صِدْق المسيح الموعود عليه السلام في عقيدة الإمامين مالك والبخاري بوفاة عيسى عليه السلام
الاعتراض:
يقول المسيح الموعود عليه السلام :
وقد سمعتَ أن الإمام مالكًا وابن قيم وابن تيمية والإمام البخاري وكثيرًا من أكابر الأئمة وفضلاء الأُمّة، كانوا مُقرّين بموت عيسى. (سر الخلافة)
ويقول:
“الإمام البخاري الذي كتابه أصح الكتب بعد كتاب الله يعتقد بوفاة المسيح،” [ البراءة]
ويقول المعترض:
أما البخاري فلا نعثر له على قول أنّ المسيح قد مات، بل نقلَ قولَ ابنِ عباس في تفسير كلمة متوفيك بأنها تعني مميتك. ولا يلزم من ذلك أنه يؤمن بوفاة المسيح، بل يمكن أن يقصد مميتك بعد نزولك من السماء، و يمكن أن يقصد أنّ في الآية تقديما وتأخيرا، كما يقول بذلك بعض المفسرين.. فمجرد نقله هذا القول لا يعني أنه يقول أنّ المسيح مات.
الرد:
الإمام مالك وابن رشد وابن عباس يقرون بوفاة عيسى
نذكر فيما يلي بعض المصادر التي تقر بصحة قول المسيح الموعود عليه السلام باعتقاد الإمام مالك بموت المسيح عيسى ابن مريم.
1: “وَأَصْرَحُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ آيَةُ الْمَائِدَةِ: «فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ» لِأَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تُوُفِّيَ الْوَفَاةَ الْمَعْرُوفَةَ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ عِلْمِ مَا يَقَعُ فِي الْأَرْضِ، وَحَمْلُهَا عَلَى النَّوْمِ بِالنِّسْبَةِ لِعِيسَى لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ إِذَا أَرَادَ رَفْعَهُ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَنَامَ وَلِأَنَّ النَّوْمَ حِينَئِذٍ وَسِيلَةٌ لِلرَّفْعِ فَلَا يَنْبَغِي الِاهْتِمَامُ بِذِكْرِهِ وَتَرْكُ ذِكْرِ الْمَقْصِدِ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا بِمَعْنَى الرَّفْعِ عَنْ هَذَا الْعَالَمِ إِيجَادُ مَعْنًى جَدِيدٍ لِلْوَفَاةِ فِي اللُّغَةِ بِدُونِ حُجَّةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إِنَّهَا وَفَاةُ مَوْتٍ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ فِي جَامِعِ الْعُتْبِيَّةِ «قَالَ مَالِكٌ: مَاتَ عِيسَى وَهُوَ ابْنُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سَنَةً» قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ» :
«يُحْتَمَلُ أَنَّ قَوْلَهُ: مَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى الْمَجَازِ» .[ التحرير والتنوير (3/ 258)]
2: وقال مالك: مات عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وقال ابن رشد: يعني بموته خروجه من عالم الأرض إلى عالم السماء، قال: ويحتمل أنَّه مات حقيقة ويحيا في آخر الزمان إذ لا بد من نزوله لتواتر الأحاديث بذلك،..[ الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (4/ 95)]
3: “وقال مالك: مات عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.وقال ابن رشد: يعني بموته: خروجه من عالم الأرض إلى عالم السماء، قال: ويحتمل أنه مات حقيقةً، [مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه والقول المكتفى على سنن المصطفى (24/ 418)]
تثبت هذه المصادر بما يقطع الشك باليقين صدق المسيح الموعود عليه السلام، باعتقاد الإمام مالك بموت سيدنا عيسى عليه السلام. ويزيد المصدر الأول على كل هذا، بأن ابن عباس يقر بأن هذه الوفاة هي الموت. ويؤيد ذلك ابن رشد أيضا. فالمصدر الأول (التحرير والتنوير لابن عاشور التونسي ) يقر بموت عيسى مستدلا بقول ابن عباس هذا والذي لا يعني إلا الموت .
إن إقرار ابن عباس هذا، بأن الوفاة المذكورة في الآيات: (إني متوفيك ورافعك) و (فلما توفيتني) تعني الموت الحقيقي ، لهي جوهرية في فهم عقيدة الإمام البخاري في موت عيسى عليه السلام كما سنبيّنه.
الإمام البخاري يؤمن بموت عيسى عليه السلام:
صحيح أنه لم يرد عن الإمام البخاري نصٌّ صريح في وفاة سيدنا عيسى عليه السلام، والمسيح الموعود عليه السلام لم يقل بوجود نصّ كهذا أيضا. إلا أن المسيح الموعود عليه السلام، قد أسهب بالتفصيل الممل في كتاب إزالة الأوهام، كيف يمكن أن نستنتج من صحيح البخاري نفسه، بأن الإمام البخاري كان يؤمن بموت سيدنا عيسى عليه السلام، وذلك كما يلي:
ماذا فعل الإمام البخاري:
1: أورد آية (فلما توفيتني) في كتاب التفسير، ليدل على فهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لهذه الآية، كباقي الآيات في هذا الباب، حيث يجمع فيه أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في تفسير آيات القرآن الكريم.
2: فسّر البخاري هذه الآية بقول الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه ، الوارد في الحديث: (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ … إِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي. فَيُقَالُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}.
وذلك ليدلل على وجه الشبه بين عيسى عليه السلام وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بأن ضلال أمة عيسى عليه السلام، الواقع اليوم، حدث بعد وفاته عليه السلام كما ضل أصحاب النبي بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. وليدلل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول بنفسه بموت عيسى عليه السلام، وإلا لما صحّ استشهاد الرسول وقوله ووجه المشابهة.
3: وليؤكد البخاري على وجه الشبه هذا بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المسيح الناصري عليه السلام في الوفاة والموت، أورد هذا الحديث (أصيحابي أصيحابي) وقول الرسول فيهم (فلما توفيتني ..) أورده في كتاب الأنبياء أيضا.
4: أردف البخاري قول ابن عباس (متوفيك تعني مميتك) فجمع بين الآيتين (إني متوفيك ورافعك..) وآية (فلما توفيتني) على تفسير ابن عباس هذا، ليقول ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، بأن توفيتني تعني أمتني. وليدل على أن هذا هو فهم الصحابة أنفسهم لهذه الآية.
4: لم يأت استشهاد البخاري بقول ابن عباس هذا عابثا، بل لأن فيه تحقق دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بحق ابن عباس، الذي أورده البخاري نفسه، حيث ضمه إلى صدره ودعا له: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الحِكْمَةَ».
5: لم يكتف البخاري بإثبات موت المسيح ابن مريم بل أثبت أن الذي يموت لا يرجع بأحاديث أخرى، واستشهاد أبي بكر الصديق على وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بالآية : (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل). فإيراد البخاري لهذه الشهادة تدل على إيمانه بموت المسيح الناصري، لأنه لولا ذلك لما صح كل هذا الاستشهاد على وفاة النبي ص.
6: كما أن البخاري جمع في حديث واحد قول أبي بكر الصديق لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته إذ قبّله وقال له: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَاللهِ لَا يَجْمَعُ اللهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ. واستشهاده بالآية الكريمة : (وما محمد إلا رسول قد خلت من فبله الرسل)، فجمْع أبي بكر الصديق والبخاري لهذين الأمرين دليل على أن أبا بكر يسوي بين حال الرسول ص وحال باقي الأنبياء في الموت ، وليس هذا فحسب بل في عدم الرجوع أيضا ، من حيث إن المرء لا يذوق ميتتين.
7: ذكر البخاري لبعض الأحاديث التي تثبت موت عيسى عليه السلام ومنها ما رأها النبي ص في معراجه أن عيسى مع باقي الأنبياء الذين ماتوا. فلا فرق بينه وبينهم، وكلهم أموات غير احياء ، وفي سماوات الله ..
وبالنظر إلى كل هذه القرائن مجتمعة، لا يبقى لدينا إلا الاستنتاج بأن البخاري نفسه كان يؤمن بموت سيدنا عيسى عليه السلام ، ومن هنا يتضح صدق المسيح الموعود عليه السلام في قوله بأن البخاري كان يؤمن بموت عيسى عليه السلام.
أما هراء المعترضين في قولهم: “بل نقل البخاري لقول ابنِ عباس في تفسير كلمة متوفيك بأنها تعني مميتك، لا يلزم من ذلك أنه ( البخاري) يؤمن بوفاة المسيح، بل يمكن أن يقصد مميتك بعد نزولك من السماء، و يمكن أن يقصد أنّ في الآية تقديما وتأخيرا، كما يقول بذلك بعض المفسرين.”
فأقول: هذا هو الهراء بعينه، لأنه حينها سوف تبطل مشابهة الرسول صلى الله عليه وسلم نفسَه بسيدنا عيسى بكون أمته ضلت بعد وفاته كما ضل بعض الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيبطل بذلك استشهاد البخاري نفسه بهذا الحديث ، ويصبح لا معنى له في دمجه مع تفسير الآية الكريمة (فلما توفيتني) ، ولا معنى حينها في تفسير الآية بواسطة الحديث إلا إذا قلنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم حيّ في السماء كمثل عيسى.
ولو كان المعنى إماتة بعد نزول من السماء ووجود تقديم وتأخير في الآية، فهذا أيضا بحد ذاته يبطل استشهاد أبي بكر الصديق والبخاري نفسه بالآية : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) للدلالة على وفاة الرسول صلى الله لعيه وسلم.
فلا مناص من أجل الجمع بين كل هذه العيّنات من صحيح البخاري على معنى قويم متناسق ومنسجم، إلا القول بأن البخاري نفسه في كل شهاداته هذه يقول ويؤمن بموت عيسى عليه السلام .
وصدق المسيح الموعود عليه السلام في كل هذا!!