أنْ يحكمَ الإنسان على ما في قلب الإنسان، ولا يرضى بتصريحه الظاهر، و يفرضَ عليه عقائد لا يقول بها، هذا هو الظلم العظيم والإثم الذي يحرِّمه الإسلام. ولهذا فإن من يدَّعي الإسلام، أو يدَّعي الانتماء لأي دينٍ أو ملة، فلا حق لأحد أن يرفض ادعاءه، كما لا يحق لقانون أن يعرِّفه بغير ما عرَّف به نفسَه.
كذلك فإن الإسلام لا يجرِّم المعتقدات أيًا كانت، ولا يعاقب عليها، وإنما يجرِّم الأفعال أو الأقوال التي فيها عدوان على الآخرين، ويجرِّم أيضا التحريض عليها والتأصيل لها، ويحضُّ على تقنين قوانين تعاقب على العدوان والتحريض عليه.
ولكن هذا لا يعني أن الإسلام لا يحرِّك ساكنا في تفنيد العقائد الفاسدة وإبطالها، بل على العكس، فهو يشنُّ حربا ضروسا عليها، ومن أهدافه أن يكشف فسادها للناس لكي يلتفتوا إلى الإله الحق الذي في عبوديته خيرهم وفوزهم وإلى الدين الحق الذي في اتباعه نجاتهم. والواقع أن الإسلام يعتبر كل انحراف عن هذا الإله الحق وعن هذا الدين الحق هو كفر، وأن من واجب الناس أن يستمروا في رحلتهم من الكفر إلى الإيمان، بأن يقبلوا الله إلها واحدا لا شريك له وأن يقبلوا الإسلام دينا، ثم بأن يسعوا لإزالة كل اعتقاد فاسد عالق عندهم، أو طارئ عليهم، يحرفهم عن حقيقة التوحيد وعن صحة المعتقدات.
لذلك فإن واجب الدعوة إلى الإسلام يفرض أن يتم تعريف الاعتقاد الصحيح وتوضيحه، وإبطال الاعتقاد الفاسد وتفنيده، وتبيان فساده ومدى الكفر والانحراف فيه، وهذا هي الدعوة التي أوجبها الإسلام، وهذا هو واجب النبي صلى الله عليه وسلم أولا، ثم الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام، وواجب الدعاة، وواجب كل مسلم.
لذلك نجد في القرآن الكريم آيات تعلن كفر معتقدات بكلمات مباشرة واضحة لا مداهنة فيها، كقوله تعالى:
{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } (المائدة 18)
{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ } (المائدة 74)
هذا رغم أن الإسلام يعطي الناس كافة الحرية في اختيار ما يشاؤون من المعتقدات والملل، بل ويكفل لهم حرية الاعتقاد بها.
فهل هنالك تناقض بين إعلان كفر اعتقادٍ ما وبين حرية الآخرين في اعتناقه؟
ومن ناحية أخرى، فإن القرآن الكريم يعلن أيضا كفر معتقدات جزئية قد ينزلق إليها المسلم، كما يعتبر أن بعض التصرفات من أقوال وأفعال قد تحرفه إلى الكفر وتخرجه من الإسلام وتنقض إيمانه عمليا حتى لو لم يعلن بنفسه خروجه من الإسلام. لذلك نجد أن القرآن الكريم يعلن كفر المنافقين، كما في قوله تعالى:
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ } (المنافقون 4)
كما أن القرآن الكريم يزخر بآيات كثيرة تبين أن اعتقادا ما أو سلوكا ما هو كفر يجب أن يجتنبه المؤمن، كما جاء ذلك بكثرة في الأحاديث الشريفة أيضا.
وهذه في الواقع أحكام عامة على معتقدات وسلوكات وليست أحكاما قضائية على أشخاص بعينهم. والهدف الحقيقي وراء هذا أن يلتفت من وقع في اعتقادات أو تصرفات كهذه أن ما يقوم به لا ينسجم مع الإسلام ويبعده عن حقيقة الإيمان، وأنه لن يفيده ادعاؤه الانتماء إلى الإسلام ولن يحقق له النجاة. وفي الواقع فإنَّ هذا يدخل في باب المواساة للإخوة في محاولة إنقاذ من فيه بقية خير منهم، وكذلك من أجل إنقاذ من يمكن أن ينحرف وينجرف مع هؤلاء بنية حسنة. فمن علِم أن الإسلام يحكم بكفر ما يعتقد به، وكان فيه بقية من خير أو تقوى أو خشية لله، فإنه سيبادر إلى ترك هذا الاعتقاد والاستغفار والتوبة. وهذه فائدة هامة لعدم إيقاع الحكم عليه شخصيا، وهذا لأن شخصا كهذا سيستفيد من هذا الحكم، وسيثوب إلى رشده، فيصحح إيمانه ويتوب ويستغفر الله.
لذلك فقد يخلط البعض بين تكفير اعتقادات وسلوكات وحالات وبين تكفير أشخاص. فإيقاع حكم على أشخاص، مهما بدا منهم من سوء اعتقاد أو سلوك وتصرفات، هو أمر لا يعنينا ولا يترتب عليه شيء من ناحيتنا. فلا يحق لنا أن نكفِّر من ادعى الإسلام، كما لا يحق لنا أن نرفض دعوى من ادعى أنه أحمدي، ولكن من واجبنا أن نبين أن اعتقاده وسلوكه هو ومن معه هو الكفر بعينه؛ فإن كان مرتدا فهو بنفسه قد أعلن كفره وأخرج نفسه من الأحمدية وهذا شأنه، ومن لم يرتد، واستمر في اعتقاده وسلوكه ولم يرتدع، فإن فعله واعتقاده ليس سوى النفاق، ولن تفيده الدعوى الظاهرية بالإسلام أو الأحمدية شيئا. وهذا التبيان يكون ضروريا أيضا لتحذير المؤمنين من هذه الاعتقادات والسلوكات، التي يتبناها ويقوم بها من يدعي أنه ينتمي إلى الإسلام أو الجماعة، ولكي يحذروا من هذه الفئة ويبتعدوا عنهم ويتبرأوا من اعتقاداتهم وسلوكهم.
لذلك نجد أن القرآن الكريم مليء بالآيات التي تكفِّر المعتقدات الباطلة، وتحذِّر من المنافقين، وتعتبر سلوك المنافقين واعتقاداتهم المنحرفة وأقوالهم وأفعالهم كفرا. كما نجد ذلك في الحديث الشريف، ونجده أيضا في كتابات المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام وأقواله. ولو لم يكن ذلك لاختلطت الأمور على الناس، ولالتبس التوحيد، ولدخلت البدع واستشرت، ولضاع الدين من أساسه.
والعجيب أن بعض المنافقين، بدلا من أن يرتدعوا ويخشوا الله تعالى ويثوبوا إلى رشدهم، نجدهم عندما يرون حكم المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام في اعتقاد يعتقدونه أو سلوك يقترفونه بأنه كفر، نجدهم يصرون على معتقداتهم الباطلة بل ويطالبون بأن يُحكم في شأنهم خاصة لأنهم متشبثون بهذه المعتقدات! فنقول لهؤلاء إن حكمكم الشخصي لا يعنينا، ولم يصدر هذا الحكم العام إلا لفائدتكم ليردعكم وليثيبكم إلى رشدكم، ولكنكم تريدون أن تغلقوا بأنفسكم على أنفسكم طريق التوبة والرحمة حمقا وعنادا. نقول لهؤلاء إن حكم المسيح الموعود الحكمَ العدلَ عليه الصلاة والسلام ثابت لا يملك أحد أن يرده، وسيكون حجة عليكم يوم القيامة إن اخترتم أن توقعوه على أنفسكم. أما إفسادكم وتخريبكم وجرائمكم بحق جماعة المؤمنين، ومحاولاتكم المستميتة لإيقاع الفتنة، فسيحكم فيها خليفة الوقت نصره الله تعالى، لكي يعرفكم المؤمنون ولا ينخدعوا بكم، ولكي يمتاز الخبيث من الطيب.
الخلاصة أنه لا ينبغي الخلط بين تكفير الأشخاص، الذي لا يعنينا ولا يهمنا، وتكفير المعتقدات والحالات والسلوكات الذي هو من واجبنا. والتكفير المحرَّم في الإسلام هو الحكم بكفر الأشخاص بناء على ما في قلوبهم، ثم الجريمة الأكبر هي معاقبتهم على معتقدات يبطنونها أو يصرحون بها. فالإسلام لا يفرض عقوبات في الدنيا إلا على جرائم أو عدوان. ولكن هذا لا يعني أنه إن بدرت من شخص أقوال أو أفعال أو صرَّح بعقائد فإنه لا يحق لنا أن نقول له إن ما تقوله أو تفعله أو تعتقد به هو كفر! بل هذا ما هو اجبنا. فمن كان في قلبه بقية إيمان وتقوى وخشية لله فإنه سيرتدع ويثوب إلى رشده، أما المنافق الذي يعتبر تصريحنا هذا تكفيرا شخصيا له فهو كاذب مزوِّر عقد العزم على أن يركب رأسه ويمضي بعيدا في نفاقه، وسيصبح واضحا أن كل ما يريده هو أن يملا الدنيا ضجيجا وصخبا ويتهمنا اتهامات باطلة، وبذلك يتردى أكثر في هوة النفاق. نقول لمن اختار ذلك: فلتفعل ما تشاء! فمن سنة الله تعالى أنه سيستمر بتمييز الخبيث من الطيب ثم بجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم، وبئس مثوى الظالمين.