المعارضة الشعرية، كما هو معروف، هي أن ينظم شاعرٌ قصيدةً على نسق قصيدة ٍلشاعرٍ قبله، سواء كان معاصرا أو من زمن ماضٍ، ويستخدم فيها ذات الوزن والقافية والتعابير والصور، ثم يُظهر براعته في توظيف التعابير والصور بصورة أجمل وأكمل. وكلما كان قادرا على توظيف تعابير وصور أكثر كان هذا علامة على مقدرته وبراعته وإبداعه. وتدخل ضمن هذا الفن النقائض التي يسعى فيها كل شاعر لنقض الآخر، ولكن المعارضات لا تستهدف النقض بل توجِّه وتلفت الانتباه إلى العمل السابق لتظهر البراعة في العمل اللاحق.
في هذا المجال فقد تفوَّق المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام وأظهر مقدرة مذهلة كانت بلا شك دليلا على التعليم الإعجازي للغة العربية الذي علَّمه الله تعالى إياه. وسأقدم هنا نموذجا لمعارضة حضرته للحريري في بضعة أبيات وردت في مقامته الحرامية، إذ قال يصف محلَّة بني حرام في البصرة:
بها ما شِئْتَ منْ دِينٍ ودُنْيا … وجيرانٍ تنافَوْا في المعاني
فمَشغوفٌ بآياتِ المثاني … ومفْتونٌ برَنّاتِ المثاني
ومُضْطَلِعٌ بتلْخيصِ المعاني … ومُطّلِعٌ الى تخْليصِ عانِ
وكمْ منْ قارِئٍ فيها وقارٍ … أضَرّا بالجُفونِ وبالجِفانِ
وكمْ منْ مَعْلَمٍ للعِلْمِ فيها … ونادٍ للنّدى حُلْوِ المَجاني
ومَغْنًى لا تزالُ تغَنُّ فيهِ … أغاريدُ الغَواني والأغاني
فصِلْ إن شِئتَ فيها مَنْ يُصَلّي … وإمّا شِئْتَ فادنُ منَ الدِّنانِ
ودونَكَ صُحبَةَ الأكياسِ فيها … أوِ الكاساتِ منطَلِقَ العِنانِ
(المقامة الحرامية)
وملخَّص ما يريد الحريري قوله في هذه الأبيات هو أنك في هذه المحلة تستطيع أن تجد المساجد والعابدين والعلماء وقرَّاء القرآن وحلقات الذكر وتستطيع أن تجد أيضا الخمَّارات والحانات والندمان ودور اللهو والمغنين والمغنيات، فتستطيع أن تختار ما تشاء!
أما المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام فقد استخدم كثيرا من هذه التعابير من هذه الأبيات القليلة التي هي ثمانية أبيات وضمّنها في قصيدة طويلة له بلغت مئة وواحد وعشرين بيتا، ذكر فيها ميل الناس إلى الدنيا والشهوات وكيف أنهم بذلك أفسدوا دينهم ودنياهم، ثم حضَّهم على الرجوع للقرآن الكريم ومدحه ووصفه وصفا رائعا وذكر صفاته وجماله وحسن بيانه وعظمته الفائقة، وردَّ خلالها على القسيسين النصارى وتوعَّدهم بالردود المفحمة مقابل فحشهم وإساءتهم للإسلام وللنبي صلى الله عليه وسلم، وكيف أنهم هم الذين يميلون الناس إلى الدنيا والشهوات، هذا إضافة إلى معان أخرى أيضا. وسأنتخب بعض الأبيات من هذه القصيدة، إذ يقول حضرته:
إلى الدنيا أوَى حزبُ الأجاني … وحسبوها جَنًى حُلْوَ المجَاني
نسوا مِن جهلهم يوم المعادِ … وتركوا الدين مِن حُبّ الدِّنان
تراهم مائلين إلى مُدامٍ … وغِيدٍ والغواني والأغاني
وكمْ منهم أسارى عَينِ عِينٍ … ومشغوفين بالبِيض الحِسان
لهنَّ على بعولتهن حُكمٌ … ترى كُلاًّ كمنطلق العِنان
دماء العاشقين لهنَّ شغلٌ … بعينٍ أخجلتْ ظَبْيَ القِنان
ومِن عَجَبٍ جُفونٌ فاتراتٌ … أرينَ الخَلْق أفعالَ السنان
بناظرةٍ تصيد الناسَ لمحًا … تفوق بلحظها رُمْحَ الطِّعان
وأَنَّى الأمن من تلك البلايا … سوى الله الذي مَلِكِ الأمان
فعشّاق الغواني والمثاني … أضاعوا الدين مِن تلك الأماني
يصُدّون الورى مِن كل خيرٍ … ويغتاظون من تخليصِ عاني
عِمايات الرجال تزيد منهم … وفتن الدهر تنمو كل آن
وما من ملجأ من دون ربٍّ … كريم قادر كهف الزمان
فنشكو هاربين من البلايا … إلى الله الحفيظ المستعان
جرتْ حزنًا عيونٌ من عيوني … بما شاهدتُ فتنًا كالدخان
فهل وجدتْ ثكالى مثلَ وجدي … أذًى أم هل لها شأن كشانِي
وكم من ظالم يبغي فسادًا … وقسيسين أصل الافتنان
تفاحُشهم تجاوزَ كل حدّ … كأن غذاءهم فحشُ اللسان
فكنتُ أطالعَنَّ كتابَ سابٍّ … وتمطُر مُقْلَتي مثل الرَّثان
رأينا فيه كلِمًا مُحفِظاتٍ … وسبَّ المصطفى بحر الحنان
صبرتُ عليه حتى عِيلَ صبري … ونار الغيظ صارت في جَناني
وتأتي ساعةٌ إن شاء ربي … أُقِرُّ العينَ بالخصم المُهان
أخذْنا السبَّ منهم مثلَ دَينٍ … وعزّتُنا لديهم كالرِّهان
سنَغْشاهم ببرهان كعَضْبٍ … رقيقِ الشفرتين أَخِ السنان
…….
وما تدري الهدى وحملتَ جهلاً … أناجيلَ النصارى كالأَتان
تُنَضْنِضُ مثلَ نضنضة الأفاعي … وتهذي مثل عادات الأداني
هلمّ إلى كتاب الله صدقًا … وإيمانًا بتصديق الجنان
……
وما القرآن إلا مثلَ دُرَرٍ … فرائدَ زانَها حسنُ البيان
وما مسّتْ أكفُّ الكاشحينا … معارفَه التي مثل الحَصان
به ما شئتَ مِن علم وعقل … وأسرارٍ وأبكار المعاني
يسكِّت كلَّ مَن يعدو بضغنٍ … يبكّت كلَّ كذّاب وجاني
رأينا دَرَّ مُزْنتِه كثيرًا … فدَينا ربَّنا ذا الامتنان
وما أدراك ما القرآن فيضًا … خفيرٌ جالبٌ نحو الجِنان
له نورانِ نورٌ من علوم … ونورٌ من بيان كالجُمان
كلامٌ فائق ما راقَ طرفي … جمالٌ بعده والنَّيِّران
أَياةُ الشمس عند سَناه دَخْنٌ … وما لِلَّعْلِ والسِبْت اليماني
وأين يكون للقرآن مِثلٌ … وليس له بهذا الفضل ثاني
……..
وكل النور في القرآن لكنْ … يميل الهالكون إلى الدخان
به نلنا تُراثَ الكاملينا … به سِرْنا إلى أقصى المعاني
فقُمْ واطلُبْ معارفه بجهدٍ … وخَفْ شرَّ العواقب والهوان
…….
ولا نخشى سهام اللاعنينا … ولا نغتاظ من تكفير خان
…..
وآخر كلمنا حمدٌ وشكرٌ … لرب محسن ذي الامتنان
(نور الحق)
فبالنظر إلى هذه الأبيات المختارة، نرى أن الفارق هائل بين المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام والحريري سواء في المعاني والرسالة التي قدَّمها حضرته أو في المقدرة والغزارة الشعرية والبيانية. فمقابل استخدام هذه التعابير المحدودة في هذه الأبيات القليلة قدَّم حضرته عشرات التعابير الأروع، ووظف تعابير الحريري في إطار رسالته السامية التي قدمها وارتقى بها من المعنى التافه الذي قدمه الحريري إلى هذه المعاني العظيمة والرائعة.
والواقع أنه ربما يكون من الظلم عزو ذلك إلى المعارضة الشعرية؛ إذ كيف يمكن مقارنة ثمانية أبيات – يقول فيها الحريري إنك إذا زرت تلك المحلة فيمكن لك أن تجد المتقين والزهاد فتنسجم معهم أو تجد الفسَّاق والفُجار فتنسجم معهم إن شئت أيضا! – مع مئة وواحد وعشرين بيتا مليئة بهذه المعاني الرائعة والتعابير العظيمة الراقية اللذيذة السلسة.
أما في النثر، أو ما يمكن تسميته بالمعارضة النثرية التي قلنا إن المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام كان مبتكرها في الأدب العربي ورائدها بلا منازع، سأقدِّم مثالا لارتقاء حضرته بتعابير الحريري التي تبدو محشورة حشرا في نصِّه بقصد الإمتاع لا أكثر لتصبح هذه التعابير في نصِّ المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام موظفة في محلِّها تماما وعلى أحسن ما يكون، وتقدم صورة بيانية رائعة.
فقد قال الحريري ذاكرا قصة شيخ يتهم شابا بقتل ابنه ويطلب منه القسَم بصيغة مفتعلة كما يلي:
“فقال الشيخُ للغُلام: قُلْ والذي زيّن الجِباهَ بالطُّرَرِ. والعُيونَ بالحَوَرِ. والحَواجِبَ بالبَلَجِ. والمباسمَ بالفلَجِ. والجُفونَ بالسّقَمِ. والأنوفَ بالشّمَمِ. والخُدودَ باللّهَبِ. والثّغورَ بالشّنَبِ. والبَنانَ بالتّرَفِ. والخُصورَ بالهيَفِ. إنّني ما قتَلْتُ ابْنَكَ سهْواً ولا عمْداً. ولا جعلْتُ هامَتَهُ لسَيْفي غِمْداً“. (المقامة الرحبية)
فما علاقة تذكُّر صفات جمال النساء في هذا القسَم؟ ولماذا لم يطلب منه أن يقسم بالله العظيم المنتقم الجبار مثلا، فهذا الذي ينسجم مع السياق؟ أما ذكر صفات جمال النساء هنا إنما يعني أن الشخص مفتون مرتاح البال لا يشعر بالضيق على مقتل ابنه، بل يتذكر النساء ويتطلع إليهن! وهذا لو كان على الأرض الواقع لكان سماجة ما بعدها سماجة!
أما المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام فقد استخدم هذه التعابير في سياق جميل وهو وصف القرآن الكريم
وتبيان جماله لغته ومعانيه، وجاء الوصف رائعا ومناسبا تماما للمناسبة، إذ قال:
“أعطي له (القرآن) حظٌّ تام من كل ما ينبغي في المحبوبين من الاعتدالات المرضية، والملاحات المتخطفة، كمثل حَوَرِ العيون، وبَلَجِ الحواجب، ولَهَبِ الخدود، وهَيَف الخصور، وشَنَب الثغور، وفَلَجِ المباسم، وشمم الأنوف، وسَقَمِ الجفون، وتَرَفِ البنان، والطُّرر المزينة“. (التبليغ)
وهكذا فقد حوَّل حضرته عليه الصلاة والسلام الكلام العابث اللاغي للحريري غير المنسجم مع السياق ليكون كلاما رائعا في وصف القرآن الكريم!
أخيرا، فإن هذين مجرد مثالين لهذه المعجزة البيانية البلاغية لحضرته. وإنني أدعو الباحثين والنقاد المحترفين – بغض النظر عن موقفهم من الجماعة أو إيمانهم بالمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام – أن يتناولوا هذه النصوص ويدرسوها لعلهم يستفيدون في ترقية الذوق الأدبي العربي المعاصر وإعادته إلى أصالته وجزالته وقوته بعد أن تردى الذوق العام وانتشرت الكتابات الركيكة المبنى والمعنى والتي لا صلة لها بالماضي والتراث الأدبي العربي بل هي كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
إن هذا النور السماوي الذي نزل مع المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام كان لا بد أن يعطي هذه الدفعة للغة العربية وآدابها، وهذا ما تحقق بالفعل وما نراه ونلمسه كل يوم بفضل الله تعالى.