الجواب:

يقول تعالى:

{فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}

الآية تذكر بشرى الله تعالى لسيدنا زكريا ؑ بولادة سيدنا يحيى عَلَيهِ السَلام ووردت فيها صفتان مهمتان هما (السيد والحصور) بحق سيدنا يحيى عَلَيهِ السَلام وذلك لكي تشير إلى فساد اعتقاد المسيحيين في يحيى عَلَيهِ السَلام أنه عَبْدٌ للمسيح عَلَيهِ السَلام، فجاء الوصف الإلهي رداً على ذلك بأن يحيى ؑ سيدٌ اي ليس بعبد بل هو السيد في الحقيقة للمسيح، وحصورٌ أي هو ليس بعبدٍ للمسيح كما أنه بريء من كل عيب خاصة العلاقات مع النساء، فكأنه ردٌّ آخر على النصارى؛ بما أنكم تنسبون للمسيح صفة باطلة أنه الوحيد الذي وُلِدَ بريئاً من كل عيب ومنقصة ولذلك يعبدوه، فها أن يحيى ؑ وُلِدَ هو الآخر بريئاً من كل عيب ومنقصة، ومع ذلك لا يُعَدُّ ذلك سبباً لعبادته لأنها صفة بشرية شائعة بين الخلق وليست خاصة بعيسى ؑ وحده. والحقيقة أن الصفة التي يذكرها القرآن الكريم لنبي لا تعني أن الأنبياء الآخرين لا يتصفون بهذه الصفات ولكن يكون في الأمر رد على التهم الذي اتهم بها هذا النبي في الكتاب المقدس فجاء القرآن الكريم ليطهره ويبرئه، وهذا هو السبب الذي من أجله مثلاً وصفت السيدة مريم بأنها طاهرة ومطهرة، ووصف المسيح بأنه كلمة الله وروح منه. يقول المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:

{سيِّدًا وحَصورًا} (آل عمران: 40) .. أي أن الله تعالى قد منحه منذ صغره القوة الروحانية والحكمة الروحانية والحكومة الروحانية، وأنه كان سيدًا وبريئًا من كل عيب ومنقصة. فالمسيحيون يقولون إن كتابهم يعدّ يحيى عبدًا للمسيح، فكيف يعدّه القرآن سيدًا وأنه قد أُعطي السيادة منذ نعومة أظفاره؟ والرد على قولهم هذا هو أن فقرات أخرى من الإنجيل تؤكد أن الإنجيلي لوقا قد زاد هذا القول من عنده في إنجيله على سبيل المبالغة فحسب، إذ لا يمتّ إلى الحقيقة بِصِلة. لو كان يحيى مجرد خادم للمسيح، كما يزعم لوقا، فما الذي دفع المسيح ليكون تلميذًا ليحيى؟” (التفسير الكبير)

وقد تناول المسيحٌ الموعودُ عَلَيهِ السَلام هذا الموضوع وردّ عَلَيهِ بإلزام للمسيحيين أن صفة الحصور الخاصة بيحيى عَلَيهِ السَلام ثابتة من الأناجيل أيضاً، إذ وردَ فيها أن عيسى اقترف سلسلة من الخطايا بينما لَمْ ترد خطيئة واحدة منها أو أقل منها أيضاً بحق يحيى عَلَيهِ السَلام، فاستحق بذلك لقب الحصور بينما اضطر المسيح أن يبايع يحيى ويتعمد عنده ويغسل آثامه على يديه. هذا الرد كان على شبهة الحصور التي أثارها احد القساوسة ضد القُرآن الكَرِيم في كتابه “دلائل إثبات نبوة المسيح عيسى” أنها تعني تنزيه يحيى ؑ من العلاقات النسائية بعكس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الذي تزوج النساء فتكون بذلك شهادة القُرآن بأفضلية يحيى على سيدنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، فكان رد المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام الزامياً؛ أننا لو سلمنا بذلك فالمسيح أيضاً هو الآخر أدنى من يحيى ؑ وعدد الأسباب، يقول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام:

لا يوجد هناك دليل بأن المسيح كان أكثر صلاحاً من الصالحين الآخرين المعاصرين له، بل إن النبي يحيى ؑ كان أفضل منه، لأنه لم يكن يشرب الخمر، ولم يُسمع عنه أبداً بأن امرأة خاطئة تقدمت إليه ومسحت رأسه بعطر اشترته من أموالها، أو مَسَّت بدنه بشعرها أو يدها، أو أن امرأة شابة أجنبية كانت تخدمه. فلأجل ذلك إن الله تعالى سمّاه (أي يحيى) في القُرآن (حَصُوراً). ولم يطلق هذا الاسم على المسيح؛ لأن مثل هذه النصوص كانت مانعة من أن يطلق عليه مثل هذا اللقب. وعلاوة على ذلك فان عيسى ؑ تاب من آثامه على يد يحيى ؑ، الذي سُمِّي لدى المسيحيين يوحنا، ثم بعد ذلك سُمِّي إيلياء أيضا، وانضم المسيح إلى أتباعه. فثبتت أفضلية يحيى عليه بالبداهة من هذه التوبة على يده، إذ ليس هناك أي ذكر بأن يحيى أيضاً بايع على يد أحد.” (دافع البلاء، الخزائن الروحانية، ج 18، ص 220)

إذن صفة الحصور والطهارة من الولادة ليست خاصة بالمسيح ؑ وحده بل هي صفة خلقية للبشر جميعاً، وإنما وردت في القُرآن الكَرِيم بحق يحيى ؑ للتبكيت والرد على عقيدة النصارى وتأليههم للمسيح عَلَيهِ السَلام.

وللعلم فكلام المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام كان على سبيل الجدل والإلزام فقط وليس الإقرار، فطالما يقول القسيس في كتابه أن صفة الحصور في القُرآن الكَرِيم بحق يحيى ؑ تعني الأفضلية على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم حيث لا وقت ليحيى للزواج والعلاقات والعلاقات مع النساء بينما نبي الإسلام تزوج النساء، فعيسى أيضاً في الاناجيل شرب الخمر وكانت له علاقات نسائية، وبهذا فهو أي يحيى ؑ أفضل أيضاً من المسيح.

وقد رد المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام بنفسه على هذه المسألة وبَيَّنَ بأنها الزام فقط للرد على المسيحيين وليس ذلك من عقيدتنا، فقال حضرته عَلَيهِ السَلام:

عندما يجرح المسيحيون أفئدتنا بشتى الهجمات الفظيعة على شخصية الرسول ﷺ نرد عليهم هجومهم هذا من خلال كتبهم المقدسة والمسلَّم بها لديهم، لكي ينتبهوا وينتهوا عن أسلوبهم … هل يمكنهم أن يَعرضوا أمام الناس من مؤلفاتنا ردًّا هجوميًّا على سيدنا عيسى عَلَيهِ السَلام ليس له أساس في الإنجيل ؟ إنه لمن المستحيل أن نسمع إهانة سيدنا محمد المصطفى ﷺ ونسكت عليها.” (الملفوظات؛ ج 9، ص 479)

وقال عَلَيهِ السَلام:

أما قولك بأنني استعملت كلمة “الشتم” في حق المسيح وكأنني لم أحترمه، فهذا ليس إلا سوء فهمك. إنني أؤمن بأن المسيح عَلَيهِ السَلام كان نبيًّا وعبدًا محبوبًا عند الله تعالى. وأما الذي كتبتُه فكان هجومًا منكم علينا، ولكني جعلتُه يرتد عليكم، إذ كان طبقًا لمعتقدكم.” (جنغ مقدس، الخزائن الروحانية؛ ج 6، ص 107)

وقال عَلَيهِ السَلام:

ليتذكر القُرّاء أننا كنا مضطرين لدى الحديث عن الديانة المسيحية أن نختار نفس الأسلوب الذي اختاره هؤلاء ضدنا. الحقيقة إن المسيحيين لا يؤمنون بسيدنا عيسى عَلَيهِ السَلام الذي قال عن نفسه بأنه عبد ونبي فحسب، وكان يؤمن بصدق جميع الأنبياء السالفين، وكان يؤمن من صميم قلبه بمجيء سيدنا محمد المصطفى ونبّأ عن بعثته ﷺ. وإنما يؤمنون بشخص آخر يسمى يسوع، ولا يوجد ذكره في القرآن. ويقولون بأن ذلك الشخص ادعى الألوهيهَ، وقال عن الأنبياء السابقين إنهم “سُرّاق” و”لصوص”. ويقولون أيضا إن هذا الشخص كان شديد التكذيب لسيدنا محمد المصطفى ﷺ، وتنبأ بأنه لا يأتي بعده إلا المفترون. وتعرفون جيدا أن القرآن الكريم لا يأمرنا بالإيمان بمثل هذا الشخص، بل يقول صراحةً بأن الذي يدعي بأنه إله من دون الله فسوف ندخله جهنم. ولهذا السبب لم نُبدِ لدى الحديث عن يسوع المسيحيين الاحترام اللازم تجاه رجل صادق، إذ لولم يكن ذلك الرجل (المزعوم) فاقدَ البصر، لما قال بأنه لن يأتي بعده إلا المفترون، ولو كان صالحًا ومؤمنًا لما ادّعى الألوهية. فعلى القراء ألا يعتبروا كلماتنا القاسية موجَّهةً إلى سيدنا عيسى عَلَيهِ السَلام. كلا، بل إنها موجهة إلى يسوع الذي لا يوجد له ذكر ولا أثر، لا في القرآن ولا في الأحاديث.” (مجموعة الإعلانات؛ مجلد 2، ص 295 و296)

للمزيد إقرأ المقالة التالية: هل كان المسيح الموعود يهين المسيح الناصري عَلَيهِم السَلام

وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

About الأستاذ فراس علي عبد الواحد

View all posts by الأستاذ فراس علي عبد الواحد