقلَّ من البهائم، ومثل هذه الصلوات تجلب عليهم الويل من عند الله تعالى“. (جريدة الحَكَم مجلد 8، عدد 38، 39 ص 6-8 بتاريخ 10 إلى 17 نوفمبر 1904)
الشروط العشرة للبيعة
“الشرط الأول: أن يعاهد المبايع بصدق القلب على أن يتجنب الشركَ حتى الممات.
الشرط الثاني: أن يجتنبَ قولَ الزور، ولا يقرَب الزنى وخيانةَ الأعين، ويتنكب جميعَ طرق الفسق والفجور والظلم والخيانة والبغي والفساد؛ وألا يَدَعَ الثوائرَ النفسانية تغلبه مهما كان الداعي إليها قويًّا وهامًّا.
الشرط الثالث: أن يواظب على إقامة الصلوات الخمس بلا انقطاع تبعًا لأوامر الله ورسوله، وأن يداوم جهدَ المستطاع على أداء صلاة التهجد، والصلاةِ على النبي ﷺ، والاستغفارِ وطلبِ العفو من ربه على ذنوبه كل يوم؛ وأن يذكُرَ نعمَ الله ومِنَنَه بخلوص القلب كل يوم، ثم يتخذ مِن حمده وشكره عليها وِردًا له.
الشرط الرابع: ألا يؤذيَ، بغير حق، أحدًا من خلق الله عمومًا والمسلمين خصوصًا من جراء ثوائر النَّفْس.. لا بيده ولا بلسانه ولا بأي طريق آخر.
الشرط الخامس: أن يكون وفيًّا لله تعالى وراضيًا بقضائه في جميع الأحوال: حالةِ التَرَح والفَرَح، والعسرِ واليسر، والضنكِ والنعم؛ وأن يكون مستعدًّا لقبول كل ذلة وأذى في سبيله تعالى، وألا يُعرِضَ عنه سبحانه وتعالى عند حلول مصيبة، بل يمشي إليه قُدُمًا.
الشرط السادس: أن يكُفَّ عن اتِّباع التقاليد الفارغة والأهواء النفسانية والأماني الكاذبة، ويقبَلَ حكومةَ القرآن المجيد على نفسه بكل معنى الكلمة، ويتخذَ قولَ الله وقولَ الرسول دستورًا لعمله في جميع مناهج حياته.
الشرط السابع: أن يُطلّق الكبرَ والزهو طلاقًا باتًّا، ويقضيَ أيامَ حياته بالتواضع والانكسار ودَماثة الأخلاق والحلم والرِّفق.
الشرط الثامن: أن يكونَ الدِّينُ وعزُّه ومواساةُ الإسلام أعزَّ عليه من نفسه وماله وأولاده ومن كل ما هو عزيز عليه.
الشرط التاسع: أن يظلّ مشغولا في مواساة خَلْق الله عامةً لوجه الله تعالى خالصةً، وأن ينفع أبناءَ جنسه قدر المستطاع بكلّ ما رزَقه الله من القوى والنعم.
الشرط العاشر: أن يعقِدَ مع هذا العبد عهدَ الأخوة خالصًا لوجه الله.. على أن يطيعني في كل ما آمره به من المعروف، ثم لا يحيد عنه ولا ينكُثه حتى الممات، ويكون في هذا العقد بصورة لا تعدِلها العلاقاتُ الدنيوية.. سواء كانت علاقات قرابةٍ أو صداقةٍ أو خدمةٍ“. (إعلان “تكميل التبليغِ”، المنشور في يناير 1889- مجموعة الإعلانات مجلد 1 ص 189 – 190)