الحجة الأساس التي يكررها المنافقون والمرتدون، الذين ينكرون الولادة الإعجازية للمسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، هي أنه لا خصوصية لأحد من البشر، وأنه ما من خاصية أو فعل أو ميزة كانت في بشر إلا وشاركه فيه غيره، لأن الله تعالى وحده هو الذي لا شريك له.
هذه الفكرة التوحيدية الرائعة، التي يتشدق بها المنافقون والمرتدون قد جاء بها المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام نفسه، ولم يسبقه بها غيره. والمفاجأة التي تدمغ هؤلاء المنافقين والمرتدين وترغم أنوفهم وتكشف تدليسهم هي أن حضرته إنما قال هذه الفكرة، وجاء بها أول مرة، عندما كان يؤكد على ولادة عيسى من غير أب حصرا، بل أكَّد في هذا السياق أن هذه الفكرة قد انكشفت عليه وحيا في تلك اللحظة!
فلننظر إلى ما قاله حضرته:
“… لأن ولادة المسيح بلا أب أيضا من الأمور النادرة وليست مخالفة لقانون الطبيعة؛ لأن الأطباء اليونانيين والهنود والمصريين قد كتبوا نظائر كثيرة لولادة أولاد من دون أب. فبعضُ النساء يتمتعن -بحكم القادر المقتدر- بكلتا القوتين العاقدة والمنعقدة… فلا يمكن القول: إن الولادة بلا أب أمر خارق للعادة يخص عيسى عليه السلام وحده فقط. فلو كان ذلك ميزة خاصة بعيسى عليه السلام لما قدَّم الله في القرآن الكريم نظيره الأكثر ندرة، ولما قال: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (آل عمران: 60)، … خلقه من التراب الذي هو أُمُّ جميع الناس ثم قال له كن فكان، أي صار حيا يقظا. فواضح أنه إذا ظهر نظير شيء ما فلن يبقى منقطع النظير. فإذا عُثر على ميزة لأحد فلا يسعه القول إنها تخصه وحده. وأثناء كتابة هذا الموضوع حصرا خاطبني الله تعالى قائلا: “إنّ يلاش اسم لله حصرًا.” فهذه كلمة إلهامية جديدة؛ إذ لم أجدها حتى الآن بهذه الصيغة لا في القرآن الكريم ولا في الحديث ولا في أي معجم، وكُشف عليَّ أن معناها “يا لا شريك“. والغرض الحقيقي لهذا الإلهام أنه ليس من إنسان يتصف بصفة حميدة أو باسم أو أي فعل معين إلا وهذا الاسم أو هذه الصفة أو هذا الفعل موجود في غيره” (حاشية التحفة الغرولوية، ص 72)
فهذا يُظهر أن استخدام هذه الفكرة لنقض فكرة ولادة عيسى من غير أب إنما هو الكذب والتدليس، فهي لم تُذكر أصلا إلا لخدمة عقيدة ولادة عيسى من غير أب.
هؤلاء بفعلتهم هذه إنما يصدق فيهم قول الشاعر:
أعلِّمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني
فبدلا من أن يحفظوا جميل المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام ومنته عليهم، الذي فتح أبواب هذه العلوم وأنار العقول وجعل أناسا كمثلهم خاملي العقول يمكن أن يفكروا ويتدبروا، نراهم أخذوا ما تعلموه من حضرته وحاولوا به نقضه وإثبات خطئه، ثم بسطوا ألسنتهم بالسوء وكشفوا عما في قلوبهم من غلِّ.
ولكن، صدق الشاعر القائل:
إذا أنت أكرمتَ الكريم ملكته وإن أنت أكرمتَ اللئيمَ تمرَّدا
وقصص نكرانهم للجميل وعضِّهم الأيادي التي امتدت إليهم بالخير كثيرة.