في الأجزاء من الأول إلى الرابع التي صدرت بين عام 1880 إلى عام 1884، من كتاب البراهين الأحمدية، كان من أهم الأدلة التي قدمها المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام على صدق الإسلام وأنه هو الدين الحي الوحيد في العالم هو استمرار الوحي والإلهام في الأمة وخلوِّ أي دين آخر من هذه العلامة التي هي علامة الدين الحي قطعا. وقدَّم نفسه وإلهاماته نموذجا، وتحدى إن كان أي من الأديان أن يقدِّم هذا الدليل، بل بيَّن إن هذه الأديان أصلا قد أغلقت باب الإلهام سلفا وحكمت على نفسها بالموت. ولكن إن كان أحد من الأديان الأخرى يمكن أن يدَّعي الإلهام ووجود هذه العلامة في دينه، فإنه يدعوه أن يسجِّل إلهاماته كما سجَّلها حضرته في كتاب، ثم يقسم أنه تلقاها من الله تعالى، وعندها سيظهر الله آية بإهلاك من يتجرأ على ذلك مقابله. ولكن لم يتجرَّأ أحد جادٌّ على ذلك.
وهكذا، فقد كانت الإلهامات وتلقيها بحدِّ ذاتها دليلا قويا قائما بذاته على صدق الإسلام، بغض النظر عن معانيها وكيف تحققت، وقد ثبت بواسطة هذا التحدي صدق الإسلام بصورة عملية بفضل الله تعالى.
أما بالنسبة لتأويل هذه الأنباء، فقد كان حضرته قد حاول تأويلها بناء على الواقع وعلى ما يراه واجتهاده الشخصي في مناسبات عديدة في كتبه وإعلاناته وملفوظاته (أحاديثه)، ولكن، وبعد مرور الوقت، تبيَّن أن هذه الإلهامات قد تحققت وتجلَّت في وقتها بصورة أعظم بكثير مما كان يتوقعه حضرته ومما اجتهد في تفسيره. وهذا كان مضمون كتابه البراهين الأحمدية الجزء الخامس، الذي قدَّم دليلا إضافيا على صدق الإسلام وصدق دعواه أيضا يتجلى في تحقق النبوءات التي وردت في الإلهامات بصورة مذهلة بينها حضرته. فلم يعد الأمر يقتصر على أن حضرته ادعى الإلهام لأكثر من 33 عاما إلى ذلك الحين (وقت التأليف كان 1905) ثم لم يهلكه الله تعالى بل زاده عزا وشرفا، وليس أن أتباع الأديان الأخرى عجزوا عن الإتيان بمثل هذه الإلهامات مقابل إلهاماته فثبت صدق الإسلام وعجزهم، بل أصبح التحقق المذهل الذي حدث بعد عشرات السنين دليلا ثالثا قويا مبهرا.
ومع هذه الأدلة الثلاثة، ظهر أيضا دليل رابع على صدق حضرته عليه الصلاة والسلام. وتفصيله هو أن حضرته كان يؤول هذه الإلهامات وفقا لاجتهاده الشخصي بناء على ما يراه من أحداث، ثم يسجِّل هذه التأويلات في كتبه وإعلاناته أو يذكرها في أقواله. ولكن، بعد مجيء وقت تحقق النبوءة تبين أن تأويله السابق لا ينطبق تماما على الإلهام الذي كان يخص حدثا أوضح وأعظم مما ذهب إليه وهله. وهذا الفهم الذي لم يكن يطابق الواقع تماما يمكن تسميته بخطأ اجتهادي. ومثل هذا الخطأ الاجتهادي هو أمر ممكن تماما بالنسبة للأنبياء والملهمين والمبعوثين، بل هو دليل صدق لهم، لأنه يؤكد أنهم لم يخططوا لهذا الأمر بل الله تعالى هو من ألهمهم وهو من حقق وحيه. وهذا هو الدليل الرابع الذي ظهر لحضرته. وتوضيحا لهذا الأمر قال حضرته:
“فليكن معلوما أن تفسير كلمات الله الواردة في “البراهين الأحمدية” مجملةٌ في بعض الأماكن لكونها قبل الأوان، وفي بعض الأماكن الأخرى صُرف اللفظ عن معناه الحقيقي، أي صُرِف عن الظاهر نظرا إلى المعنى المعقول. ولما كان كلام الله الأصلي موجودا فيجب على القراء ألا يهتموا بما فُسِّر به قبل تحقق النبوءة. بل يجب أن يحملوه محمل الخطأ الاجتهادي لأن وقت التفسير الصحيح لنبوءة هو عندما تتحقق النبوءة بحذافيرها.” (البراهين الأحمدية، الجزء الخامس)
لذلك، فلا بد من أخذ المعنى النهائي الذي جاء مطابقا للوقت والظروف والذي قصده الإلهام، وتصبح قيمة ما قيل سابقا في تأويله من معان لا تطابق الواقع في كونها دليلا على صدق حضرته لأنه لم يكن قد خطط للأمر، كما لم يكن يعلم الغيب وما سيحدث بعد سنوات طويلة مما كان الوحي.
وقد ذكر حضرته في هذا الكتاب العديد من الإلهامات وكيف تحققت بعد هذه المدة الطويلة، وذكر أحيانا ما كان يفسرها به من قبل وكيف أن التأويل الجديد الذي طابق الواقع هو شيء آخر. وأود هنا أن أقدِّم نموذجا على ذلك وهو نبوءة: “شَاتَانِ تُذبَحَانِ وَكُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. عَسَى أنْ تَكْرَهُوْا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأنْتُمْ لاَ تَعْلَمُوْنَ“، فقال حضرته حولها:
“شاتان تُذبحان. أي ميانْ عبد الرحمن والمولوي عبد اللطيف اللذان رُجما في كابول. كل من عليها فانٍ حتما، أما قتلهما فسيأتي لك بثمرات طيبة في نهاية المطاف. ولا تدري الحِكَم من وراء هذا القتل ولكن الله يعلمها. بمعنى أن الله أعلم بأنواع التحسن التي ستتحقق في كابول نتيجة هاتين الميتتينِ.”
وقال في حاشية حول هذا الوحي وكيف أنه كان يؤوله تأويلا آخر قبل وقوع هذه الحادثة:
“إن حادث استشهاد أخي في الله المرحوم المولوي عبد اللطيف والمرحوم الشيخ عبد الرحمن كان بعيدا كل البعد عن الفهم والقياس بحيث لم يخطر ببالي قط ما لم يحدث على صعيد الواقع أن الوحي يعني أن مريديَّ الصادقَين سيُقتلان في الحقيقة، بل استبعدت ذلك وظللتُ ميّالا إلى التأويل بمحض الاجتهاد، وظل مصداقاها على سبيل التأويل يخطران ببالي. والمعلوم أن علم الإنسان واجتهاده لا يخلو من الخطأ. ولكن حين حدث كِلا الحادثين عينهما واستُشهد رجلان صالحان من جماعتنا في كابول دون هوادة ورحمة تبين معنى الوحي كحق اليقين. وحين ألقيت نظرة على عبارة الوحي كله بَصُرَتِ العين ونشأ ذوق عجيب وعلمتُ أن الله تعالى قد بيّن هذه النبوءة بأقصى صراحة ممكنة، واختار كلمات وبيّن جُـمَلا لا تنطبق على غيرهما قط. سبحان الله! من هنا يثبت كيف بيّن الله تلك الأمور الخافية بصراحة تامة في البراهين الأحمدية قبل فترة طويلة” (البراهين الأحمدية، الجزء الخامس)
ومع ذلك، ورغم أن الجزء الأكبر من النبوءة تحقق في حياته وهو استشهاد الشهيدين في أفغانستان، إلا أن الإلهام يتضمن نبأ آخر تحقق في هذا الزمان بعد ما لا يقل عن 80 عاما من وفاة حضرته، وهو أن عذابا وهلاكا سيلحق بأرض أفغانستان بحيث يفنى كثير من الناس بسبب هذه الجريمة والتي أساسها الفكر الإجرامي الذي يحمله هؤلاء الناس وينسبونه إلى الإسلام، بل نراه صرف الأمر أن تحسنا سيحدث في تلك البلاد نظرا إلى كلمات الوحي وإلى ما كان يرجوه حينها؛ فلم يتمنَّ الهلاك لهذه البلاد بل رغِب في أن يجعل الله خيرا من وراء هذه الحادثة. وهذا يظهر مدى رحمته ومواساته رغم إجرام هؤلاء القوم. ولكن لا يستطيع أن ينكر أحد أن ما حدث كانت قد أنبأت عنه كلمات الوحي وأنه يحقُّ لنا أن نفسره على هذه الصورة.
وهكذا، فيمكننا القول نظرا إلى إلهامات حضرته، أن أقواله السابقة في تأويل بعض إلهاماته قبل أن يظهر وقتها الحقيقي تتضمن جوانب لا تتطابق مع الواقع، ولا بد من أخذ كلامه النهائي فيها بعد تحققها. وهذه الأقوال السابقة هي بحد ذاتها دليل على صدق حضرته وعلى أن الله تعالى عالم الغيب هو من أوحاها وأن حضرته الذي لم يكن يعلم الغيب قد كان صادقا. كذلك يجب أن ندرك أنه لا بد أن نرى أمورا جديدة تتحقق في كل حين في وقتنا هذا وفي المستقبل من هذه الإلهامات بصورة ما، وهي لا تنسخ المعاني السابقة بل تجليها بصورة جديدة، وهذا هو طابع كلام الله الذي لا يتجلَّى إلا في وقته، كما تكون له تجلِّيات متنوعة في أزمنة مختلفة دون أن ينسخ المعاني النهائية التي وضحها حضرته عليه الصلاة والسلام، ويكون بذلك شهادة صدق متجددة له. وهذا ما شهدناه ونشهده دوما بفضل الله تعالى.