بسم الله الرحمن الرحيم
في محاولة يائسة من المنافقين والمرتدين للمسّ بكرامة وعرض المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام، يقوم أحدهم بتكرار نشر هذه الصورة وهي عبارة عن ترجمة مشايخية غير دقيقة لنص من كتاب الأربعين لحضرة المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام وذلك لإيهام الباحثين عن الحق بأن حضرته عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام ينسخ حكماً في القرآن المجيد، وهو الجزية، بالإضافة لطلب أي دليل على قتل الأطفال في زمن موسى عَلَيهِ السَلام.
هذا دأب معارضي الجماعة منذ تأسيسها، وهو ترك نقاش العقيدة والطعن بدلاً عنه في شخص المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام ظناً منهم أن ذلك سيثني الباحثين عن الحق، وهذا مبتغاهم ومرادهم أن يحيد الناس عن الجماعة الإسلامية الأحمدية حتى لو كان ذلك باستخدام الكذب والتحريف والتدليس وبتر النصوص وغير ذلك من أساليب أعداء الإسلام. إن النص الذي يطالعنا في الصورة تنقصه الأمانة العلمية من حيث دقة الترجمة والسياق، فقد كان المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام يتحدث في سياق إسمي خاتم النبيين (محمد وأحمد) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، حيث بين حضرته عَلَيهِ السَلام بأن معنى الاسم أحمد هو الجمال أي السَلام والمسالمة ووقف الحروب بينما محمد ﷺ يعني الجاه والجلال ولذلك خاض صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم حروباً دفاعية ضد المعتدين تككلت بالنصر المبين فجمع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الجمال والجلال معاً ثم اصطبغ صحابته رضوان الله عليهم أجمعين بصفتيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بصورة ظلية فكان الصحابة يخوضون حروباً دفاعية ثم جاء المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام من أمته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بصبغة الجمال أي أحمد. كان عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام قبل ذلك قد ذكر بأن شدة الاضطهاد والحروب الدينية في زمن موسى عَلَيهِ السَلام كانت تودي بحياة الأطفال أيضاً أي أن الأبرياء والصغار كانوا يقتلون نتيجة هذه الحروب الفضيعة وليس نتيجة تعاليم الله ﷻ. يقول تعالى:
﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ (البقرة : ٥٠)
يقول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام مبرءاً أنبياء الله تعالى مما يُنسَب إليهم افتراء موضحاً سبب رفع الحرب أو توقفها في زمنه:
“وما بُعث نبي سفّاكًا، بل جاءوا كالعِهاد، وما قاتَلوا إلا بعد الأذى والكثير والقتل والنهب والسبي من أيدي العدا وغُلُوِّهم في الفساد. فرُفعت هذه السنة برفع أسبابها في هذه الأيام، وأُمرنا أن نُعِدَّ للكافرين كما يُعِدُّون لنا، وأن لا نرفع الحُسامَ قبل أن نُقتَل بالحُسام. وترون أن النصارى لا يقتلوننا في أمر الدين ولا قوم آخرون من البعيد والقرين. فهذه السيرة عار للإسلام أن نترك الرفقَ لقوم رفقوا، فأَمعِنوا يا معشرَ الكرام“. (حقيقة المهدي، باقة من بستان المهدي ص 176)
لقد خفف الله تعالى عن المؤمنين في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم حيث كان الطرفان يتجنبون قتل الأطفال والأبرياء وكان المسلم مأموراً بعدم قتل أو إيذاء الطفل والشيخ والمرأة والمريض والكاهن والجندي الفار والأسير والمنهزم والحيوان وقطع الأشجار والمساس بأي شيء خارج القتال. ثم ذكر حضرته عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام بأن في زمنه هو تجلى اسم أحمد الجمالي عَلَيهِ فتوقفت الحروب الدينية في عصره ولم يبق داعٍ لدفع الجزية وهو معنى وضع الحرب. هذا الذي جاء في حديث المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام وأيدته الأحاديث الشريفة التي ستذكر في وقتها إنْ شاءَ الله بعد عرض النصوص الدقيقة لكلام المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام.
النصوص كما يلي:
النصائح
“أيها الأعزة! لقد حظيتم بزمن بشَّر به جميع الأنبياء ورأيتم ذلك الإنسان أي المسيح الموعود الذي تمنى الكثيرون من الأنبياء زيارته، فقوُّوا إيمانكم كثيرا وسدِّدوا خطاكم وطهِّروا قلوبكم وأَرضُوا مولاكم.
أحبتي! أصدقائي! أنتم في هذا الخان لبضعة أيام فاذكروا بيوتكم الحقيقية، ترون كل عام أحدَ أصدقائكم يفارقكم كذلك ستفجعون أحباءَكم في عام من الأعوام، سيأتي يوم يفاجئكم فيه الموتُ وتفجعون أحباءكم بموتكم، فحذارِ أن تؤثِّر فيكم سمومُ هذا الزمن الفاسد. حسِّنوا أخلاقكم كثيرا، تطهَّروا من كل أنواع الحقد والبغض والنخوة وأظهِروا للعالم معجزة أخلاقكم، لقد سمعتم أن لنبينا الكريم – صلى الله عليه وسلم – اسمين (1) أحدهما محمد – صلى الله عليه وسلم – وهو قد ورد في التوراة (الذي في يده شريعة نارية) كما يظهر من آية: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ …. ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} (1)
__________
(1) الفتح 30
الصفحة الثانية
الثاني أحمدُ – صلى الله عليه وسلم – وهو وارد في الإنجيل الذي هو التعليم الإلهي بصبغته الجمالية كما يتبين من آية: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (1). كان نبيُنا – صلى الله عليه وسلم – جامعا للجلال والجمال، حيث كانت حياته في مكة تصطبغ بصبغة الجمال أما في المدينة فاصطبغتْ بالجلال، ثم وُزِّعت هاتان الصفتان على الأمة بحيث وُهبتْ لصحابة النبي – صلى الله عليه وسلم – حياةٌ تتسم بالجلال، أما المسيح الموعود فجُعل مظهرا للنبي – صلى الله عليه وسلم – في حياته المتَّسمة بالجمال. ولهذا قال في حقه “يضع الحرب” (2)
(1) الصف: 7
(2) لقد خفف الله شدة الجهاد أي الحروب الدينية تدريجا، إذ كان في زمن موسى – عليه السلام – شدة متناهية بحيث لم يكن الإيمانُ يُنقذ من الهلاك وكان الرضّع يُقتلون، أما في زمن نبينا – صلى الله عليه وسلم – فقد حُرِّم قتلُ الأولاد والشيوخ والنساء كما قُبل من بعض الأمم أن تنجو من المؤاخذة بدفع الجزية، ثم في زمن المسيح الموعود قد مُنع من الجهاد منعا باتا. منه” (الخزائن الروحانية، الأربعين)
يقول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام حول الحروب التي خاضها النبي ﷺ:
“كانت حروب نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه إما لحماية أنفسهم من هجمات الكفار، أو لإرساء السلام، أو لدفع عدوان الذين يريدون القضاء على الدين بالسيف؛ ولكن مَن مِن المخالفين اليوم يرفع السيف من أجل الدين، ومن ذا الذي يمنع أحدًا من الدخول في الإسلام، ومن ذا الذي يمنع من رفع الأذان في المساجد ومن الصلاة فيها؟” (ترياق القلوب، الخزائن الروحانية مجلد 15 ص 158-159)
“فما كانت غزوات النبي صلى الله عليه وسلم تهدف إلى قتل الناس بدون داعٍ، وإنما لأن الظالمين أخرجوه وأصحابه من ديار آبائهم، وقتلوا الكثيرَ من رجال المسلمين ونسائهم بدون جريمة، ومع ذلك كانوا لا يكفون عن الظلم، وكانوا يمنعون تعاليم الإسلام من الانتشار.. لذلك اقتضى القانون الرباني لحفظ الأمن أن يحفظ المظلومين من الفناء، فتمّ القتال بالسيف ضد من شهروا السيف. فلم تكن حروبه صلى الله عليه وسلم إلا قمعا لفتنة القتلة السفاكين.. ودفعا لشرهم عن المظلومين. ولقد قامت الحرب حين كان الظالمون يبغون القضاء على أهل الحق. ولو لم يتخذ الإسلام حينئذ تلك الوسائل حفاظا على النفس، لهلك آلاف الأبرياء من أطفال ونساء بغير حق.. ولقُضي على الإسلام.
وليكن معلومًا أنه لَتعنّتٌ كبير من قِبل معارضينا إذ يزعمون بأن هديَ الوحي الرباني ينبغي أن يتسامى عن حض الإنسان على مقاومة العدو في كل الظروف والأحوال.. ويجب أن يحضه دائما وأبدا على التحلّي بالحلم والرفق حبا ورحمةً للعدو. ويحسب هؤلاء الناس أنهم بحصر صفات الله الكاملة كلها في الحلم والرأفة يعظمونه – جل شأنه – تعظيما كبيرا! ولكن المتفكرين في الأمر بإمعان وتدبر.. سوف يدركون بسهولة أن هؤلاء واقعون في خطأ فاحش واضح.“. (فلسفة تعاليم الإسلام، ص 147-149)
ويضيف حضرته:
“وقد بيّنّا لك أن الحرب ليس من أصل مقاصد القرآن ولا من جذر تعليمه، وإنما هو جوّز عند اشتداد الحاجة وبلوغ ظلم الظالمين إلى انتهائه واشتعال جور الجائرين. ولكُمْ أسوة حسنة في غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف صبر على ظلم الكفار إلى مدة يبلغ فيه صبي إلى سن بلوغه، فصبر. وكان الكفار يؤذونه في الليل والنهار. ينهبون أموال المؤمنين كالأشرار، ويقتلون رجالهم ونساءهم بتعذيبات تتحدر بتصورها دموع العيون وتقشعر قلوب الأخيار، وكذلك بلغ الإيذاء إلى انتهائه حتى همّوا بقتل نبي الله، فأمره ربه أن يترك وطنه ويهرب إلى المدينة مهاجرا من مكة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من وطنه بإخراج قومه. ومع ذلك ما كان الكفار منتهين، بل لم يزل الفتن منهم تستعِرُّ، ومحجّة الدعوة تَعِرُّ، حتى جلبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلَهم ورَجِلَهم، وضربوا خيامهم في ميادين بدر بفوج كثير قريبا من المدينة، وأرادوا استئصال الدين. فاشتعل غضب الله عليهم ورأى قبح جفائهم وشدة اعتدائهم، فنزل الوحي على رسوله وقال: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)، فأمر الله رسولَه المظلوم في هذه الآية ليحارب الذين هم بدأوا أول مرة بعد أن رأى شدة اعتدائهم وكمال حقدهم وضلالهم، ورأى أنهم قوم لا يرجى بالمواعظ صلاح أحوالهم“. (نور الحق، ص 37-38)
ويبين حضرته مجدداً سبب الحروب في القرآن الكريم:
“إن القرآن لناطق في قوله كرّةً بعد أخرى بأن لا إكراهَ في الدين، ويبيّن بوضوح أن الغزوات التي كانت قد حصلت في عهد صلى الله عليه وسلم لم تكن بقصد الإكراه في نشر الدين، وإنما كانت من قبيل العقاب؛ أي كان الهدف منها معاقبة أولئك الذين كانوا قد قَتلوا من المسلمين جمعًا كثيرًا، وأخرجوا بعضهم من وطنهم، وظلموهم ظلما شديدا كما يقول الله تعالى: (أُذِن لِلذين يُقاتَلون بأنهم ظُلِموا وإن الله على نصْرهم لقدير)؛ أي أن المسلمين الذين يحاربهم الكفار يؤذَن لهم الرد بالمقابل، لكونهم مظلومين، وإن الله قادر على أن ينصرهم. أو كانت تلك الغزوات من قبيل الدفاع أي كانت الحرب تُشنّ ضد أولئك الذين كانوا يتقدمون للقضاء على الإسلام أو كانوا يمنعون قسرًا نشرَ الإسلام في بلادهم، وذلك صيانةً للنفس، أو كانت من أجل تعميم الحرية في المملكة، وبدون هذه الوجوه الثلاثة لم يَشُنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه المقدسون الغارةَ عليهم مطلقا، بل إن الإسلام نفسه تعرّض لظلم الآخرين بما لا مثيل له في الأمم الأخرى. فمَن عيسى المسيح هذا والمهدي اللذان سيبدآن بقتل الناس بُعيْد ظهورهما ولن يقبلا من أيٍّ من أهل الكتاب الجزية وينسخان آية: (حتى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهُمْ صاغرون)“. (سفينة نوح، الخزائن الروحانية، مجلد 19 ص 74-75)
ثم يقول عَلَيهِ السَلام حول معنى وضع الحرب والجهاد:
“وقالوا إن المهدي يُفحِمُ الكفرة بالتعزيرات السياسية لا بالآيات السماوية، ولا يترك في الأرض بيت كافر، ويضرب عنق كل مقيم ومسافر، إلاّ أن يكونوا مؤمنين. ويُحارب النصارى وكل من قبل الملة النصرانية، ويؤم بلاد الهند وغيره وينال الفتوح العظيمة، ويقتل وينهب ويغنم ويسبي الرجال والنسوة، والمسيحُ ينـزل من السماء ليعاونه كالخدماء، ولا يقبل الجزية ولا الفدية، ويُحبّ أن يقتل من في الأرض من الكفار أجمعين، وكذلك يطأ أفواجهما أرض الله سفاكين غير راحمين. وقالوا هذه عقائد اتفق عليها أمم من العلماء، ونقلها خَلَفُهَا من سَلَفِهَا وحاضرُها من غابرِها وكثير من الكبراء.
وأما نحن يا عباد الله الرحيم، فما وجدنا هذه العقائد صحيحة صادقة، بل وجدناها سقطا ورديّا لا من الرسول الكريم، وعلّمني ربي أنه خطأ، وما أتى رسولنا شيئا من مثل هذا التعليم، وإنهم من الخاطئين.
فالمذهب الذي أقامنا الله عليه هو مذهب حلم ورفق وتؤدة، لا قتلٍ وسبيٍ وأخذ غنيمة، وهذا هو الحق الواجب في زماننا وإنّا من المصيبين. فإن أمر الجهاد كان في بدء الإسلام، وكان حفظ نفوس المسلمين موقوفا على قتل القاتلين والانتقام، بما كانوا قليلين وكان الكفار غالبين كثيرين سفاكين، وما أُمِرَ المؤمنون للحرب والقتال، إلاّ بعدما لبثوا عُمُرًا مظلومين مضروبين وذُبِحوا كالمعز والجمال، وطال عليهم الجور والجفاء، وتوالى الظلم والإيذاء، حتى إذا اشتد الاعتداء، وسُمِعَ عويل المستضعفين والبكاء، فأُذِنَ للذين قَتَلَ الكفرةُ إخوانَهم والبنين، وقيل اقتلوا القاتلين والمعاونين، ولا تعتدوا فإن الله لا يُحب المعتدين.
هنالك جاء أمر الجهاد، وما كان إكراهٌ في الدين وما جُبرَ على العباد، وما بُعِث نبي سفّاكًا بل جاءوا كالعهاد، وما قاتلوا إلاّ بعد الأذى الكثير والقتل والنهب والسبي من أيدي العدا وغلوهم في الفساد. فرُفعت هذه السُنّة برفع أسبابها هذه الأيام، وأُمِرنا أن نُعِدّ للكافرين كما يُعدّون لنا، ولا نرفع الحسام قبل أن نُقتل بالحسام. وترون أن النصارى لا يقتلوننا في أمر الدين، ولا قوم آخرون من البعيد والقرين، فهذه السيرة عار للإسلام، أن نترك الرفق لقوم رفقوا، فأمْعِنوا يا معشر الكرام. وقد جاء في صحيح البخاري أن المسيح الموعود يضع الحرب، يعني لا يستعمل الطعن ولا الضرب، فما كان لي أن أخالف أمر النبي الكريم، عليه سلام الله الرؤوف الرحيم. وقد جرت سُنّة نبيّنا خاتم النبيين، فأي أمر أفضل منه يا معشر الطالبين؟ ويكفي لكم ما قال سيدنا خاتم النبيين، عليه صلوات الله والملائكة والصالحين من الناس أجمعين.
ثم مع ذلك ثبت أن الأحاديث التي جاءت في المهدي الغازي المحارب من نسل الفاطمة الزهراء، كلها ضعيفة مجروحة بل أكثرها موضوعة ومن قسم الافتراء، وما وُثّق رُواتها، وأُشكِل على المحدثين إثباتها، ولأجل ذلك تركها الإمام البخاري والمسلم والإمام الهمام صاحب الموطأ وجرّحها كثير من المحدثين. فمن زعم أن المهدي المعهود والمسيح الموعود رجلان يخرجان كالمجاهدين، ويسلاّن السيف على النصارى والمشركين، فقد افترى على الله ورسوله خاتم النبيين، وقال قولا لا أصل له في القرآن ولا في الحديث ولا في أقوال المحققين. بل الحق الثابت أنه لا مهدي إلا عيسى، ولا حرب ولا يؤخذ السيف ولا القنا. هذا ما ثبت من نبينا المصطفى، وما كان حديثًا يُفترى، وشهد عليه الصحيحان في القرون الأولى، بما تركا تلك الأحاديث وإن في هذا ثبوتا لأولي النهى، وتلك شهادة عظمى، فانظر إن كنت من أهل التقى.” (حقيقة المهدي، باقة من بستان المهدي ص 175-177)
يقول عَلَيهِ السَلام:
“لقد ورد في صحيح البخاري بخصوص المسيح الموعود عليه السلام حديث صريح بأنه “يضع الحرب“.. بمعنى أنه لن يحارب. فالعجب كل العجب أنكم من ناحية تقولون بأفواهكم إن صحيح البخاري أصحُّ كتاب بعد القرآن الكريم، ومن ناحية أخرى تبنون عقيدتكم على أحاديث تعارض صراحة الحديثَ الوارد في صحيح البخاري.” (ترياق القلوب، الخزائن الروحانية المجلد 15 ص 159)
والحديث الشاهد على كلام حضرته هو:
“حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يُوشِكُ مَنْ عَاشَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إِمَامًا مَهْدِيًّا وَحَكَمًا عَدْلًا فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَتَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا.” (مسند أحمد, كتاب باقي مسند المكثرين)
والحديث الطويل عن النواس بن سمعان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الذي رواه مسلم في صحيحه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ذكر الدجال ثم قال:
“إذ بعث اللهُ المسيحَ ابنَ مريمَ . فينزل عند المنارةِ البيضاءِ شَرقَي دمشقَ . بين مَهرودَتَينِ . واضعًا كفَّيه على أجنحةِ ملَكَينِ . إذا طأطأَ رأسَه قطر . وإذا رفعه تحدَّر منه جُمانٌ كاللؤلؤ . فلا يحلُّ لكافرٍ يجد ريح َنفسه إلا مات . ونفَسُه ينتهي حيث ينتهي طرفُه . فيطلبه حتى يدركَه ببابِ لُدَّ . فيقتله . ثم يأتي عيسى ابنَ مريمَ قومٌ قد عصمهم اللهُ منه . فيمسح عن وجوهِهم ويحدثُهم بدرجاتِهم في الجنةِ . فبينما هو كذلك إذ أوحى اللهُ إلى عيسى : إني قد أخرجتُ عبادًا لي ، لا يدَانِ لأحدٍ بقتالهم . فحرِّزْ عبادي إلى الطور.” وفي روايةِ ابنِ حجرٍ ” فإني قد أنزلت عبادًا لي ، لا يَدَيْ لأحدٍ بقتالِهم ” .(صحيح مسلم : 2937)
ولنترك الإمام النووي يشرح معنى الحديث أعلاه:
“قَوْله تَعَالَى: (أَخْرَجْت عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّور) فَقَوْله (لَا يَدَانِ) بِكَسْرِ النُّون تَثْنِيَة (يد) . قَالَ الْعُلَمَاء : مَعْنَاهُ لَا قُدْرَة وَلَا طَاقَة , يُقَال : مَا لِي بِهَذَا الْأَمْر يَد , وَمَا لِي بِهِ يَدَانِ ; لِأَنَّ الْمُبَاشَرَة وَالدَّفْع إِنَّمَا يَكُون بِالْيَدِ , وَكَأَنَّ يَدَيْهِ مَعْدُومَتَانِ لِعَجْزِهِ عَنْ دَفْعه . وَمَعْنَى (حَرِّزْهُمْ إِلَى الطُّور) أَيْ ضُمَّهُمْ وَاجْعَلْهُ لَهُمْ حِرْزًا . يُقَال : أَحْرَزْت الشَّيْء أُحْرِزهُ إِحْرَازًا إِذَا حَفِظْته وَضَمَمْته إِلَيْك , وَصُنْته عَنْ الْأَخْذ . وَقَعَ فِي بَعْض النُّسَخ (حَزِّبْ) بِالْحَاءِ وَالزَّاي وَالْبَاء أَيْ اِجْمَعْهُمْ . قَالَ الْقَاضِي : وَرُوِيَ (حَوِّزْ) بِالْوَاوِ وَالزَّاي , وَمَعْنَاهُ نَحِّهِمْ وَأَزِلْهُمْ عَنْ طَرِيقهمْ إِلَى الطُّور.” (صحيح مسلم بشرح النووي, كتاب الفتن وأشراط الساعة)
ولقد ورد في الأحاديث أيضا أن الجهاد سينقطع بنزول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام:
عن سلمة بن نفيل السكوني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “«لا ينقطع الجهاد حتى ينزل عيسى ابن مريم»” (الإشارة إلى سيرة المصطفى وتاريخ من بعده من الخلفا، للحافظ علاء الدين مغلطاي، ج ١، ص ٣٤٤. ذكره الحافظ علاء الدين مغلطاي في سيرته من السنة التاسعة من الهجرة قال: “وباع المسلمون أسلحتهم وقالوا: انقطع الجهاد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم…. الحديث“، وأصل هذا الحديث في مسند أحمد)
لفظ الحافظ :
“.. وباع المسلمون أسلحتهم، وقالوا: انقطع الجهاد. فقال عليه الصلاة والسلام: «لا ينقطع الجهاد حتى ينزل عيسى بن مريم عليه السلام».” (الواقدي ٣/ ١٠٥٧، وحكاه ابن الجوزي في التلقيح/٤٦/عنه، وانظر سيرة ابن حبان/٣٧٢/.)
لفظ ابن حبان:
“.. وكان المسلمون يقولون: لا جهاد بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينقطع الجهاد حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام»” (ذكره في المغازي ٣/ ١٠٥٧) (السيرة النبوية، ابن حبان، ج ١، ص ٣٧٢)
فها أن الجهاد ينقطع عند نزول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام وهو مصداق قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عَنْهُ “يضع الحرب/الجزية” و “حرز عبادي إلى الطور.. فلا يدان لأحد بقتالهم (أي ياجوج ومأجوج)” وغيرها.
لا نسخ في القرآن الكريم عند المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام
يقول عَلَيهِ السَلام:
“إذا سلّم أحد بأنه لا تزال في القرآن الكريم آيات منسوخة.. فلماذا يكلف نفسه عناء التدبّر فيه والعمل به؟ سيقول في نفسه : لماذا أضيع جهدي ووقتي في ذلك؟ من يدري أن الآية التي أُعمل فكري فيها يتبين لي فيما بعد أنها كانت منسوخة؟ ولكن الذي يؤمن أن هذا الكلام بتمامه وكماله منزه عن النسخ، وأن كل لفظ منه جدير بالعمل به.. لا بد أن يتدبر القرآن، وهكذا يزيده القرآن علما ومعرفة.” (رواية الخليفة الثاني ؓ عن حضرته عَلَيهِ السَلام في التفسير الكبير، مجلد ٢، ٨٧-٨٨)
وينفي عَلَيهِ السَلام النسخ في رده على من قال بأن المعراج حدث خمس مرات لا مرة واحدة:
“إضافة إلى ذلك هناك طامةٌ أخرى نواجهها عند التسليم بحدوث المعراج خمس مرات، وهي أننا عبثاً ومن دون مبرر، نضطر للاعتراف بالنسخ في القرآن الكريم وفي أوامر الله تعالى الدائمة وغير القابلة للتبدّل … ثم تردد النبي ﷺ على الله وعلى موسى مرارا – على غرار المرة الأولى – من أجل التخفيض من عددها، ونجح في تخفيض العدد إلى خمس صلوات، ووافق الله تعالى أيضا على خمس صلوات، و سُجل هذا الحكم غير القابل للتغير في القرآن ! ولكن اشرأبت المصيبة نفسها مرة أخرى عند المعراج الثالث، و فُرضت خمسون صلاة مرة أخرى، وُنسخت آيات القرآن غير القابلة للتبديل ! ولكن النبي ﷺ استطاع هذه المرة أيضا تخفيض عددها من خمسين إلى خمسة بعد أن تحمل معاناة كبيرة، ولكنها فُرضت مرة أخرى خمسينَ في المعراج الرابع ! ولكنه ﷺ استطاع تخفيضها إلى خمس بعد التوسلات الكثيرة والمثول أمام الله تعالى مرات عديدة كما جاء في الحديث ! ثم قطع الله سبحانه وتعالى على نفسه عهدا صارما أن يبقى عددها خمس صلوات، ولكن فُرضت خمسون صلاة مرة أخرى عند المعراج الخامس، غير أن الله تعالى قد وافق على خمس بعد مثوله ﷺ أمامه ﷻ مرات كثيرة ! ثم ما نزلت آية أخرى بعد آيات منسوخة… الحق أن هذه الفكرة استهزاء بالوحي الإلهي، والذين تبنّوها قصدوا من ورائها أن يزيلوا التعارض بوجه من الوجوه. ولكن زواله بمثل هذه التأويلات مستحيل تماما، بل يتفاقم كمُّ الاعتراضات أكثر من ذي قبل … فملخص الكلام أن في هذه الأحاديث تعارضا شديدا. مع أنه لا يمكن القول إنها موضوعة، بل إن القاسم المشترك بينها واجبُ التسليم به والعمل به بشرط عدم معارضته القرآن الكريم، غير أنه من الواجب أيضا أن تُقدَّم عليها نصوص القرآن البينة والقطعية. وإذا وجد محدَّثٌ – نال علما قطعيا ويقينيا بواسطة التعليمات المتواترة – وكان وحيه المبني على التحديث مطابقا ومتوافقا مع القرآن الكريم، فقدَّمه على الأحاديث المتعلقة بالأخبار والقصص والخارجة عن سلسلة التعامل، وجعل هذه الأمور الظنية تابعة لليقين الذي ناله من مصدر الفيض الذي نبع منه وحي النبوة؛ فهذا حقه، لأنَّ جعْل الظن تابعا لليقين هو عين المعرفة وسيرة المؤمنين بعينها.” (إزالة الأوهام، ص ٦٥٦-٦٥٨)
وكذلك يقول حضرته عَلَيهِ السَلام:
“على أية حال، لقد قبل إخواننا المسلمون أن ابن مريم سيأتي عندئذ مسلماً، ويُظهر كونه من الأمة المحمدية، ولن يذكر مطلقا نبوته التي كان مشرَّفا بها من قبل. هذه في الحقيقة هي الطامة الكبرى التي واجهها إخواننا نتيجة حمل الاستعارة على الظاهر، فاضطروا لحرمان نبيّ من نبوته. ولو قبلوا المعنى الصريح الذي يتبين بكل وضوح من كلام النبي الطاهر ﷺ، وصرّح به سابقا المسيح عَلَيهِ السَلام عن النبي يوحنا؛ لتخلّصوا من هذه المشاكل العويصة كلها، ولما احتاجوا لإخراج روح المسيح من الجنة، ولما اضطروا لعزل نبي مقدس من منصب النبوة، ولما ارتكبوا انتقاداً مبطَّناً في حق النبي ﷺ، ولما اضطروا للاعتراف بنسخ أحكام القرآن.” (توضيح المرام، ص ٦٥)
فماذا بقي في وفاض المنافقين إلا الخلو القاتل من التقوى والصلاح!
هدانا الله جميعا اللّهُمّ آمين
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ