“من السنة الإلهية أيضا أنه يحقق نبوءاته وآياته على نحو يفيد فئة معينة تتدبر أفعالَه وتتأمل فيها، وتتوصل إلى أعماق حِكَمه ومصالحه وهم عاقلون وأطهار ولطيفو الفهم وأذكياء وأتقياء وسعداء الفطرة ونبلاء ونجباء، ويَحرم منها تلك الفئةَ التي تتضمن سفَلة المزاج والمتسرعين وذوي الأفكار السطحية والعاجزين عن معرفة الحق والميالين إلى سوء الظن بعجلة والمتلطخين بعار الشقاوة الفطرية. وهو – سبحانه وتعالى – يلقي رجسا على قلوب عديمي الفهم، أي يلقي عليها نوعا من الحجاب، فيتراءى لهم النورُ ظلاما، ويتبعون أمانيهم ويريدون تحقيقها ولا يتمتعون بالتدبر، وإن الله – سبحانه وتعالى – يقصد من فعله هذا منع الخبيث من الاختلاط بالطيب ويلقي على آياته ستائر تمنع خبيثي الطبع من الانضمام إلى الطيبين، وتزيد الأطهار إيمانا وعلما ومعرفة، وتجعلهم يتقدمون في الصدق والثبات. وتُظهر على العالم ذكاءهم ومعرفتهم للحق، وتحميهم من الحطّ من الشأن والإساءة المحتملة حين ينضم إلى جماعتهم معوج الطبع ورديء الأفكار ومتبع النفس والسفيه ويجالسهم. ولما كان الله – سبحانه وتعالى – يريد أن لا تختلط أي نجاسة بمائه الزلال لجماعته، لهذا يُظهر آياته بميزة لا يدركها الغبي وخبيثُ الطبع، وإنما يدرك الآيةَ رفيعةَ الشأن رفيعو الشأن فقط، فيزدادون بها إيمانا. وكان الله – سبحانه وتعالى – قادرا على أن يُظهر آيةً يتمكن من رؤيتها بوضوح كلُّ ذي عقل سطحي وسافل الطبع المصفد في مئات قيود النفس بحسب أهوائهم النفسانية، لكن ذلك لم ولن يحدث أبدا على أرض الواقع.
فلو حدث مرة واقتنع جميع الذين في قلوبهم زيغٌ برؤية الآية بحسب أهوائهم، وكان – سبحانه وتعالى – قادرا على إظهار مثل هذه الآية وكان قادرا على أن يجعل جميع الرقاب تخضع لها وتسجد كلُّ أنواع الطبائع لرؤيتها؛ إلا أن هذا العالم الذي يتوقف الأمر كله فيه على الإيمان بالغيب وأن الفوز بالنجاة ينحصر في الإيمان بالغيب، لم تكن لتفيد الإيمانَ تلك الآيةُ، بل كانت تؤدي إلى الخلل في نظام الإيمان كله بكشف وجود البارئ تماما، ولا تترك أحدا يستحق الثواب على الإيمان بالله، وذلك لأن الإيمان بالبديهيات لا يُكسب الثواب. فلو دخل في الجماعة جميع الأشقياء والسافلين وذوي الأفكار السطحية وذوي السيرة الخبيثة بإثارة الغوغاء والشغب إثر رؤيتهم هذه الآية الجوفاء، لشكَّل انضمامُهم وصمةَ عار على جماعة الأطهار، ولأثار رجوعُ خلق الله المفاجئ هذا وإثارةُ أنواع الفتن ضجةً لحكومات البشر. لهذا لم تُرد حكمة الله ومصلحته منذ البدء أن تدَع العامة يثيرون الضجيج بخصوص إظهار الآيات. إن أقواله لا تتبدل بل تتحقق كلُّها وستتحقق لكن على نحو يوافق سنة الله منذ القدم.”
من كتاب أنوار الإسلام
والله لهو كلام مرسل ونبى من بنى اسماعيل عليه السلام والحمد لله اولا واخر اى فى الاولى والاخرة على هذه النعمة