صِدْق المسيح الموعود عليه السلام في عقيدة ابن قيّم الجوزية عن وفاة المسيح عيسى ابن مريم
الاعتراض:
قيل بأن المسيح الموعود عليه السلام قد افترى على علماء السلف ومن بينهم ابن قيم الجوزية، بقوله عليه السلام إنهم كانوا يؤمنون بوفاة المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام. هذا رغم أن ابن القيم يقول في “التبيان في أقسام القرآن (ص: 383)”: “وهذا المسيح بن مريم حي لم يمت وغذاؤه من جنس غذاء الملائكة”. يقصد التسبيح.
الردّ:
نعرض فيما يلي بعضا من أقوال المسيح الموعود عليه السلام في هذا الصدد:
- وقد سمعتَ أن الإمام مالكًا وابن قيم وابن تيمية والإمام البخاري وكثيرًا من أكابر الأئمة وفضلاء الأُمّة، كانوا مُقرّين بموت عيسى ومع ذلك كانوا يؤمنون بنزول عيسى الذي أخبر عنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وما أنكر أحدٌ هذين الأمرين وما تكلم، وكانوا يُفوّضون التفاصيل إلى الله ربّ العالمين، وما كانوا في هذا مجادلين. ثم خلف من بعدهم خلفٌ وسوادٌ أقلَفُ وفيجٌ أعوجُ وأجوفُ، يجادلون بغير علم ويفرّقون، ولا يركنون إلى سِلم ويكفرون عباد الله المؤمنين. [ سر الخلافة]
- غير أنكم إذا كنتم تكفِّروننا لاعتقادنا بوفاة المسيح فكفِّروا الإمام مالك أيضا فكان هو الآخر يعتقد بذلك ولم يثبت رجوعُه عنه، كما كان الإمام البخاري أيضا يعتقد بذلك فلو لم يكن يعتقد به لما أدرج قول ابن عباس “متوفيك: مميتك” تأييدا للحديث في شرح آية {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} فمن هذا المنطلق ثبت كفر الإمام البخاري أيضا. والعقيدة نفسها أبداها ابن قيم في كتابه مدارج السالكين فقد كفر هو الآخر بحسب زعمكم، والمعتزلة أيضا يعتقدون بالعقيدة نفسها فكلهم صاروا كفارا. [أنوار الإسلام ]
- ثم بعد هذه الشهادات، انظروا إلى ابن القيّم المحدّث المشهود له بالتدقيقات، فإنه قال في “مدارج السالكين” إن موسى وعيسى لو كانا حيَّين ما وسعهم إلا اقتداء خاتم النبيين. [اتمام الحجة]
- ففي زاد المعاد للحافظ ابن القيم رحمه الله ما يذكر أن عيسى رُفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة لا يعرف به أثر متصل يجب المصير إليه. قال الشامي: وهو كما قال فإن ذلك إنما يروى عن النصارى، والمصرح به في الأحاديث النبوية أنه إنما رفع وهو ابن مائة وعشرين سنة. [مناظرة دلهي]
- وكذلك المحدث الفاضل والمفسر ابن تيمية وابنُ القيِّم اللذان كان كل واحد منهما إمام عصره، يؤمنان بوفاة عيسى – عليه السلام – [البرية]
فكما نرى بأن أقوال المسيح الموعود عليه السلام في حديثه عن عقيدة ابن القيّم هذه، مبنية على مصدرين: الأول مدارج السالكين والثاني زاد المعاد.
فهل صدق المسيح الموعود عليه السلام في إحالته إلى هذه المصادر وما قيل فيها؟
أ: جاء في كتاب مدارج السالكين لابن القيّم ما يلي:
وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثٌ إِلَى جَمِيعِ الثِّقْلَيْنِ. فَرِسَالَتُهُ عَامَّةٌ لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فِي كُلِّ زَمَانٍ. وَلَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ حَيَّيْنِ لَكَانَا مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَإِذَا نَزَلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَإِنَّمَا يَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 446)]
وهذا عين ما قاله المسيح الموعود عليه السلام في الاقتباسات أعلاه، خاصة ما جاء في كتابي سرّ الخلافة وإتمام الحجة، حيث قال بأنه رغم إيمان هؤلاء الأفاضل بموت المسيح ابن مريم ، فإنهم آمنوا برجوعه أيضا وفوّضوا تفصيل ودقائق المسألة في كيفية تحققها وحدوثها إلى الله تعالى. فصدَق المسيح الموعود عليه السلام فيما قاله وكذب المعارضون.
ب: جاء في كتاب زاد المعاد لابن القيم ما يلي:
“فِي مَبْعَثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوَّلِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ
بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ وَهِيَ سِنُّ الْكَمَالِ. قِيلَ: وَلَهَا تُبْعَثُ الرُّسُلُ، وَأَمَّا مَا يُذْكَرُ عَنِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ وَلَهُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً فَهَذَا لَا يُعْرَفُ لَهُ أَثَرٌ مُتَّصِلٌ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ.” [زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 82)]
وهذا أيضا عين ما قاله المسيح الموعود عليه السلام في كتاب مناظرة دلهي. فصدق فيما قال وكذب المعارضون!
فها قد اجتمع لدينا مصدران يؤكدان أقوال المسيح الموعود عليه السلام، مقابل مصدر واحد لا يعتد به – كما سأبين- استشهد به المعارضون. فمن أحقّ أن يُتّبع ، قول المسيح الموعود عليه السلام؟ أم قول المعارضين الذين يقودهم الحقد وسوء الظن؟
فمن هذين المصدرين يتضح أن ابن القيم الجوزية ، وفق ما جاء في “زاد المعاد” لم يكن يعتقد برفع سيدنا عيسى عليه السلام إلى السماء عند حادثة الصلب وهو في عمر ثلاث وثلاثين سنة، فإن لم يكن رُفع، فبديهي أنه استمر في حياته بعدها، وإن كان استمر في حياته، فما الذي جرى له بعد ذلك؟
هناك احتمالان: الأول أن يكون رُفع إلى السماء حيّا في مرحلة أخرى من مراحل حياته، وهو ما لا يقول به أحد! إذ لماذا يرفع بعمر الستين مثلا ، ولأي سبب؟ والثاني: أن يكون عُمّر إلى مدة معينة وتوفاه الله ثم رفعه إليه كسائر الأنبياء والبشر ، وهو الوجه الراجح من عدم رفعه إلى السماء عند واقعة الصلب، لسبب بسيط أن هذه هي سنة الله في خلقه، ولموافقته للآية الكريمة “متوفيك ورافعك إلي” . وبناء عليه يكون اعتقاد ابن القيم بوفاة المسيح عيسى عليه السلام.
كذلك، يتضح مما جاء في “مدارج السالكين” أن ابن القيم يعتقد بأن عيسى ميّت مثل موسى عليهما السلام، ولو كان أحدهما حيّا لاتبع النبي صلى الله عليه وسلم. والكلام واضح لا يحتاج تأويلا أو تفسيرا وهو متفق مع ما قاله في زاد المعاد. وكلامه هذا مبني على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم التالي: “رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى حَيَّيْنِ لَمْ يَسَعْهُمَا إِلَّا اتِّبَاعِي» .” [البحر المحيط في التفسير (7/ 204)]
فهو يستشهد بالحديث على وفاة المسيح الناصري عليه السلام، ولا يقول هذا بناء على فكره الخاص.
فخلاصة الكلام ، أنه يثبت بناء على كل هذا صدق المسيح الموعود عليه السلام بقوله إن ابن القيّم كان يؤمن بموت عيسى عليه السلام.
أما ما جاء في كتاب آخر لابن القيم حيث قال:
“وهذا المسيح بن مريم حيّ لم يمت وغذاؤه من جنس غذاء الملائكة [التبيان في أقسام القرآن (ص: 383)]” فلا يمكن أن يُعتد به، ولا يمكن الاتكال عليه في تقرير عقيدة ابن القيم بشأن حياة عيسى ومماته، وذلك لما يلي:
1: من الممكن أن تكون هذه فكرة أولية عند ابن القيم عن حياة عيسى، والتي تنازل عنها فيما بعد وأقر بوفاة المسيح ابن مريم كما تدل عليه المصادر الأخرى. وهذا الأمر ليس من الغريب، فكثيرا ما تجد للمصنفين والمؤلفين في شتى المجالات أراء تناقض بعضها تدلك على أن المؤلف عدل عن رأيه الأول. وقد صادفتُ ذلك بنفسي في العديد من المواضيع لا سيما المواضيع اللغوية.
لذلك فعند مقارنة أقوال ابن القيم في المصادر المختلفة، لا يمكننا التغاضي عن أن ابن القيم في مرحلة من مراحل حياته كان يعتقد بوفاة المسيح الناصري عليه السلام، وإذا كانت هذه هي عقيدته المتأخرة ، فلا يسعنا إلا الجزم بأنه تنازل عن فكرة أولية تقول بحياة المسيح ابن مريم إن كان بالفعل يؤمن بشيء كهذا من قبل. ولا حرج في كل هذا.
2: كون ابن القيم يستشهد على وفاة المسيح ابن مريم بحديث للرسول صلى الله عليه وسلم في كتاب مدارج السالكين، ويقول بانعدام دليل على الرفع عند حاثة الصلب في زاد المعاد، يؤكد أن عقيدة وفاة ابن مريم هي العقيدة التي ترسخت عنده بعد البحث والتحري، وإلا لأطلَعَنا على ما ينقض أقواله في زاد المعاد من اكتشاف أو دليل اهتدى إليه. ولأطلعنا على ما ينقض الحديث الذي استشهد به على الوفاة ، كحديث شريف آخر أو آية قرآنية. إذ لا يمكن له أن ينقض حديثا للرسول لمجرد فكرة في رأسه دون أن يطلعنا على حديث آخر ينقضه ، كما أنه ليس بإمكانه نقض الحديث الذي استشهد به على الوفاة بآية قرآنية لأن كل هذه الآيات كانت معروفة له عند قوله بالوفاة بناء على الحديث.
النتيجة:
على أي حال، وبغض النظر عما قاله ابن القيم عن حياة عيسى في التّبيان، يثبت صدق المسيح الموعود عليه السلام بقوله إن ابن القيّم أقرّ بوفاة عيسى عليه السلام وآمن بها، بناء على أقواله في المصادر الأخرى.