لطالما كنت أستغرب من إيمان فئة بمسيلمة الكذاب بعد عصرٍ قريبٍ من رؤيتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ومعايشتهم له. كان هذا الأمر يثير استغرابي بشدة. فهل يمكن لمن رأى النبي صلى الله عليه وسلم بنوره الكامل وجلاله وجماله أن ينخدع بشخص شرير مخادع أحمق فاسق كذاب كمسيلمة؟ ألم يكن بإمكانهم إدراك الفارق الذي يفوق الفارق بين الثرى والثريا؟
كان التبرير الذي يُطرح عادة هو أن هؤلاء كان معظمهم من بني حنيفة من قوم مسيلمة وممن حولهم من أهل اليمامة، ودفعهم الحسد لقريش إلى الإيمان بمسيلمة تحقيقا لأهدافهم القبلية والإقليمية، ولكني لم أجد هذا التبرير كافيا ومقنعا بما فيه الكفاية. فهل الإيمان رخيص إلى هذا الحد؟ ألم يكن كافيا أن يعلنوا الكفر فحسب؟ لكن التزامهم الظاهري بمسيلمة والتفافهم حوله كان أمرا محيرا.
والآن، وبعد التجربة، أدركت أن الدافع وراء هذا الالتفاف لم يكن سوى العداء للخلافة الراشدة من فئة المنافقين الذين لا دين لهم ولا إيمان ولا أخلاق ولا مبادئ، أولئك الذين لم يؤمن أكثرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم أول مرة إلا تحقيقا لمطامع متنوعة وأهداف، ولذلك فمن السهل عليهم أن يعلنوا إيمانهم بمتنبئ كاذب شرير فاسق يشهدون على أخلاقه الفاسدة وكذبه وخداعه كل يوم، طمعا في الانتقام من الخلافة ونكاية لها. فالذين لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم حقا لا يمكن أن يكونوا قد آمنوا بهذا الكذاب حقا، والتفافهم والتزامهم لم يكن من الإيمان في شيء، بل هم كذّابون يكذبون على كذَّاب مثلهم، أو لعله هو يعلم أنهم يكذبون عليه أيضا، فعجبا لهم! فهؤلاء جميعا لا قيمة عندهم للإيمان بل هم لا يعرفونه، ولذا يمكن أن يسكبوه رخيصا في معركة عدائهم للخلافة، تلك المعركة الخاسرة التي سينالون فيها الخزي في الحياة الدنيا والعذاب في الآخرة.
كذلك فقد قُدِّر لي أن أرى نموذجا جديدا للمرتدين الذين حاربوا الخلافة الراشدة، والذين سُموا جميعا بالمرتدين مع أنهم كانوا من فئات متعددة؛ فمنهم من ارتدَّ علنا وأعلن العداء للخلافة، ومنهم من لم يعلن الارتداد عن الإسلام بل أعلن أنه لن يطيع الخلافة ولا يجد دليلا عندهم لطاعتها، بل الطاعة هي للرسول ما كان حيا! وعابوا على المسلمين خضوعهم الكامل للخلافة، ومنهم المنافقون الذين وجدوا أن الإيمان بمتنبئ كاذب الوسيلة المثلى للانتقام من الخلافة، ومنهم المشركون الذين لم يؤمنوا يوما ولكنهم وجدوا في حركة هؤلاء فرصة سانحة، فتحالفوا مع هؤلاء المرتدين والمنافقين وأصبح الجميع جبهة واحدة. والعجيب أن المرتدين الذين تركوا الإيمان بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم والكفار الذين لم يؤمنوا به يوما، تراهم جميعا يتفهمون نبوة الكذاب ويصادقونه ويوالونه ويوالون أتباعه. وكذلك ترى أن هذه المناسبة تكشف النقاب عن المنافقين من مخالفي الخلافة من غير أتباع الكذابين الذين يدعون الإيمان والحرص على جماعة المؤمنين، إذ أنهم يوالون أشد أعداء الجماعة وأفحشهم خلقا ولسانا من المرتدين والمشركين، كما أنهم يرون أتباع الكذابين إخوانا لهم!
ولكن مصير هؤلاء جميعا محتوم. فكما اعتدى أسلافهم بالقوة على الإسلام، وتصدى لهم سيف خالد بن الوليد والصحابة وهزموهم شر هزيمة وشرَّدوا بهم من خلفهم، فإن أمثال خالد بن الوليد في هذه الجماعة من المخلصين للخلافة قد خرجوا لهؤلاء الآن الذين يمارسون عدوانهم بشبهاتهم الواهية ولسانهم السليط الذي يبدي شيئا من الحقد الذي يكنونه في صدورهم وسينزلون بهم شرَّ الهزيمة.
ليت هؤلاء يدركون أن معركتهم خاسرة ومصيرهم بائس! ليتهم يتوبون فيجنِّبوا أنفسهم الخزي والتبار! ليتهم يدركون أنهم قد وقعوا في حبائل الشيطان الذي سوَّل لهم وأملى لهم! ليتهم يدركون أن مسيرة الجماعة تحت ظل الخلافة الراشدة سائرة بقوة وبعزم وثبات ولن تنال منها هذه المحاولات بل ستكون سببا لإظهار تجليها بالجلال والجمال! ليتهم يستفيدون من دروس التاريخ! ولكن هيهات.