النبي، وفقا لمصطلح القرآن الكريم، وهو الذي يختاره الله ويسميه نبيًّا، ويظهره على الغيب، ويرسله بمهمة معينة، لقوله تعالى:
{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (الجن 27-28)
وهذا هو التعريف القرآني الدقيق للنبوة.
أما الغيب الذي يظهره الله عليه فهو ليس غيبا عشوائيا، بل يكون مصطبغا بصبغة البشرى والإنذار، لقوله تعالى:
{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } (الأَنعام 49)
فهو يحمل البشرى لمصدقيه بالفوز والترقيات المادية والروحانية، ويحمل الإنذار لمكذبيه أو لمن لم يؤمنوا به بالهلاك والدمار، لأن طريق الفوز والنجاة في عصره هي طريقه وحدها.
ووفقا لهذه المعايير، نرى أن المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام نبي بهذا المعنى؛ فهو قد سُمي نبيا من الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم الذي كرر فيه أنه نبي الله أربع مرات، وناداه الوحي بالنبي والرسول منذ البدايات، وأظهره الله تعالى على الغيب بكثرة من خلال النبوءات الكثيفة القريبة والبعيدة، وسيرة حياته كانت بشرى للمؤمنين به تَحقَّق كثير منها وإنذار وتحديات ومباهلات ثبت فيها أن الحق معه، وهو قد أُرسل بمهمة إحياء الدين في النشأة الموعودة الثانية للإسلام التي أنبأ عنها القرآن الكريم في سورة الجمعة وغيرها، والتي أنبأ عنها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث نزول المسيح وظهور المهدي. فأركان النبوة لديه مكتملة وفقا لهذا التعريف القرآني.
ويقرُّ الفكر التقليدي على كل حال ضمنيا أن المسيح الموعود والمهدي يجب أن يكون نبيا؛ وهذا لأنه لا خلاف بين من يؤمن بنزول المسيح وقدوم المهدي أن الله تعالى هو الذي سيختاره، وأن الإيمان به واجب، وتكذيبه كفر، وهذا لا يكون إلا لنبي.
ولكن، ما الذي تختلف فيه نبوة المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام عن غيرها من النبوات؟
اعلم أنه يشترك مع الأنبياء جميعا في هذا الأصل الذي هو حقيقة النبوة، ولكنه لا يشترك معهم في خصائص لازمت النبوات السابقة جميعا؛ وهي التشريع والاستقلال. ويُقصد بالتشريع هو الإتيان بشريعة جديدة، ويُقصد بالاستقلال هو أن يكون له سلطة على الشريعة التي يتبعها بحيث يضيف إليها شيئا أو يحذف منها شيئا تبعا لما يأمره الله تعالى. فهو ليس نبيا كمثل الأنبياء السابقين بهذا المعنى، أما من حيث حقيقة النبوة فهو مشترك معهم فيها.
ومنذ أن أمر الله تعالى المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام بمهمة تجديد الدين والدفاع عنه، في زمن البراهين الأحمدية الذي كان منذ عام 1882، ناداه الله نبيا ورسولا ومرسلا، ولكنه كان يؤول هذه الوحي بقوله إنه ليس نبيا إلا بالمعنى اللغوي الذي لا يعني سوى كثرة الإنباء، لأنه كان يرى حينها أن النبي لا يكون نبيا إلا إذا كان تشريعيا أو مستقلا، وهذا هو التعريف التقليدي للنبوة؛ إذ أن النبوة في التعريف التقليدي تعني أن النبي يجب أن يكون صاحب شريعة أو يكون له سلطة على الشريعة. فهو كان يقبل أن يسمى نبيا بالمعنى اللغوي ويرفض وينفي أن يكون نبيا بالمعنى الحقيقي.
ثم بعد أن أنبأه الله تعالى بأنه المسيح الموعود، وأن عيسى عليه السلام قد توفي ولن يعود، وذلك في أواخر عام 1890، وتكاثف الوحي عليه الذي يدعوه بالنبي والرسول والمرسل، كان يقول إنه نبي بالمعنى المجازي؛ لأنه ليس صاحب شريعة وليس لديه سلطة على الشريعة، وهذا كله بناء على التعريف التقليدي للنبوة. فاستمر في نفي النبوة الحقيقة وإثبات النبوة المجازية.
وفي عام 1901، أوحى الله تعالى إليه وأمره بأن يعلن أنه نبي حقيقي – وقد ذكر هذا الأمر الإلهي بوضوح في كتاب حقيقة الوحي 1907 لاحقا- وذلك وفقا للتعريف القرآني الذي ظنه حضرته في البداية أنه ليس أكثر من تعريف لغوي، ولكنه بالطبع ما زال غير مشرِّع وغير مستقل. فاستمر في نفي النبوة الحقيقية التي في أذهان الناس والمرتبطة بالتشريع والاستقلال، وأثبت نبوة حقيقية هي النبوة التي وردت في تعريف القرآن الكريم، والذي هو التعريف الصحيح والدقيق للنبوة؛ إذ لا علاقة للاستقلال والتشريع بأصل النبوة وحقيقتها.
وهكذا نراه كان دوما ينفي نبوة ويثبت نبوة؛ ففي البداية أثبت النبوة لنفسه بالمعنى اللغوي ورفضها بالمعنى التقليدي، وثانيا أثبتها بالمعنى المجازي ورفضها بالمعنى التقليدي، وثالثا وأخيرا أثبتها بالمعنى الحقيقي وفقا للتعريف القرآني بأمر من الله تعالى، ورفضها بالمعنى التقليدي الذي في أذهان الناس. فهو نبي حقيقي وفقا لمصطلح القرآن الكريم، وليس نبيا وفقا لما في أذهان الناس تقليديا؛ إذ أن النبي عندهم لا يكون سوى تشريعي أو مستقل.
وبفهم هذه الخلفية، نرى أن حضرته عليه الصلاة والسلام – وإن كشف الله تعالى عليه حقيقة النبوة متأخرا- إلا أن دعواه لم تختلف من البداية إلى النهاية، فهو من البداية إلى النهاية يثبت لنفسه نبوة ويرفض نبوة، وهذا هو موقفنا، إذ إننا نراه نبيا حقيقيا بهذا المعنى، ولكننا لا نراه نبيا مستقلا أو تشريعيا. وقد كتب حضرته كُتيِّب إزالة خطأ عام 1901 ليؤكد هذه الحقيقة ويزيل الخطأ الذي قد تولَّد عند البعض بعدم فهم هذه النقاط. وبفهم ما تقدَّم يمكن أن نفهم النصوص كلها التي ذكر فيها حضرته نبوته، وسنعلم أنه لا تناقض بينها من البداية إلى النهاية.
أما ما علاقة نبوته بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم؟
فاعلم أن نبوته مستمدة من نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي ليست سوى ظلٍّ لها، إذ نالها بفضل فنائه في حب النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته وفقا لقوله تعالى:
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } (النساء 70)
ومعنى الفناء الكامل في الطاعة هو أنه لا يمكن أن ينال النبوة إلا بهذه الطريق، ولا يمكن أن يستقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن يضيف حرفا إلى الشريعة أو يحذف حرفا، بل إن فناءه في الحب والطاعة ستجعل نبوته ظلا لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم لا تنفصل عنها، كما لا ينفصل الظل عن الأصل. لذلك كان حضرته عليه الصلاة والسلام يكرر من أول بعثته إلى آخرها، أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ولا نبي بعده، وهو آخر النبيين ولا يمكن أن ينزل عيسى من السماء أو أن يظهر نبي آخر غيره من بعده قديما كان أو حديثا، وكان يقصد بذلك يقصد النبوة المستقلة المنفصلة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي انتهت إلى الأبد.
والآن، هل يُمكن أن يبعث نبي في الأمة الإسلامية بعد المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام؟
اعلم أن الله تعالى قد أقام الخلافة الراشدة الثانية الموعودة بعد حضرته، التي أنبأ عنها القرآن الكريم والنبي صلى الله عليه وسلم في حديثه، والتي ستستمر إلى الأبد، والخلافة هي نائبة النبوة، فلا يمكن أن يُبعث نبي في الأمة خارج نطاق الخلافة، بل قد يصبِّغ الله تعالى أحد الخلفاء بهذه الصبغة، فيكون خليفة من حيث نظام الخلافة ونبيًّا من حيث الاصطفاء وفقا لتعريف النبوة القرآني الذي ذكرناه، كما كان سليمان خليفة أبيه داود عليهما السلام في المُلك وكان نبيا بالاصطفاء. وهذا يكون عندما يشاء الله أن يأمر بمهمة جديدة تلائم الظروف، ولا تكون خارجة عن تعاليم الإسلام وشريعته.
وقد أخبر المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام أن مسيحا جلاليا سيبعث عندما تعود الحروب الدينية في آخر الزمان، وسيتصدى للعدوان على الإسلام كما كان في صدر الإسلام. ولكن هذا في المستقبل البعيد، وهذا المسيح سيكون قد اختير خليفة من حيث نظام الخلافة، وسيكون نبيًّا من حيث الاصطفاء والمهمة التي ستوكل إليه. فالمقصود بالمسحاء في المستقبل الذين ذكرهم المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام في مواضع مختلفة هم الخلفاء، الذين منهم من قد ينال مقام النبوة أيضا ليكلف بمهمة تلائم العصر، ولكنه في كل حال، لن ينقض شيئا من الإسلام ولن يضيف حرفا أو يزيد حرفا، وكذلك لن ينقض شيئا مما جاء به المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام، لأنه سيكون خليفته وتابعه أيضا.
وبالنظر إلى كل ما تقدم، نستطيع أن نفهم حقيقة النبوة، ونفهم نصوص المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام كلها وخلفائه، وسيتضح أنه لا تناقض البتة فيها، بل هي متوافقة متجانسة متكاملة.