يقول المسيح الموعود عليه الصلاة السلام:
“الكعبة المشرفة.. هي بلا شك مهبط التجليات والأنوار والبركات الربانية، وهي بلا مراء ذات شأن عظيم، لقد تحدثت الأسفار القديمة عن عظمتها وقداستها. ولكن هذه التجليات والأنوار والبركات لا تدركها الأبصار الظاهرية، وإنما تُرى بعين روحانية، ولو كانت تلك العين في الإنسان مبصرة لعرف ما هي تلك البركات التي تتنزل عند الكعبة“. (الملفوظات ج 8، ص 74)
“وُضع حجر الكعبة (الحجر الأسود) رمزًا لأمر روحاني. ولو شاء الله ما بنى الكعبة ولا وضع فيها الحجر الأسود، ولكن من سنة الله الجارية أنه عز وجل يجعل إزاء الأمور الروحانية رموزا مادية تمثِّلها، وتكون شاهدا ودليلا على تلك الأمور الروحانية. وقد شيدت الكعبة بحسب هذه السنة الربانية.
الحق أن الإنسان مخلوق لعبادة الله. والعبادة نوعان؛ الأول: التذلل والتواضع، والثاني: الحب والفداء. ولإظهار التذلل والتواضع أمرنا اللهُ بالصلاة.. حيث يشترك الجسد مع الروح في التعبير عن التذلل والتواضع، ويكون كل عضو من أعضاء الجسد البشري في حالة من الخشوع والخضوع البدني…
وبالنسبة للحب والفداء؛ حيث يؤثِّر الجسد في الروح وتؤثر الروح في الجسد، فكما أن روح المحب تطوف حول المحبوب كل حين، وتضع القبلات عند عتبة داره، كذلك جُعلت الكعبة المشرفة رمزا ماديًّا للمحبين الصادقين، وكأن الله تعالى يقول لهم: انظروا، هذا البيت بيتي، وهذا الحجر الأسود حجر عتبتي.
ولقد أراد الله تعالى بذلك أن يتمكن الإنسان من التعبير عن مشاعر حبّه الجياشة تعبيرًا ماديا، فالحُجاج يطوفون بهذا البيت طوافًا جسمانيا، بهيئة تشبه هيئة من أصابهم الجنون من فرط اشتياقهم ومحبتهم لله تعالى، فيتركون الزينة، ويحلقون الرؤوس، ويطوفون ببيت الله في هيئة المجذوبين الوالهين، ويقبلون هذا الحجر متمثلين أنه عتبة بيت الله تعالى. هذا الوَله الجسماني يولد حبًا ولوعة روحانية. فالجسم يطوف بالبيت ويقبل حجر العتبة، بينما تطوف الروح حول الحبيب الحقيقي، وتطبع القبلات على عتبته.
وليس في ذلك أي أثر للشرك بالله تعالى. إذ أن الصديق يُقبِّل رسالة صديقه الحميم عندما يتسلمها. فالمسلم لا يعبد الكعبة المشرفة، ولا يستغيث بالحجر الأسود، وإنما يتخذه رمزًا ماديا أقامه الله تعالى. وكما أننا نسجد على الأرض، ولا يُعتبر هذا السجود لأجلها؛ كذلك نقبّل الحجر الأسود، ولا يكون هذا التقبيل من أجله، وإنما هو حجر لا ينفع ولا يضر، ولكنا نقبّله لأنه من ذلك الحبيب الذي جعله رمزا لعتبة بيته سبحانه وتعالى.” (جشمه معرفت (ينبوع المعرفة)، الخزائن الروحانية، مجلد 23 ص 99 إلى 101).