براعة المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام في معارضته لمعلقة طرفة بن العبد
ذكرنا بأن المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام كان مبدعا في شعر المعارضات، وقد ابتكر أيضا المعارضة النثرية كما بينَّا أمثلتها في الحريري، وبينَّا كيف ارتقى حضرته بالكلمات والمعاني والتعابير ووظفها أروع توظيف.
وسأعرض الآن جانبا من معارضة المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام لمعلقة طرفة بن العبد، وكيف استطاع بكل براعة توظيف عباراته وكلماته لتخدم غرض حضرته في إثبات أنه مبعوث ومأمور من الله، بينما لم تكن قصيدة طرفة بن العبد سوى الغزل والبكاء على الأطلال ثم وصف الناقة ثم تمجيد اللغو واللهو وشرب الخمر والدعوة إلى الإكثار منها لأن الحياة فانية! فشتان بين رسالة المسيح الموعود السامية ومواضيع طرفة بن العبد البالية.
وللنظر الآن إلى مواضع وظَّف فيها حضرته تعابير وصور طرفة لتخدم موضوعه السامي.
قصيدة” أُمِرتُ مِن الله الكريمِ” من كتاب التبليغ
المسيح الموعود: أُمِرتُ مِن الله الكريمِ الممجّدِ … فقمتُ ولم أكسَلْ ولم أتبلّدِ
معلقة طرفة: إذا القومُ قالوا مَن فتىً؟ خِلتُ أَنَّني … عُنيتُ، فَلَمْ أَكْسَلْ ولم أَتَبَلَّدِ
المسيح الموعود: وهذا كتابي قد تلألأَ وجهُهُ … تلألُؤَ سِمْطَي لؤلؤٍ وزَبَرْجَدِ
طرفة: وفي الحَيّ أَحْوَى يَنفُضُ المَرْدَ شادنٌ … مُظاهِرُ سِمطَيْ لُؤلُؤٍ وَزَبَرْجَدِ
المسيح الموعود: وأودعتُه أسرارَ علم وحكـمة ورتّبـتُه مثلَ الثـقيفِ المسنّدِ
طرفة: أُمِرّتْ يَداها فَتلَ شَزْرٍ وأُجنِحَتْ … لَهَا عَضُداها في سَقيفٍ مُسَنَّدِ
المسيح الموعود: وقد بانَ وجهُ الحق فيه وضاحةً كخـدٍّ نقيِّ اللّونِ لم يتخدّدِ
طرفة: وَوَجهٌ كَأَنَّ الشّمسَ حَلَّتْ رِدَاءَها … عَلَيْهِ، نَقيُّ اللِّونِ لَمْ يَتَخَدّدِ
المسيح الموعود: ووالله إني من نخيل خميلة … وحِبِّي ببستاني يروح ويغتدي
طرفة: وَإنيّ لأُمضِي الهَمّ عِنْدَ احْتِضارِهِ، … بِهَوجَاءَ مِرقالٍ تَرُوحُ وَتَغْتَدِي
المسيح الموعود: وقد خَصَّني ربّي وألقى رداءَه … عليّ فما تَدرُون ما تحتَ بُرْجُدي
طرفة: أَمُونٍ كأَلواحِ الإِرَانِ نَسَأْتُها … على لاحِبٍ، كَأَنّهُ ظَهْرُ بُرْجُدِ
المسيح الموعود: وقد ذُلِّلتْ نفسي بتوفيق خالقي فليس كمثلي فوقَ مَوْرٍ معبَّدِ
طرفة: تُباري عِتاقاً ناجِياتٍ، وَأَتبَعَتْ … وَظيفاً فَوقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ
المسيح الموعود: نما كلُّ علمٍ صالحٍ في قريحتي … كأشجارِ مَولِيِّ الأسرّة أَغْيَدِ
طرفة:تَرَبّعَتِ القُفَّينِ في الشَّوْلِ تَرتَعي … حَدائِقَ مَوليِّ الأسِرّةِ أَغْيَدِ
المسيح الموعود: وقومي يعاديني غروراً ونخوةً … متى أَدنُ رحماً يَنْأَ عنّي ويبعُدِ
طرفة: فَما لي أراني وابنَ عَمّيَ مالِكاً، … متى أَدْنُ منهُ يَنْأَ عَني ويَبْعُدِ؟
المسيح الموعود: يسبّ وما أدري على ما يسبّني … أيُكفَرُ من يُعلي لواءَ محمدِ
طرفة: يَلُومُ وما أدري عَلامَ يَلُومُني، … كما لامَني في الحَيِّ قُرْطُ بنُ معبَدِ
المسيح الموعود: وكيف أعالج قلبَ وجهٍ مسوَّدٍ … غبيٍّ شقيٍّ في البطالة مفسِدِ
طرفة: أَرَى قَبْرَ نَحَّامٍ بَخِيلٍ بِمَالِهِ، كَقَبْرِ عَوِيٍ في البِطَالَةِ مُفْسِدِ
المسيح الموعود: ويعلون دِعْصَ الرمل هرباً وكلّهم كرَبْرَبِ ثورِ الوحش يخشون جَدْجَدي
طرفة: وَتَبسِمُ عَنْ أَلْمى كَأَنَّ مُنَوَّراً … تَخَلَّلَ حُرَّ الرّملِ، دِعصٍ لهُ نَدِ
وكما رأينا، فقد استخدم حضرته أحيانا الكلمات ذاتها، وأحيانا كلمات مشابهة محافظا على القالب والأسلوب بصورة مذهلة رائعة بديعة.
فمن ذا الذي يستطيع أن يعارض فحول شعراء الجاهلية سوى من علَّمه الله تعالى اللغة العربية تعليما إعجازيا، فأصبح كأنه قد عاش هذه العصور وعايش أهلها؟
بقي أخيرا أن نقول بأن شعر المعارضات لا يتطلب أن يعلن المعارض أنني سأعارض القصيدة الفلانية! فهذا لم يحدث قط! بل هو ينظمها وينشرها ويرى الناس هذه المعارضة ويعرفونها.
أما إذا قال جهول – بناء على هذه المعارضة – أن حضرته قد “سرق” من طرفة بن العبد فهذا هو الخطل والخبل والجنون بلا حدود. فهل كانت معلقة طرفة مجهولة منسية لا يعرفها أحد، أم أن حضرته قصد أن يرى الناس هذه التعابير ويروا براعته مقابل طرفة ويروا كيف وظف هذه التعابير والتراكيب والصور لتخدم غرضا ساميا؟