المعترض:
لقد أباح المؤسس في فتوى له أباح صرف المال الحرام المكتسب من الربا على نشر الدين وذلك بعد أن حرَّم صرفه على الزوجة والأولاد لكونه مالاً خبيثاً ! هذا يعني أنه يريد أخذ المال له شخصياً بينما المال الحرام حرام نكد لا يجوز التصرف به لا على النفس ولا على غير ذلك. فهذا كذب واضح من المؤسس.
الجواب:
لقد أورد المعترض اعترافاً قال فيه أن المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام أفتى بحرمة صرف المال الحرام المكتسب من الربا على النفس والولد، وهذا كافٍ لبيان عقيدة حضرته عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام في رده على سؤال حول التصرف بالمال الحرام بعد التوبة أو الموت. أما قوله عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام بأن المال إذا كان حراماً وأراد صاحبه التوبة وتطهير نفسه منه فيجب صرفه على نشر الإسلام وهي مهمة نبيلة تقتضي سعي التائب للتوبة لا نوال الأجر على ذلك لحرمة مصدر المال. فقد اقترح المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام ذلك الأمر في نطاق ضيق يكون فيه نشر الدين من الدفاع ورد سهام المعتدين. ولقد ذهب العلماء من السلَف والخلَف إلى جواز صرف المال والتصدق به على المسلمين ومصالح الدين كما سنر إنْ شاءَ الله.
لنأخذ الحديث الذي رواه أبو داود عن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار قال: «خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في جنازة فرأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وهو على القبر يوصي الحافر: “أوسع من قبل رجليه، أوسع من قبل رأسه”. فلما رجع استقبله داعي امرأة، فجاء وجيء بطعام، فوضع يده، ثم وضع القوم فأكلوا، فنظر آباؤنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يلوك لقمة في فمه، ثم قال: “أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها”. فأرسلت المرأة فقالت: “يا رسول الله إني أرسلت إلى البقيع يشتري لي شاة، فلم أجد، فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل إليَّ بها بثمنها، فلم يوجد، فأرسلت إلى امرأته، فأرسلت إليَّ بها”. فقال: “أطعميه الأسارى”.» (رواه أبو داود. أخرجه الألباني 2/ 263، برقم 3332، وصححه الألباني في إرواء الغليل 3/ 196)
فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أمر بالتصدق بالشاة المطبوخة التي قدمت له ولأصحابه لما علم أن الشاة أخذت بغير إذن صاحبها. قال المُلا علي القاري رحمه الله: “فظهر أن شراءها غير صحيح؛ لأن إذن جارها ورضاه غير صحيح.” (مرقاة المفاتيح 10/ 297)
وقد قاس العلماء على ذلك جواز التصرف بالمال الحرام بإطعام المساكين ونصرة الدين، ومنهم الإمام الزهري رحمه الله عندما سُئل عن رجل يصيب المال الحرام؟ قال: “إنْ سَرَّه أن يتبرأ منه فليخرج منه.” (مصنف ابن أبي شيبة 4/ 561)
وفي تفسير القرطبي لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 298]، قال رحمه الله: “قال علماؤنا إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام، إن كانت ربًا، فليردها على من أربى عليه، ويطلبه إن لم يكن حاضرًا، فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك. وإن أخذ بظلم، فليفعل كذلك في أمر من ظلمه، فإن التبس عليه الأمر، ولم يدرِ كم الحرام من الحلال مما بيده، فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب رده، حتى لا يشك أن ما يبقى قد خلص له، فيرده من ذلك الذي أزال عن يده إلى من عُرف ممن ظلمه أو أربى عليه، فإن أيس من وجوده تصدق به عنه، فإن أحاطت المظالم بذمته، وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه أبدًا لكثرته، فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع، إما إلى المساكين، وإما إلى ما فيه صلاح المسلمين…” (تفسير القرطبي 3/ 366)
وأيضاً الإمام ابن تيمية حيث قال: “البغي والخمّار إذا تابوا، وكانوا فقراء، جاز أن يصرف إليهم من هذا المال مقدار حاجتهم، فإن كانوا يقدرون على أن يتجروا أو يعملوا صنعة، كالنسج والغزل، أعطوا ما يكون لهم رأس مال، وإن اقترضوا منه شيئاً ليكتسبوا به، ولم يردوا عوض القرض كان أحسن.” (مجموع الفتاوى 29/ 308)
وكذلك: “المال إذا تعذر معرفة مالكه صرف في مصالح المسلمين، عند جماهير العلماء، كمالك وأحمد وغيرهما، فإذا كان بيد الإنسان غصوب أو عواري أو ودائع أو هون، قد يئس من معرفة أصحابها، فإنه يتصدق بها عنهم، أو يصرفها في مصالح المسلمين، أو يسلمها إلى قاسم عادل، يصرفها في مصالح المسلمين المصالح الشرعية.” (مجموع الفتاوى 29/ 322)
ونكتفي بهذا القدر من أقوال العلماء فهو واف لهذه المسألة. ولقد تبيّن من عرض الفتاوى أعلاه أن ما قاله المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام هو عين قول السلف الصالح وليس بدعاً من القول، فهل عَلِمَ المعترض هذا الأمر أم كان جاهلاً به ؟ فإن لم يكن جاهلاً فهو للأسف يعترض على أكابر علماء الإسلام من السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان. أما قول المعترض أن المؤسس يريد ذلك المال لنفسه فينقصه الدليل النقلي الذي تعوّدنا عليه من المعترض، بل نجد عكسه تماماً حيث يقول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام -كما قرأ المعترض- أن المال يجب أن يُصرف في سبيل الإسلام وليس على المصالح الشخصية لأنه محرَّم خبيث المصدر، ولكن بحساب الأولويات يكون نشر الدين أحوج منه إلى التصدق نظراً لانعدام الدفاع الصحيح عن الإسلام، فيكون صرفه على الدين والذبّ عنه في قمة أولويات المسلم. هذا هو الموضوع الذي غفل أو تغافل عنه المعترض قبل أن ينصّب نفسه حَكَماً على الدين وأهله. وصَدَقَ المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ