قَدَرُنا أن نُبتلى في أموالنا وأنفسنا بصور شتى، وأن نسمع ونرى الإساءات التي تجرح قلوبنا من الخبثاء الذين يتلذذون بالإيذاء؛ وأشد ما يؤذينا ويؤلم قلوبنا إنما هو الإساءة إلى نبينا الكريم الذي هو أحب إلينا من أنفسنا. ولكن لماذا كل هذا؟ لماذا نتعرض للابتلاءات التي أشدها هذه الإساءات؟ ولماذا لم يمنع الله تعالى هذه الإساءات والنبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من الدنيا وما فيها؟
الجواب هو في كلام الله تعالى إذ يقول:
{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (آل عمران 187)
فالذي يريده الله تعالى منا أن نتحلى بالصبر ونلتزم بالتقوى، وذلك من عزم الأمور؛ أي مما يظهر قوة عزيمتنا وانضباطنا وتقوانا في غمرة هذه الظروف القاهرة.
وفيما يتعلق بالإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، والتي هي أشد الابتلاءات على المؤمنين، فكان يمكن أن يمنع الله هؤلاء المجرمين منها، ولكنه قدَّر أن تتاح لهم الفرصة ليمارسوا إجرامهم، ولكن في المقابل، فإنه قد تعهد بأن يرفع مقام النبي صلى الله عليه وسلم ويُحسن ثناءه كلما ازدادت هذه الإساءات، وأن يسخِّر الأسباب ليعاقب هؤلاء بأن ترتد إساءاتهم عليهم، وأن يميز الله تعالى الخبيث من الطيب، بأن يُظهر نموذج المؤمنين بالنبي صلى الله عليه وسلم الذين أمرهم بأن يكثروا من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كلما واجهوا هذه الإساءات، وهذا هو الرد الحقيقي عليها. يقول تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (57) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا } (الأحزاب 57-58)
فالله تعالى أولا يطمئن المؤمنين بأنه هو وملائكته يصلون على النبي؛ أن الله تعالى قد تعهد هو بنفسه بأن يرفع درجات النبي صلى الله عليه وسلم ويُحسن ثناءه ويُظهر صورته الحقيقية للعالم، وأن يجعله ظافرا منتصرا في النهاية، وهذا ما تعهد به بنفسه وفوَّض ملائكته به أي أن كل قوانين الكون ستخدم شأن رفعة مقام النبي صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه، فلا تقلقوا من الإساءات، وواجبكم أن تنسجموا مع فعل الله تعالى ملائكته بأن تصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم، وصلاتكم هنا تعني حسن الثناء والدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم بقلوب مكلومة، وبأن تحرصوا على ألا تسيئوا إليه بصفتكم أتباعه، وأن تظهروا أسوتكم العظيمة بالصبر والتقوى، وأن ترفعوا من مستوى إيمانكم وتقواكم بحيث يجد الناس فارقا هائلا بين أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وغيره. واتركوا أمر هؤلاء المسيئين إلى الله تعالى، فهو قد تعهد بأن يُعدَّ لهؤلاء المسيئين عذابا أليما، وأن يجعلهم ملعونين في الدنيا والآخرة.
ومن نماذج عجائب تحقق هذه اللعنة، وارتداد الإساءة إلى أصحابها، أن بعض الخبثاء من القساوسة جعلوا كل همهم الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم محاولين تشويه صورته النقية وسيرته العطرة، ظانين بذلك أنهم سيحافظون على كيانهم وعلى أتباعهم، كي لا ينجذب الناس إلى الإسلام، فأخذوا بنشر المفتريات، والتعرض للنبي صلى الله عليه وسلم وحياته الطاهرة، ومما قاموا به هو أنهم قد ادعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتديا على الأطفال – والعياذ بالله – مدَّعين أنه قد تزوج من السيدة عائشة وهي طفلة صغيرة! وهذا بالطبع غير صحيح، إذ تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وكانت كبيرة بالغة، بل كانت قد خُطبت مرتين قبل حضرته صلى الله عليه وسلم. فماذا كان ردُّ الله تعالى؟
لقد فضح الله تعالى هؤلاء بأن رد اتهامهم عليهم، بجعل جرائمهم الجنسية بحق الأطفال تزكم الأنوف وتكون من الكثرة والخطورة بحيث تعرضت بعض الكنائس إلى الإفلاس في أمريكا وأستراليا نتيجة لدفع التعويضات للمتضررين، وتبين أن هذه الظاهرة كانت متفشية بكثرة، وكان بعض كبار رجال الدين يتسترون عليها، وكانت هذه الفضيحة سببا لاستقالة البابا بندكت السادس عشر، بسبب المسئولية المباشرة له عن ذلك، كون التحقيق كان سيكشف أنه تستر على بعض هؤلاء المجرمين من كبار رجال الدين. والسؤال هنا: أفلم ينتقم الله تعالى من المسيئين الذين حاولوا قذف النبي صلى الله عليه وسلم بهذه التهمة الشنيعة ويجعلهم ملعونين في الدنيا قبل الآخرة؟ ألم يحقق الله تعالى وعده؟
وأنوه هنا إلى أن المسيحيين الشرفاء، سواء كانوا من إخواننا في الوطن والعروبة أو من الغربيين أو من أي شعب من شعوب الأرض، لا يقبلون بهذه الأفعال الشنيعة وليسوا طرفا فيها، كما أن اللعنة التي تنزل على المسيئين من القساوسة لا تتعلق بهم، بل هنالك من القساوسة الكثير من الشرفاء الذين يدينون هذه الأفعال، ولكل هؤلاء منا كل الحب والاحترام والتوقير.
وعلى كل حال، فقد أصبحت الإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم اليوم لعبة سياسية؛ إذ يؤيدها بعض الزعماء الغربيين بدعوى حرية التعبير لكسب المتعاطفين والأنصار، ويستخدمها بعض القادة المسلمين للاستعراض الزائف والادعاء بأنهم حماة الدين والعقيدة، وينبغي أن ينتبه المسلمون وأن يلتزموا بما أمر الله تعالى به، وأن يفوتوا الفرصة على كلا الفريقين، وألا يصبحوا جزءا من هذه اللعبة السياسية. ويجب أن يكون الجميع مطمئنين أن السياسيين الذين يقبلون هذه الإساءة أو يروجون لها سيكون لهم نصيب من اللعنة الإلهية الموعودة، وسيتكفل الله تعالى بهم، وسيشهد العالم هذا الانتقام الإلهي. أما الزعماء المسلمون الذين يستغلون الأمر ويحاولون تأجيج العامة لزيادة شعبيتهم ولأهدافهم الخاصة، فسيسقط القناع عنهم سريعا.
أقول أخيرا، إن الواجب علينا أن نلتزم بالصبر والتقوى كما أمرنا الله تعالى، وبهذا ننصر النبي صلى الله عليه وسلم حقا ونساعد الناس في الانجذاب إلى شخصيته العظيمة وإلى دينه الكريم. أما رد الإساءة بالإساءة، أو التمادي والإجرام بحجة الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنما هو إساءة لعلها أعظم من إساءة هؤلاء المسيئين، والله ورسوله بريئون منها. أما الرد المطلوب فهو أن ندافع بالحجة والبرهان مقابل هذه الافتراءات، وأن نفندها بأسلوب علمي نزيه مهذَّب، ونثبت كذب هؤلاء المفترين. فما أجمل أن نهدي لمن يتصدى للإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم كتابا عن سيرته العطرة، أو أن نرد دون انفعال بصبر وتقوى على التهم ليكتشف الناس الحقيقة وينقلب السحر على الساحر.
هذه الإساءات، وإن كانت تجرح قلوبنا، إلا أنها في النهاية خير لنا، لأنها ستساعدنا على أن نتقدم في الصبر والتقوى، وسيكون نموذجنا خير رد على من يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم هذه الاتهامات الشنيعة، وستكون فرصة لانجذاب كثير من الشرفاء إلى الإسلام وستجعلهم يقعون في حب النبي صلى الله عليه وسلم رغم أنف المسيئين باطلاعهم على الحقائق وبرؤيتهم لنموذج أتباع النبي صلى الله عليه وسلم المخلصين. فلا تحسبوا هذا الإفك شرا لكم، بل هو خير لكم، ولله عاقبة الأمور، وهذا جزء من الخطة الإلهية لتبديد الباطل وخزيه وإظهار الحق.
وفقنا الله تعالى لإظهار نموذج الصبر والتقوى طاعة لأمر الله تعالى ودفاعا عن نبيا الحبيب الكريم صلى الله عليه وسلم، ووفقنا للقيام بما يليق دفاعا عن حضرته بكل ما أوتينا من قوة، آمين.