يقول المسيح الموعود عليه السلام: “إن نزول المسيح عند المنارة البيضاء شرقيَّ دمشق واضعًا كَفَّيْه على أجنحة ملَكينِ إشارةٌ إلى شيوع أمره في بلاد الشام خالصًا من العلل السماوية، منزّهًا عن دخل الأسباب الأرضية، وعن دخل سلطانها ودولتها وعساكرها وأفواجها ومسّ تدابيرها، بل يعلو أمره بحماية الله وجنده السماوية، كأنه نزل على أجنحة الملائكة. وأمّا الدجّال فيخرج بالحِيَل الأرضية والتدابير المنحوتة من عند نفسه، والتلبيسات التي تجدد في كل حين.” (حمامة البشرى)
ويقول حضرته في تفسير هذا الحديث بعد أن سرد بعض الروايات: “أقول هذا ما جاء في الأحاديث مع اختلافات وتناقضات، فذهب وَهْلُ بعض الناس بل أكثرهم إلى أن تلك الأخبار والآثار محمولة على ظواهرها، والحق أنهم قد أخطأوا خطأ كبيرا، وكان هذا ابتلاءً من الله تعالى ليعلم الصابرين المؤمنين منهم والمكذبين المستعجلين.
وأنت تعلم أن الله تعالى قد يُوحي إلى أنبيائه ورسله في حُلل المجازات والاستعارات والتمثيلات، ونظائره كثيرة في وحي خير الرسل – صلى الله عليه وسلم -، منها ما جاء في حديث أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: رأيتُ ذاتَ ليلة فيما يرى النائم كأنّا في دار عقبة بن رافع، فأتينا برُطب من رطب ابن طاب. فأوّلتُ أن الرفعة لنا في الدنيا والعافية في الآخرة، وأن ديننا قد طاب.
ومنها ما جاء في حديث أبي موسى قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: رأيتُ في رؤياي أني هززتُ سيفا فانقطع صدره، فإذا هو ما أُصيبَ من المؤمنين يومَ أُحُد، ثم هززتُه أخرى فعادَ أحسنَ ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين.
فانظر كيف رأى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الكيفيات الروحانية في الصور الجسمانية. ولا يخفى عليك أن رؤيا الأنبياء وحيٌ، فثبت من ههنا أن وحي الأنبياء قد يكون من نوع المجاز والاستعارة، وقد أوّلَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – مثلَ ذلك الوحي، وتأويلاته كثيرة كما في رؤية سِوار الذهب والقميص والبقر وغيرها من الرؤيا التي هي مشهورة في القوم، فلا حاجة إلى أن نقصّ عليك.
وقد رأى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في رؤيا أخرى الدجّالَ المسيح واضعًا يديه على منكبَي رجلين يطوف بالبيت. فلو حملْنا تلك الوحي على الظاهر لوجب أن يكون الدجّال مسلما مؤمنا لأن الطواف من شعائر المسلمين.
ثم إن هذه الأحاديث تدل على أن الدجّال كان موجودا في زمان النبي – صلى الله عليه وسلم – وقد رآه تميم الداري، وزعم القوم أنه يخرج في آخر الزمان، ولا يدَع قرية إلا يدخلها، ويتملك ويتسلّط على البلاد كلها، ولا تبقى في زمانه أرض إلا يأخذها غير مكة وطيبة. ولكن الأحاديث الأخرى تعارضها وتكذّب هذه القصص. فانظرْ أوّلاً تدبرًا وإنصافا في حديث مسلم عن جابر قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول قبل أن يموت بشهر: تَسْأَلُونِي عَنِ السّاعَةِ؟ وَإِنّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللّهِ. وَأُقْسِمُ بِاللّهِ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ يأْتِي عَلَيْهَا مِئَةُ سَنَةٍ وهي حيّةٌ يومئذ. وعن ابن مسعود: لا يأتي مئة سنة وعلى الأرض نفسٌ منفوسة اليوم. رواه مسلم، وهكذا ذكر البخاري في صحيحه، والمضمون واحد لا حاجة إلى الإعادة. فوجب من هذا على كل مؤمن أن يؤمن بموت الدجّال بعد المئة من زمان رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وإلا فكيف يمكن التخلف فيما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بوحي من الله تعالى مؤكدًا بقَسمه؟ والقَسم يدل على أن الخبر محمول على الظاهر لا تأويل فيه ولا استثناء، وإلا فأي فائدة كانت في ذكر القَسم؟ فتدبَّرْ كالمفتّشين المحقّقين.
وأما تطبيق هذين الحديثين فلا يمكن إلا بعد تأويل حديث الدجّال وجعلِه من قبيل الاستعارات، فنقول إن حديث خروج الدجّال يدل على خروج طائفة الكذّابين في آخر الزمان من قوم النصارى، وفي الحديث إشارة إلى أنهم يُشابهون آباءهم المتقدمين في مكرهم وخديعتهم وأنواع فتنهم وحرصهم على إضلال الناس كأنهم هم، إلا أن آباءهم كانوا مقيَّدين بالسلاسل والأغلال، ولكن هؤلاء يخرجون من ذلك السجن، ويضع الله عنهم أغلالهم، فيعيثون يمينا وشمالا ويفسدون في الأرض، وكان خروجهم بلاءً عظيما لأهل الأرضين. فكما أن تميما رأى الدجّال في زمان النبي – صلى الله عليه وسلم – بالرؤية الكشفية الصادقة التي كانت من قبيل عالم المثال.. مجموعة يده إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد في الدير، فكذلك كانت النصارى في زمن إقبال الإسلام مقهورين مغلوبين غُلّت أيديهم قاعدين في الدير، ثم أُخرجوا بعد المئتين والألف ووضَع الله عنهم الأغلال والسلاسل، وخلع عليهم خلعة العلوم الأرضية ابتلاءً من عنده، فأشاعوا الفتن في الأرض بأيدي مبسوطة، وكان قدرًا مقدورًا من ربّ العالمين. وإلى خروجهم إشارة في حديث: الآيات بعد المئتين، يعني بعد المئة والألف، وإشارة إلى نزول المسيح الذي هو مفحِمُ المفسدين“. (حمامة البشرى)