ما أروع المثال الذي أورده الإنجيل على لسان عيسى بن مريم عليه السلام؛ إذ وضع معيارا واضحا لتمييز الأنبياء الصادقين من المتنبئين الكاذبين، ألا وهو ”من ثمارهم تعرفونهم “، إذ قال:
{«اِحْتَرِزُوا مِنَ الأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَاب الْحُمْلاَنِ، وَلكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِل ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ! 16مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَبًا، أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِينًا؟ 17هكَذَا كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ أَثْمَارًا جَيِّدَةً، وَأَمَّا الشَّجَرَةُ الرَّدِيَّةُ فَتَصْنَعُ أَثْمَارًا رَدِيَّةً، 18لاَ تَقْدِرُ شَجَرَةٌ جَيِّدَةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَارًا رَدِيَّةً، وَلاَ شَجَرَةٌ رَدِيَّةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَارًا جَيِّدَةً. 19كُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَرًا جَيِّدًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ. 20فَإِذًا مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ.} (إِنْجِيلُ مَتَّى 7 : 15-20)
أي لكي نعرف مدى جودة الشجرة وكمالها ينبغي أن ننظر إلى الثمرات، فبمقدار ما تكون الثمرات جيدة نستطيع أن ندرك مدى جودة الشجرة وكمالها. وهكذا بالنسبة للمدعين، فإننا نستطيع أن نعرف صدقهم من كذبهم بالنظر إلى ثمراتهم، فلا يمكن أن نجني من الشوك عنبا ولا من الحسك تينا! ثم يقول إن الشجرة غير المثمرة سيكون مآلها القطع والقذف في النار، فلا يمكن أن تستمر دعوة متنبئ كاذب مطلقا.
وهكذا، فإن الإسلام الذي تجدد في النشأة الثانية له من خلال بعثة المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام هو شجرة مثمرة تنتج ثمارا طيبة ينبهر منها العالم، ويلمس كل عضو ينضم إلى هذه الجماعة هذا الأثر على نفسه، ويلمسه أيضا المحيطون به. وهذه الثمار تشمل كل شئون الحياة بما فيها السلوك والفكر؛ إذ يحدث في المؤمن تغيُّر طيب أخلاقيا، كما يتنور عقله بالفكر النيِّر المبهر، ويجد متعة عظيمة في التبحر في هذا العلم واكتسابه، بل يجد الترابط والتوافق العجيب بينه في أكمل صورة، فيزداد إيمانا ويقينا، ويزداد علما أيضا. وهذا وحده يكفي معيارا لمعرفة صدق المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام وصدق هذه الجماعة، خاصة أنه لا مقارنة بينها وبين غيرها مطلقا في هذا المجال.
أما المكذِّب الأعمى أو المتعامي، الذي يكون متورطا في السيئات والكذب والخيانة والسلوك القبيح، فإنه لا يرى هذه الثمرات، ولا يرى الحسنات والفضائل، لأن معياره للفضيلة مختل، ولا يستطيع أن يرى الكمال الفكري لأن عقله أعمى محروم من رؤية نور الوحي، كما الأعمى الذي لا فرق في كونه في الضوء الساطع أو في الظلام الدامس. وكذلك يكون حال المتعامي الذي يغلق عينيه، فإنه لن يرى شيئا أيضا. فيصبح هذا الشخص – خاصة إذا كان يتسم بسوء النية- غارقا في التناقضات الموهومة التي في ذهنه، ويصبح فمه المريض غير قادر على تذوق الثمرات الطيبة الفكرية وغيرها، فيراها مُرَّة، وهذا لا يغير شيئا من حقيقة أن الشجرة طيبة وأن أثمارها طيبة.
وقد بيَّن الله تعالى هذا الحقيقة في قوله:
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (آل عمران 8)
فإذا كان القرآن الكريم يتضمن محكمات واضحات لا يُختلف عليها ويتضمَّن متشابهات قد لا يفهمها كل إنسان بسهولة -وهذا لأغراض هامة منها أنها تتضمن علوما وأنباء ستتضح في حينها وتستمر في الظهور كالثمرات الناضجة في كل حين- فإن هذه المتشابهات ستبدو للجاهل الأعمى أو المتعامي كتناقضات، فمنهم من يسعى لتأويلها بصورة غير صحيحة بغير علم، وهذا يقع في الخطأ، ومنهم من يستخدمها وسيلة لإثارة الفتنة. أما الراسخ في العلم فإنه يؤمن ألا تناقض، ويجتهد في سبيل إزالة هذا التناقض الظاهري، فيهديه الله تعالى سبله، فيزداد علما ويزداد إيمانا. فالجاهل الأعمى أو المتعامي سيئ النية يتعثَّر بهذه المتشابهات والعالم يزداد علما وإيمانا بالاجتهاد فيها. وهكذا فإن الجاهل يرى التناقضات، بينما الراسخ في العلم يرى ألا تناقض، ويهديه الله للتوفيق بين ما أشكل على الناس فهمه.
والواقع إن رحلة العلم هي رحلة من المتشابهات إلى المحكمات، أو من الغيب إلى الشهادة، إذ بالعلم نحوِّل المتشابه إلى محكم ونكشف أسراره بمعونة الله، وبالعلم نحوِّل الغيب الغائب عن العيون والأذهان إلى شهادة مشهودة ملموسة. وهذه هي رحلة العلم التي اختطها الله تعالى والتي يترقى فيها إيمان المؤمن تلقائيا بعد أن يزداد علما، إذا استعان بالله تعالى وتحلَّى بحسن النية.
لذلك فإن الجاهل الذي يرفع عقيرته صارخا: “تناقض .. تناقض!” إنما يكشف عن جهله وقصور فهمه وعمى قلبه، وأنه لم يُعطَ نصيبا من العلم، بينما يتسم العالِم بالهدوء والتدبِّر والاجتهاد وعدم التسرع منطلقا من أن النظام المتكامل المحكم المثمر الذي أنشأه الله تعالى ليس متناقضا في أصلها، وإنما التناقض ظاهري نتيجة لقصور الفهم وقلة العلم.
وعلى كل حال، فعندما يثير الجهلة تناقضاتهم المزعومة فإن سيؤدي إلى زيادة العلم، فيطلع المؤمنون على ما يراه هؤلاء تناقضات ليرونها أنها ليست بتناقضات بل ثمرات رائعة جميلة تزيدهم علما وتزيدهم إيمانا.
فلا قيمة لانتقاد من كافر أو مكذِّب في ادعاء وجود تناقضات ورفع العقيرة بها، لأن رؤيته مختلة ناهيك عن نيته السيئة، والواجب على هؤلاء بدلا من أن ينتقدوا هذه الشجرة المثمرة أن يأتونا بشجرة خير منها أو أن يصمتوا إلى الأبد، إلا أذا استمرأوا الخزي الذي ينالهم كل يوم واستعذبوه.