الاعتراض:
مؤسس الجماعة يقول بأنه تلقى وحياً أن لا شعر يوجد في كلامه كما يلي:
“في كلامك شيءٌ لا دَخْلَ فيه للشعراء.”
بينما تجده ينشد القصائد بكثرة ومنها قوله “عفت الديار محلها ومقامها” !
ثم يقول بأن العاقل لا يمكن أن يكون في حديثه تناقض !
أليس هذا تناقض واضح ؟
الرد
يقول تعالى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ (يس)
بينما كان النبي ﷺ يقول بعض الشعر ويستحسنه كما سنثبت بالأدلة إنْ شاءَ الله تعالى.
فهل هنالك تناقض والعياذ بالله ؟
لا بل الحقيقة ان هنالك فرق عظيم بين الشعر الحرام والشعر الحلال بل المندوب منه.
عندما حارب العربُ رَسولَ اللهِ ﷺ ودعوتَه بالشِعر واللسان إلى جانب السلاح، لم يكن هناك بُدّاً من أن يحاربها ﷺ بمثل وسائلها، فحضَّ ﷺ المسلمين علي قول الشعر لتشجيع الحق ضد الضلال والشرك والظلم دفاعاً عن الدين والعرض. فكان ﷺ يندب شعراء الإسلام لذلك ويحثهم عليه، فقد كان ﷺ مثلاً يقول للصحابي الجليل حسان بن ثابت ؓ الذي كان من الشعراء المعروفين:
“يا حَسَّانَ اهْجُهُمْ، أَوْ هَاجِهِمْ، وَرُوحُ الْقُدُسِ مَعَكَ” (رَوَاهُ الْبُخَارِيّ)
هذا لأنهم هم الذين بدأوا بطعن النبي ﷺ من خلال الشعر، وقد بدأ حسان ؓفي الدفاع عن الإسلام فانبرى عمر ؓلعله كان يحسب الشعر من المحرمات، فقال النبي ﷺ:
“خَلِّ عنه يا عمرُ، فوالَّذي نفسي بيدِه لكلامُه أشدُّ عليهم من وقْعِ النَّبل.” (خرجه ابن حجر العسقلاني في “الإصابة” 2/307 وقال: إسناده حسن)
وقال ﷺ:
“أَمَرْتُ عَبْدالله بِن رَوَاحَةَ فَقَالَ وَأَحْسَنَ، وَأَمَرْتُ كَعْبَ بِن مَالَِك فَقَالَ وَأَحْسَنَ وَأَمَرْتُ حَسَّانَ بِن ثَابِتٍ فَشَفَى وَاِسْتَشْفَى.” (رواه أحمد عن جويرية ؓ)
وكان ﷺ أحيانا يحرّض الشاعر فيذكّره بكلمة من شعره، فقد روي أنه ﷺ لما علم بهجاء أبي سفيان بن الحارث له، قام عبد الله بن رواحه يستأذن النبي ﷺ في الرد عليه، فقال ﷺ له:
“أنت الذي تقول: فثبّت الله؟”
قال:
نعم يا رسول الله أنا الذي أقول:
فثبّت الله ما آتاك من حسن
تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا
فقال رسول الله:
“وأنت فعل الله بك مثل ذلك”
فوثب كعب بن مالك وقال:
يارسول الله ائذن لي.
فقال ﷺ:
“أنت الذي تقول: هممت سخينة؟”
قال:
نعم أنا الذي أقول:
هممت سخينة أن تغالب ربها
وليغلبن مغالب الغلاب
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:
“إن اللهَ لَمْ ينْسَ لك ذلك.”
(السلسلة الصحيحة 1970)
وهكذا كان النبي ﷺ يشجع الشعراء علي الشعر ما دام الهدف نصرة الحق وإعلاء منهج الله تعالى.
وقد كان النبي ﷺ يجب سماع الشعر، إذ كان يستمع ﷺ إلي الشعر ويعجب به، بل ويشجع الشعراء عليه ما دام موافقاً للحق، سديد القول، وفي الأثر أنه ﷺ استمع للأبيات التي مطلعها:
وحي ذوي الأضفان تب قلوبهم
تحيتك الحسنى فقد ترفع النعلُ
فقال ﷺ:
“إنَّ من الشِعرِ لحكمةً وإنَّ مِنَ البَيانِ لَسِحرا” (متفق عليه)
ولقد قال لعبد الله بن رواحه:
“قُل شعرا تقتضيه الساعة أنا أنظر إليك”
فقال عبد الله ؓ:
إني تفرست فيك الخير أعرفه
والله يعلم أني ماخانني البصر
أنت النبي ومن يحرم شفاعته
يوم الحساب فقد أزرى به القدر
فثبّت الله ما أتاك من حسن
تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا
فقال رسول الله ﷺ:
“وأنت فثبّتك الله يا ابن رواحه“.
(طبقات ابن سعد، 3/2/79)
ومن روائع شعر ابن رواحة ؓهذه الابيات:
“أَشاقَتكَ لَيلى في الخَليطِ المُجانِبِ
نَعَم فَرَشاشُ الدَمعِ في الصَدرِ غالِبي
بَكى إِثرَ مَن شَطَّت نَواهُ وَلَم يَقِف
لِحاجَةِ مَحزونٍ شَكا الحُبَّ ناصِبِ
لَدُن غُدوَةٍ حَتّى إِذا الشَمسُ عارَضَت
وراحَ لَهُ مِن هَمِّهِ كُلُّ عازِبِ
تَبَيَّن فَإِنَّ الحُبَّ يَعلَقُ مُدبِراً
قَديماً إِذا ما خُلَّةٌ لَم تُصاقِبِ
كَسَوتُ قُتودي عِرمِساً فَنَصَأتُها
تَخُبُّ عَلى مُستَهلِكاتٍ لَواحِبِ
تُباري مَطايا تَتَّقي بِعُيونِها
مَخافَةَ وَقعِ السَوطِ خوصَ الحَواجِبِ
إِذا غُيِّرَت أَحسابُ قَومٍ وَجَدتَنا
ذَوي نائِلٍ فيها كِرامَ المَضارِبِ
نُحامي عَلى أَحسابِنا بِتِلادِنا
لِمُفتَقِرٍ أَو سائِلِ الحَقِّ راغِبِ
وَأَعمى هَدَتهُ لِلسَبيلِ حُلومُنا
وَخَصمٍ أَقَمنا بَعدَ ما لَجَّ شاغِبِ
وَمُعتَرَكٍ ضَنكٍ تَرى المَوتَ وَسطَهُ
مَشَينا لَهُ مَشيَ الجِمالِ المَصاعِبِ
بِخُرسٍ تَرى الماذِيَّ فَوقَ جُلودِهِم
وَبيضاً نِقاءً مِثلَ لَونِ الكَواكِبِ
فَهُم جُسُرٌ تَحتَ الدُروعِ كَأَنَّهُم
أُسودٌ مَتى تُنضَ السُيوفُ تُضارِبِ
مَعاقِلُهُم في كُلِّ يَومِ كَريهَةٍ
مَعَ الصَبرِ مَنسوبُ السُيوفِ القَواضِبِ
فَخَرتُم بِجَمعٍ زارَكُم في دِيارِكُم
تَغَلغَلَ حَتّى دوفِعوا بِالرَواجِبِ
أَباحَ حُصوناً ثُمَّ صَعَّدَ يَبتَغي
مَظِنَّةَ حَيٍّ في قُرَيظَةَ هارِبِ”
وقد كان ﷺ يسمع الغناء الشريف ويشجعه، ولا ننسى موقفه ﷺ من كعب بن زهير الذي جاءه تائباً معتذراً ومعلناً إسلامه، فأنشده قصيدته الشهيرة “بانَت سُعادُ”، فكانت سبباً في عفو النبي ﷺ عنه، بل كساه ﷺ بردته الشريفة، ووهبه مئة من الإبل. (أخرجها ابن أبي عاصم في “الآحاد والمثاني”، والحاكم في “مستدركه” وصححها، والبيهقي في “سننه” وغيرهم)
ومع ذلك فقد كان النبي ﷺ يستنكر علي الشعراء شعر المجون والخلاعة، ويستنكر الشعر الذي هدفه إثارة الغرائز، وجرح الأعراض، وإثارة الأحقاد، فالشعر كلام حسنه حسن وقبيحة قبيح، والله عزوجل قد استثنى الصالحين من الشعراء فقال عزوجل:
﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ . أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ . وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ .﴾ (سورة الشعراء)
ولقد حفظ النبي ﷺ بعض مايقوله الشعراء كما تقدم، وكان يصحّحه وينتقده، فلقد مَرَّ ﷺ يوماً ببعض طرق مكة ومعه أبو بكر الصدّيق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فسمع من ينشد:
أَيُّها الرَجُلُ المُحَوِّلِ رَحلَهُ
هَلّا نَزَلتَ بِآلِ عَبدِ الْدارِ
فالتفت رسول الله ﷺ إلى أبي بكر ؓوقال:
“يا أبا بكر، أهكذا قال الشاعر؟”
قال:
لا والذي بعثك بالحق، ولكنه قال:
يا أَيُّها الرَجُلُ المُحَوِّلِ رَحلَهُ
هَلّا نَزَلتَ بِآلِ عَبدِ مَنافِ
فتبسم رسول الله ﷺ وقال:
«هكذا سَمِعْتُ الرواةَ ينشدونه»
(السيرة الحلبية، باب نسبه الشريف)
وهكذا كان النبي ﷺ خير قدوة ومَثَل للمسلم الذي يلتزم منهج ربّه، ولا يقف ضد أحاسيس الإنسان ومشاعره الطاهرة النبيلة.
ومن الأثر عن شريح أن أُمّ المؤمنين عائشة ؓسُئلت:
هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟
قالت:
«كان يتمثل من شعر ابن رواحة، وربما قال: “ويأتيك بالأخبار من لم تُزوَّد“. هذا الشعر لطرفة من معلَّقته. (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح)
وعن أبي هريرة ؓقال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“إِنَّ أَصْدَقَ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلا اللَّهَ بَاطِلٌ وَكَادَ ابْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ.” (متفق عليه)
وقد قال ﷺ ذلك عندما سمع شعره.
وعن جندب بن سفيان البجيلي ؓقال:
“أصاب حجرُ إصبعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدميت، فقال:
“هَلْ أَنْتَ إِلَّا أُصْبُعٌ دَمِيتِ
وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ”
(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)
وعن البراء بن عازب ؓقال له رجل: “أفررتم عن رسول الله ﷺ يا أبا عمارة ؟ فقال: لا والله ما ولَّى رسول الله، ولكن ولى سرعانُ الناس، يَلَقتهم هوازن بالنبل، ورسول الله ﷺ على بغلته وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بلجامها ورسول الله ﷺ يقول:
«أنا النبيُّ لا كَذِب، أنا ابْنُ عبد المُطّلب».” (متفق عليه)
وعن البراء ؓقال:
“كان رَّسُولُ الله ﷺ ينقل التُّرَابَ يوم الخندق حتى اغْبرَّ بطنه يقول:
«وَاللَّهِ لَوْلا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا
وَلا تَصَدَّقْنَا وَلا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا
وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا
إِنَّ الأُولَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا
إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا»
وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ: أَبَيْنَا أَبَيْنَا.”
(متفق عليه)
وكذلك الصحابة كانوا يقولون الشعر حيث قال الشعبي:
“كَانَ أَبُو بَكْر رَضِّيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهِ يِقُول الشِّعْر، وَكَانَ عُمْر رَضِّيَ اللّه تَعَالَى عَنْهُِ يِقُول الشِّعْر، وَكَانَ عُثْمَان رَضِّيَ اللّه تَعَالَى عَنْهُِ يِقُول الشِّعْر، وَكَانَ عَلَيٌَّ رِضًى اللّه تَعَالَى عَنْهُ أَشْعَر الثَّلَاثَةَ”.” (مصنف ابن أبي شيبة 8/698. وخرجه ابن عساكر في “تاريخه”)
إذن الشعر ليس سواء فهو فنٌّ نبيل ولكن ذو حدّين، فيه الحلال وفيه الحرام مثلما يوجد في باقي الأمور الأخرى. فحلال الشعر خير وحرامه شر.
ولقد بيَّنَ الإمام المهدي والمسيح الموعود عَلَيهِ السَلام حينما ردَّ على المسيحيين وأعداء الإسلام الذين يتَّهمون القرآن المجيد بأنه مجرد شعر لا يرقى حتى إلى أشعار الحريري والفيضي، وكأن المعارضين جميعاً نفس الملة في العقلية، إذ نفس التهمة يثيرها اليوم خصوم الجماعة الإسلامية الأحمدية ضد المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام الذي يدافع عن القرآن الكريم ويفند هذه التهمة الواهية كما يلي:
“نِعمَ ما قال اللهُ تعالى عنهِم: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ . أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ . وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ۗ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (الشعراء: 225-228). أي لا يتبع الشعراء إلا الذين تركوا طريق الحق والحكمة. ألم تر أن الشعراء يجوبون كل فلاة بحثا عن القوافي والسجع والمضمون ولا تثبت قدمهم على الأمور الحقة. والظالمون الذين يشبّهون كلام الله الحق بكلام الشعراء سيعلمون قريبا أي منقلب ينقلبون. فعلى كل عاقل أن يفكر الآن؛ هل من إجحاف أكبر من تشبيه الحق الصراح باللغو البحت، وعَدّ الظلام مثل النور؟ هل تماثل هذه الكتب -التي علت وجوهها بصمة سخف الكلام والكذب والهذيان حتى تبعث رؤيتها كل ذي قلب طاهر على القرف والاشمئزاز- هذا الكتاب المقدّس (القرآن) بحال؟ وهل تُعَدُّ الكتب المذكورة التي موادها فاسدة مثل دم المجذوم مساويةً لهذه الصحف المطهرة؟ كلا، ثم كلا. إن التعصب والتعنت بلاء شديد لا يترك العقل والفطنة سليمة، ولا تسلم منه حاسة السمع والبصر، ويجب على المرء أن يفكر على الأقل أنه لو شبّه أحد دون مبرر شيئين لا توجد بينهما أدنى مشابهة أو مماثلة لكانت النتيجة النهائية دائما أن يسميه العقلاء مجنونا أو مختل الذهن. فيا أيها المسيحيون، عليكم ألا تحذوا حذو الهندوس. لقد كان فيكم في زمن نزول القرآن الكريم كثير من القساوسة طيبو الطوية الذين لم تكن تتوقف دموعهم عند سماعهم القرآن الكريم. تذ ّكروا هؤلاء القسيسين الأبرار الذين ذُكرت شهادتهم في القرآن الكريم أنهم كانوا يخِرّونَ للأذقان بسماعهم القرآن، فجعلتهم عظمة القرآن الكريم ينطقون بشهادة الإسلام ويقّرون بأفضليته على جميع الكتب الموحى بها. أما الآن فلا يساوي القرآن نفُسه في أعينكم كلاًما سخيفا للحريري والفيضي! اعلموا أن هذا الكفر الكبير لا يروق لله تعالى بحال. لو استطعتم أن تأتوا بنظير القرآن الكريم في كمالاته الظاهرية والباطنية لانتهت القضية تماما، ولكنكم عاجزون وساكتون عن الإتيان بنظيره. فلا أدري لماذا لا ترون مع أن لكم عيونا، ولماذا لا تسمعون ولكم آذان، وكيف لا تفقهون ولكم قلوب؟ لو كان الحريري والفيضي من العقلاء مثلكم لاّدعوا بأنفسهم الإتيان بنظير القرآن الكريم. ولكن ندعو الله تعالى ألا ينحطَّ عقل مثّقف إلى هذه الدرجة. قولوا بالله عليكم أّي كلام تملكونه يعلن كما يعلن القرآن الكريم قائلا: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء:89)، ويقول أيضا: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:24)، {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة: 25). فأكرر وأقول: قبل أن تتجشموا عناء البحث عن كلام مثل القرآن الكريم، من واجبكم أن تتأكدوا هل هناك كلام آخر ادّعى ما اّدعاه القرآن الكريم كما رأيتم في الآيات المذكورة آنفا؟ لأنه لو لم يّدع متكلم أن كلامه عديم النظير والمثال ويعجز عن مواجهته والإتيان بنظيره الجن والإنس كلهم أجمعون، لكان َمَثل عدّ كلامه عديم النظير دون مبرر كمثل ما يُقال في المثل الأردي ما مفاده: المدّعي لا يحرك ساكنا ولكن الشهود متحمسون. وإضافة إلى ذلك يجب الإثبات -عند عدّ كلامٍ نظيَر القرآن الكريم وشبيهه- أن هذا الكلام يشمل كمالات ظاهرية وباطنية كما يشملها القرآن الكريم، لأنه لو لم يكن للكلام الذي قُدِّم نظيرا ومنافسا أي نصيب من كمالات القرآن، فإن تقديمه نظيرا ليس إلا غباوة وحمقا. تذكّروا جيدا أنه كما أن الإتيان بالنظير والشبيه للأشياء الصادرة من الله تعالى مستحيل، كذلك الإتيان بنظير القرآن الكريم أيضا مستحيل. لهذا السبب اضطر فحول الشعراء العرب -الذين كانت العربية لغتهم الأُم وكانوا مطلعين جيدا على مذاق الكلام بطبيعتهم وبناء على اكتسابهم أيضا- للاعتراف بأن القرآن الكريم يفوق قدرات البشر. وذلك لا يقتصر على العرب فقط، بل الحق أنه كان من بينكم أيضا كثير من العميان الذين بدأوا يبصرون بسبب هذا النور الكامل، وكان هناك كثير من الصم الذين أصبحوا يسمعون ببركته. والآن أيضا لا يزال النور نفسه يزيل الظلمَة من كل الجوانب والنواحي، ولا تزال أنوار القرآن الكريم الحقة تُنوّر القلوب. بل الحق أنه بقدر ما تفتح عيون الناس يعترفون بعظمة القرآن الكريم؛ فإن كبار المتعصبين من الإنجليز الذين يُدعَون حكماء وفلاسفة قد أعلنوا بأعلى صوتهم أن القرآن الكريم عديم النظير فصاحةً وبلاغةً. وقد اضطر المسيحي المتحمس كاد فري هيكنس ليقول في البند 221 من كتابه بأن العبارات العظيمة التي توجد في القرآن الكريم، قد لا يمكن العثور في العالم كله على ما يزيد عليها في الدنيا كلها. كذلك اضطر يوت ليشهد في كتابه الشهادة نفسها.” (البراهين الأحمدية، ص 506)
ثم بيَّنَ بنفسه عَلَيهِ السَلام أنه لم يكن يرغب بقرظ الشعر لولا حُب مدح سيده المصطفى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقول حضرته:
“ولـو كــان مــاء مـثـل عسل بـطـعـمــه
فواللهِ بـحـر المصـطفى منـه أعـذب
مـدَحـتُـكَ يا محبوبُ مِن صِدق مُهجتي
ولـولاك ما كنّـا الى الشـعـر نـرغـب”
(الدرر الثمينة)
ونقتبس لكم من نظم حضرته عَلَيهِ السَلام بضعة أبيات في مدح خاتم النبيين مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يـا عينَ فيـضِ اللهِ والعِــرفانِ
يَسعَى إليكَ الخَلْقُ كالظَّمـآنِ
قوم رأوك وأمـةٌ قد أُخــــبرتْ
من ذلك البدر الذي أصـباني
يبكون من ذكر الجمـــال صبابة
وتألـمًا من لوعة الهجــران
قَــد آثروك وفارَقُـوا أحـبابَهم
وتَباعَدُوا مِن حَلْقة الإخـوانِ
ظَهرتْ عليـــهم بَيِّناتُ رسولِهم
فتَمزَّقَ الأهواءُ كالأوثـــانِ
قاموا بإقدام الرسول بغـــزوهم
كالعاشق المشغوف في الميـدانِ
فدَمُ الرجال لصدقهم في حُبــهم
تحت السيـوف أُريقَ كالقربانِ
جاءُوكَ مَنهُوبـيـنَ كَالـعُـريان
فستَرتَهم بِمَلاحفِ الإيمــانِ
حتى انـثَنى بَرٌّ كَمِثــلِ حديقةٍ
عَذْبِ الْمَوارِدِ مُثمِرِ الأَغصانِ
عادت بلادُ العُرْبِ نحوَ نضارةٍ
بعد الوَجَى والمَحْلِ والخسرانِ
كَمْ شارِبٍ بالرَّشْف دَنًّا طافِحًا
فجعَلتَه في الدِّين كالنَّشـوانِ
كَمْ مُحْدِثٍ مُستـنطِقِ العِيدانِ
قد صـارَ مِنك مُحدَّثَ الرحمنِ
كَمْ مستهامٍ لِلرَّشُوفِ تعشُّـقًا
فجـذَبتَه جَـذْبًا إلى الفُرقانِ
أَحييتَ أمواتَ القـرونِ بِجَلْوةٍ
ماذا يُماثِلكَ بهـذا الشــانِ
يا لَلفتَى ما حُسـنُه وجَمالُــهُ
رَيـّاهُ يُصبِي القَلبَ كالرَّيحانِ
وجهُ المهيمِنِ ظاهِــرٌ في وجهِهِ
وشُـئونُهُ لَمَعتْ بـهذا الشانِ
لا شَكَّ أن مُحمـدًا خيرُ الْوَرى
رَيْقُ الْكِـرامِ ونُخْبةُ الأعيـانِ
تَمَّتْ عليـهِ صِفاتُ كُلِّ مَزِيّـةٍ
خُتِمتْ به نَعْماءُ كُلِّ زمــانِ
واللهِ إن مُحمـدًا كَـــرَدافةٍ
وبهِ الْوُصولُ بِسُدّةِ السُّـلطانِ
هو فَخرُ كُلِّ مُطهَّرٍ ومُقــدَّسٍ
وبه يُباهي الْعَسكرُ الرُّوحـانِي
هو خيرُ كُلِّ مُقـرَّبٍ مُتقـدِّمٍ
والفَضـلُ بالخيراتِ لا بِزَمـانِ
يَا رَبِّ صَلِّ على نَبِيِّك دائِــمًا
في هذه الدنيا وبَعْثٍ ثــانِ
يا سيّدي قد جئتُ بابَك لاهـفًا
والقومُ بالإكفــار قد آذاني
اُنْظُـرْ إليّ برحمـةٍ وتحــنُّـن
يا سـيِّدِي أنا أحقَـرُ الْغِلمانِ
يا حِبِّ إنك قد دَخَلْتَ مَحـبّةً
في مُهْجَتي ومَـدارِكي وجَناني
مِن ذِكر وَجْهِكَ ياحديقةَ بَهجَتي
لَـمْ أَخلُ في لَحْظٍ ولا في آنِ
جسمي يَطِيرُ إليكَ مِن شوق عَلا
يا ليتَ كانت قـوّةُ الطيَران
فهذا هو غرض كتابة الشعر عند المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام، وهكذا كان المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام يرتقي بالشعر مدحاً للنبي ﷺ لا غير، وليس في كلامه نصيب من الشعر كما في الوحي الذي تلقاه حضرته سنة 1906، أي لا يشوب كلامه شيء من شعر الهوى والضلال بل كلّه مدح للنبي ﷺ وطلب الوصال مع المحبوب الأزلي ربّنا الله ذي الجلال.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ