شهد الأدب العربي في الجاهلية، ثم ابتداء من العصر الأموي خاصة، بروز فنِّ المعارضات والنقائض في الشعر؛ وهو أن ينظم شاعر قصيدة على نفس الوزن والقافية التي نظم عليها شاعر قبله معاصر أو سابق، ويستخدم تعابيره وصوره الشعرية إلى حد كبير ليُظهر براعته. والفرق بين المعارضات والنقائض أن المعارضات تكون في نفس الموضوع ولا يحاول الثاني نقض الأفكار التي لدى الأول، أما النقائض فتحتوي نقضا للأول أو على الأقل تتناول موضوعا آخر.
وقد عرف الأدب العربي معارضات كثيرة، وأشهرها قصيدة البردة للبوصيري التي عارضها عدد من الشعراء ومنهم أحمد شوقي أخيرا، الذي أيضا كتب معارضة لسينية البحتري. أما النقائض فأشهرها نقائض الفرزدق وجرير. ومن أشهر أبيات النقائض المعروفة بينهما ما قاله الفرزدق:
إنَّ الذي سمكَ السماءَ بنى لَنَا…… بيتًا دعائمُهُ أَعَزُّ وأَطْوَلُ
فرد عليه جرير:
أخزى الذي سمكَ السَّماءَ مُجَاشِعًا……وبنى بِنَاءَكَ في الحَضِيضِ الأَسْفَلِ
ونقائضهما خالدة في الأدب العربي.
وقد كان الاهتمام منصبا إلى حد كبير على الشعر لأنه كان أهم صنوف الأدب العربي، يتلوه إلى حدٍّ ما فن الخطابة المرتجلة الذي شهد شيئا شبيها بالمعارضات، ولكن لم يكن الأمر ظاهرةً كما كانت ظاهرة المعارضات والنقائض.
أما المعارضة النثرية، فلم يشهدها الأدب العربي من قبل، وكان المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام بحق رائدها ومجددها بلا منازع. فقد ضمَّن كتبه العربية تعابير من الحريري والهمذاني، واستطاع بكل اقتدار أن يوظِّفها توظيفا رائعا لتقديم المعاني والمعارف الدينية العميقة، وأخرجها من إطارها العابث اللاهي الذي وضعت من أجله. وهذا الفن بحق يستحق أن يُدرس دراسة مستوفية من الباحثين ليصبح نموذجا يحتذى، علما أنه ليس فنًّا سهلا ولا يقدر عليه إلا من أعطي بسطة في علم العربية وأساليبها ومفرداتها وتعابيرها وصورها، وهذا ما تيسر للمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام الذي علَّمه الله تعالى أربعين ألفا من هذه الجوانب في العربية والتي تُسمَّى اصطلاحا بـ “لغات”.
وقد تحدى المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام معارضيه ليأتوا بمثل ما أتى، وأن يضمِّنوا أدبهم هذا الفنَّ، ولكنهم وقفوا عاجزين، وفرَّوا من خزيهم لعدم قدرتهم على مجاراته بالادعاء أن هذا الفن الذي استخدمت فيه تعابير ومفردات وردت في أدب سابق على أنه “سرقة”! وبذلك فقد أعلنوا عجزهم وحاولوا التغطية على هذا العجز بإثارة هذه التهمة السخيفة، مع أن هذا الفنَّ ليس إلا فرعا للفن الأصلي الذي هو فنُّ المعارضات والنقائض الشعرية، ولو صحَّ نسبة هذا الفن إلى السرقة لكان أولى أن توصف به المعارضات والنقائض، وهذا ما لا يقول به عاقل. علما أن حضرته عليه الصلاة والسلام قد مارس فن النقائض مع بعض شعر الحريري ومارس المعارضة وخاصة مع الخليفة الأول نور الدين القرشي وأثبت براعته في هذا الفن أيضا.
واليوم، ما زالت أعماله في كتبه العربية معروضة والتحدي الذي فيها مطروحا ليقوم من استطاع بما قام به حضرته ويأتي بمضامين ومعانٍ كالتي أتى بها، ولكن لم يستطع أحد من معارضيه الذين عاصروه وإلى اليوم أن يأتوا بشيء من هذا أو حتى أن يحاولوا، وبذلك ثبت طول باعه وعلوُّ كعبه، وثبت صدقه أيضا؛ إذ إن هذه القدرة الإعجازية إنما هي آية ربانية من آياته الكثيرة التي أعطاه الله تعالى إياها.
واليوم، ما زال بعض السفهاء يجترُّون أسلوب الفُرَّار المهزومين الذين فرَّوا من وجه حضرته، ويدَّعون بكل سخف وبذاءة بأن حضرته قد سرق من الحريري أو الهمذاني أو الشعر الجاهلي، وهم عاجزون على أن يأتوا بسطر واحد يضاهي ما قدمه حضرته عليه الصلاة والسلام. وبذلك فإن هؤلاء يقدِّمون بخزيهم وانهزامهم وعجزهم – مع رفع عقيرتهم بالاتهامات السخيفة – صورة متجددة لهذه الآية، ويلفتون الانتباه دون قصد أو وعي منهم إلى هذه الإبداعات والابتكارات التي أتى بها حضرته؛ هذه الابتكارات التي سيطَّلع عليها الباحثون المنصفون يوما وتصبح فروعا من الأدب العربي تدرَّس في الجامعات، وسيعترف العالم بهذا التجديد اللغوي العظيم الذي لم يخطر ببال أحد من العرب من قبل.