التناصّ مصطلح أدبي نقدي يعني أن يتشابه نصٌّ أدبي بنص آخر أو يتأثر به، ويكون هنالك تطابق في بعض الألفاظ والأساليب، وهو على ثلاثة أنواع أساسية؛ وهي التطابق بين النصَّين في الشكل والمضمون، أو الانفصال بين النصين، أو موت النص الأول في النصِّ الثاني.
ويميُّز النقاد بوضوح بين التناصِّ وبين السرقة الأدبية التي تسمى “التلاص” والتي تعني أن يأخذ أديب عمل غيره وينسبه لنفسه، بإجراء بعض التعديلات البسيطة أحيانا. وجوهر التلاص متعلق بالمضمون أساسا، لأن إجراء بعض التعديلات الأسلوبية لا يؤثر على المضمون المتلاصِّ كثيرا.
وبالعودة إلى التناصِّ، وعلى نقيض التلاص، فإنه عمل لا يقدر عليه إلا كبار الأدباء والكتاب والشعراء من أبناء اللغة واللسان، ممن لديهم اطلاع واسع ومعرفة عميقة باللغة والأساليب والأدب والثقافة وانسجام كامل معها، بحيث يوظِّف الكاتب بعض الأساليب والمصطلحات والتعابير والأمثال في نصِّه ليقدِّم معاني جديدة، ويضفي على النصِّ عراقة وتواصلا مع التراث والأدب والثقافة، ويلفت الانتباه أيضا إلى بعض المعاني التي قد يختزلها أيضا في لفظ أو لفظين يشيران أحيانا إلى قصة طويلة أو عبرة يعرفها أهل اللغة والثقافة بمجرد أن يسمعوا هذين اللفظين.
وسأقدِّم مثالا على تناصٍّ لي في إحدى قصائدي يوضح هذه الفكرة. ففي قصيدتي “الحمد للرحمن ذي الآلاء” التي كتبتها أثناء مرض الخليفة الرابع رحمه الله، قلت في بيت شعر عنه بعد شفائه:
قد عاد للإسلام مثل معفِّرٍ ……… يدمي ليوثَ الشركِ في البيداء
وهنا باستخدامي كلمتي “معفر” و “ليوث” قد اختزلت قصة شهيرة للأمير بدر بن عمار أمير طبرية الذي مدحه المتنبي وذكر قصته في قصيدته الشهيرة:
أمعفرَّ الليث الهزبر بسوطه ……… لمن ادَّخرت الصارم المصقولا
وهي قصة ذلك الأمير الشجاع الذي اختار أن يضرب الأسد بسوطه ويدميه بدلا من أن يقتله فورا بالسيف أو الرمح.
فبمجرد أن يسمع من له معرفة بهذه القصة هاتين الكلمتين في بيت الشعر عندي، فسيلتفت إلى هذه القصة التي اختُزلت في البيت دون مزيد من الشرح.
وهنا أتذكَّر أنني عندما كتبت هذه القصيدة، كان لأحد الإخوة من غير العرب – ممن لديه معرفة واسعة جدا باللغة العربية ومن المتقنين لها بدرجة كبيرة – اقتراح أن أغيِّر “ليوث” إلى “ذئاب” لأنه رأى أن وصف المشركين بالأسود فيه نوع من المدح لهم. وقد كان محقًّا في ذلك لولا أن في الأمر تناصًّا وتضمينا واختزالا، وقد أوضحت له ذلك، لأنه يبدو أنه لم يكن مطلعا أو ملتفتا إلى قصيدة المتنبي أو قصتها، رغم معرفته الواسعة وإتقانه.
وبالعودة إلى المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام، وتعلُّمه أربعين ألفا من اللغات العربية في ليلة واحدة كما أخبر، والتي قلنا إنها تشمل الجذور والأساليب والأمثال والنكات والأحاديث والآداب العربية المتنوعة، فإن هذا قد برز بوضوح في تناصِّه واختياره لتعابير وردت في الشعر الجاهلي وأشعار كبار شعراء العرب لاحقا وكذلك النصوص الأدبية التي صيغت لإظهار المقدرة اللغوية ولإمتاع القراء بها كمثل مقامات الهمذاني والحريري. وكان تناصُّه رائعا جدا، بحيث إنه استخدم هذه التعابير التي كانت في الأصل قد استُخدمت لأغراض المتعة واستعراض المقدرة الأدبية في قصص تافهة لا قيمة لها ليقدِّم نصًّا مليئا بالحِكَم والمعارف اللدُّنية ويري في نفس الوقت أن الله تعالى قد خزَّن في عقله الباطن شعر العرب وآدابهم بصورة إعجازية، إذ أصبح بعد هضمها قادرا على توظيفها كابن اللغة والتراث الذي عاش في بلاد العرب وعايشهم، بل وكأنه قد عاش في عصور متعددة مما لم يتوفر لأي أديب عربي من قبل. والقارئ الخبير المنصف لنصوص حضرته لا يملك إلا أن يقرَّ بذلك ويخرُّ ساجدا لجمال هذه اللغة وهذه المضامين.
لقد كان هذا التناص من أهم مظاهر معجزة تعلُّم حضرته اللغة العربية في ليلة واحدة، لأن هذا القدر من المقدرة لا يمكن أن يتيسر لشخص كمثله عاش في عصره وفي بلاد بعيدة عن بلاد العرب. هذا ما يقرُّ به من لديه خبرة ومعرفة دقيقة بهذه الأمور ويراه معجزة عظيمة. أما الأغبياء والجهلة فلا يستطيعون رؤية هذا ولا يستطيعون التمييز بين الزجاج والألماس، بل قد يلتقطون زجاجة برَّاقة ويفضلونها على ألماسة باهظة الثمن لعدم معرفتهم لقيمتها. لذلك ورد على لسان المسيح في الإنجيل:
{لاَ تُعْطُوا الْقُدْسَ لِلْكِلاَب، وَلاَ تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ الْخَنَازِيرِ، لِئَلاَّ تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُمْ} (إِنْجِيلُ مَتَّى 7 : 6)