لقد حاول المعترض أن ينقض ما قلناه في المقال السابق بإيراده تعريف مصطلح التوارد وفق ما جاء في المعجم الوسيط، على أنه اتفاق بين الشعراء في معنى واحد يرِد في لفظ واحد من غير نقل أو سماع.
وقد حاول بذلك القول إن التوارد شرطه عدم النقل والسماع، على نقيض ما قلناه في مقالنا السابق، إن التوارد لا يُشترط فيه عدم الاطّلاع وعدم السّماع بالنصّ الأوّل مطلقا، إنما قد يكون الكاتب قد اطّلع على النصّ في الماضي ثم نسيه ونسي مصدره، فحين تذكُّرِه لشيء منه ووضعِه في نصّ جديد “على غير وعي منه” بهذا الاقتباس، فإن هذا الاستعمال للنصّ الأصلي ما هو إلا توارد، ولا يمكن أن يُعد اقتباسا نظرا لانعدام الوعي والنية للاقتباس، إلا أن المعترض يصرّ على أن هذا النوع من التناصّ يقع تحت باب التأثر وليس التوارد.
أقول: يعجب المرء من وقوع المعترض – حامل شهادة الماجستير في اللغة العربية وخرّيج كلية الشريعة- ، فريسة في فخ المصطلحات والتعاريف الأدبية والنقدية، التي قد لا يتفقُ فيها إثنان من النقاد والأدباء والشعراء. ويعجب المرء كيف أن هذا المعترض رغم شهادته الجامعية، لم يعِ أن اللغة والأدب ليست قطعيةً في هذه التعاريف والمصطلحات. وإنه في الحقيقة لمما يثير الشفقة عليه كونه أسير عقله الذي لا يستطيع أن يتحرر منه ومن عقدة عمى الألوان الفكرية، التي أغرقته وكبّلته وأسَرته في سجن عقله، بحيث لم يعد يرى إلا اللونين الأبيض والأسود في ما يتعلق باللغة والأدب والفكر الديني، وهو الذي كان حريّ به أن تسعفه شهادة الماجستير العربية وكلية الشريعة التي تخرج منها إلى فهم أن هذه المجالات الفكرية تكثر فيها الأفكار والآراء والألوان الفكرية.
أقول : بعض هذه التعاريف والمصطلحات الأدبية قد لا يتفق فيها ناقدان أو أديبان، وعلى الأقل بإمكاننا القول أن الكثير منها موضع خلاف واختلاف بين النقاد والأدباء والشعراء، فقد تجد منهم من يحددها بشرط، ومنهم من يضيف آخر ومنهم من يحذفه ويشترط غيره. كما أن جزءا من هذه التعاريف والمصطلحات مرّت في عملية تطور أو اختلفت في الفترات الزمنية المختلفة، هذا ناهيك عن الحقيقة التي لا غبار عليها في أن هذه المصطلحات من وضع الأنسان، وقد يتحدث فيها الأدباء بمعان تختلف في اتساعها وضيقها بحيث تكون مقاصدهم مختلفة عند استعمال نفس المصطلح.
وهذا ما ينطبق على تعريف التوارد أيضا، فهنالك من يتفق معنا من الأدباء والنقاد ولا يشترط انعدام السماع أو انعدام الاطلاع المسبق فيه، فها هو العلامة الآمدي، لا يشترط انعدام السماع والاطلاع المسبق في التوارد، بل يرى أن للعامل البيئي والثقافي أثر كبير على كتابة الكاتب أو قصائد الشاعر، ويبرّئ البحتري من تهمة السرقة الأدبية من أبي تمام، بقوله إنه لم يتعمّد الأخذ منه، وإنما نظرا للعامل البيئي المشترك والتقارب الزماني والمكاني بينهما، فكان يرِدُ من شعر أبي تمام إلى مسمع البحتري ويلتبس بخاطره فيورده في شعره. ويقول الآمدي أيضا، إن للأثر البيئي من التقارب الزماني والمكاني بين شاعرين أثر كبير في توارد النصوص بينهما نظرا لتسرب معاني أحدهما إلى شعر الآخر. وهنا أقول كيف لهذا التسرب أن يحدث دون السماع والاطلاع المسبق كما حدث بين البحتري وأبي تمام!؟
ولمما زاد من دهشتي أنه يقول بالضبط ما قلته في مقالي السابق، ويربط مسألة التناص بالثقافة والذاكرة والوعي والعقل الباطن والواعي.
فلنا ان نتمعن فيما يقوله الآمدي بالنسبة لتأثير العامل الثقافي على إبداع الشاعر ونصوصه، والذي نتيجته قد يحدث تناصّ بينه وبين من قرأ لهم من الشعراء السابقين، ولا يمانع أن يكون الشاعر قد سمع وقرأ لمن قبله من الشعراء ليحدُث التوارد بينهما، ولا يَعتبر ذلك سرقة أدبية البتة.
فها هو يقول بأن كثرة حفظ الشاعر لشعر الآخرين لا سيما السابقين، وكثرة الرواية والاطلاع والاشتغال بالشعر وشروحه، أو تأليف المصنفات، لها أثر كبير على صياغته للنصّ. ويقول أيضا إن نصوص الشعراء الآخرين المحيطين بالشاعر تصبح مادة له تعلق في ذهنه فيعيد استخدامها في نصوصه دون وعي منه.
ويسهب صاحب الكتاب في شرح مايقوله الآمدي ويقول: فالإطار الثقافي للشاعر الذي يشمل الطبيعة الاجتماعية واللغوية يلعب دورا حاسما في عملية الإبداع الفني، إذ إن الشاعر يختزن صوره وأفكاره، وأهمها بالطبع الأشعار التي حفظها أثناء حياته بما تشتمل عليه من قوالب صياغية وعبارات متداولة بطريقة لا واعية، ثم تغوص هذه الصور والأفكار في العقل الباطن للفنان، فيما يسمى بمرحلة الاختمار أو الاحتضان إلى أن تحين اللحظة المناسبة عندما تثار لحظة الإبداع أو الإشراق، ومن هنا يحصل التماثل بين بعض أفكاره وصوره مع الشعراء الذين كان قد قرأ لهم وحفظ أشعارهم “.
ويخلص صاحب الكتاب بناء على كل هذا إلى أن التشابه ( التوارد) الحاصل بين الشاعرين نتيجة العاملين البيئي والثقافي ليس من قبيل السرقة عند الآمدي، ثم يورد بعدها أسماء أدباء آخرين يتفقون مع الآمدي في نظرته.
وبناء على كل هذا، أثبتنا أن ما ذهب إليه المعترض من اعتبار التوارد الذي تحدث عنه سيدنا أحمد عليه السلام تأثرا، ليس بصحيح، وأثبتنا صحة ما ذهبنا إليه في المقال السابق، بأن التوارد لا يُشترط فيه عند جميع النقاد والأدباء عدم السماع والاطلاع المسبق، وإنما أهم ما يحدده هو العامل اللا شعوري اللا واعي وعدم توفر النيّة المسبقة للاقتباس أو السرقة.
أرفق لكم أيها الإخوة، صورا من هذا الكتاب من أجل الاطلاع عليه والـتأكد مما نقوله، ولكي يتسنى للقارئ أن يطّلع على مدى اختلاف النقاد في تعريف المصطلحات وتحديدها خاصة فيما يتعلق بالسرقات الأدبية والتوارد وما يندرج تحتها، واختلافهم في نقدهم النصوص الأدبية، هذا لنؤكد لكم أن هذا المعترض الجاهل بدقائق لغته الأم، التي يحمل شهادة ماجستير جهل فيها، أسير لعقله ومكبل في مفاهيم ضيقة مما يثير الشفقة عليه.
بقي لي أن أضيف، أن كل ما قلته في المقال السابق قد قلته بناء على تجربتي الشخصية وفهمي الخاص دون أن أتكلف عناء البحث في آراء النقّاد والأدباء، ورغم أنني لا صلة لي بهذا الموضوع الأدبيّ البتة، وكل ما فعلته هو القليل من التفكير في هذا الموضوع، وبما أنني اضطررت الآن للبحث عما يقولون، ووجدت هذا المصدر وهذه الأقوال التي تؤيد ما ذهبت إليه وقلته، فلا يسعني إلا أن أقول : سبحان الله الذي يلهم عباده المؤمنين ويهديهم إلى الحق ويحقق فيهم قوله: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (يونس 10)، وقوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (28)} (إِبراهيم 28) والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله!!!