للروح معان عديدة، منها حياة النفس التي يعيش بها الإنسان، وكذلك الرحمة الإلهية، والوحي الإلهي، ومن معانيها أيضاً جبريل حامل الوحي وأيضاً سيدنا عيسى ابن مريم عَلَيْهِمْ السَلام. وقد جاء في وحي المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام بمعنى عيسى أو مثيل عيسى عَلَيهِ السَلام اي بمنزلته ومثاله، وكذلك بمنزلة الوحي والرحمة للتشريف. وبهذا فإن إضافة “روح” إلى “الله” تعالى وما ينسب إليه جلّ جلاله إنما هو داخل في الملكوت، أي أن الله تعالى يملك الأرواح كلها، وهذا الملكوت يشمل كل شيء كالقول “بيت الله” أي الكعبة المشرفة كما في قوله تعالى ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ﴾ الحج، و”ناقة الله” كما في قوله تعالى ﴿فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا﴾ الشمس، أي الناقة التي اختارها الله تعالى لرسوله، وتأتي أيضاً بنفس المعنى والرسم ولكن بالفتح بدل الضم كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ يوسف. وهكذا كل ما يُنسب ويضاف إلى لفظ الجلالة، فلا يعني إلا مخلوق الله تعالى وملكه فقط.
روح الله
بهذا المعنى تأتي عبارة “روح الله” أي الروح أو الأرواح التي خلقها ويملكها الله تعالى وحده وليست ملكاً لأحدٍ غيره ﷻ. ولنأخذ قول الإمام الكبير ابن حزم رحمه الله:
“كل روح: فَهُوَ روح الله تَعَالَى، على الْمِلك؛ لَكِن إِذا قُلْنَا: روح الله، على الْإِطْلَاق: يَعْنِي بذلك جِبْرِيل، أَو عِيسَى عَلَيْهِما السَّلَام، كَانَ ذَلِك فَضِيلَة عَظِيمَة لَهما.” (الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم 3/9)
وقد استند الإمام ابن حزم على قوله تعالى:
﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ ص
﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ النساء
حيث كل مخلوق إنما هو روح الله ومنه تبارك وتعالى. ويقال أيضاً “روح الله” عن المسيح عَلَيهِ السَلام بوجه خاص.
وجاء أيضاً في حديث الشفاعة:
“وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ وَرُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ.” (رواه البخاري 7440، ومسلم 193)
وأيضاً جاء في الحديث عن جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النبي ﷺ ما مختصره:
“يخرج الدجال … ثم ينزل عيسى ابن مريم … فينطلقون فإذا هم بعيسى ابن مريم، فتقام الصلاة، فيقال له: تقدم يا روح الله، فيقول: ليتقدم إمامُكم فليصلّ بكم، فإذا صَلَّى صلاة الصبح خرجوا إليه.” (مسند أحمد، طبعة الرسالة، ج 23، ص 212، رقم الحديث 14954، إسناده على شرط مسلم)
إذن عيسى عَلَيهِ السَلام هو روح الله !
فما معنى “روح الله” الخاصة بعيسى ؑ؟
يجيبنا أولاً الإمامُ البيضاوي رحمه الله:
“وقيل: سُمِّيَ (روحاً) لأنه كان يحيي الأمواتَ والقلوب.” (أنوار التنزيل وأسرار التأويل)
وثانياً الإمامُ البغوي رحمه الله:
“قيل: هو (أي عيسى ؑ) روحٌ كسائر الأرواح إلا أنَّ اللهَ تعالى أضافه إلى نفسه تشريفاً. … وقيل: [وروح منه] أي ورحمة، فكان عيسى عليه السلام رحمةً لمن تبعه وآمن به.” (معالم التنزيل)
فالمعنى من “روح الله” هو تشريفه ورحمته تعالى ووحيه لإحياء القلوب الميتة. وقد استخدم الْمَسِيحُ الموعودُ عَلَيهِ السَلام نفس العبارة “روح الله” بمعنى الوحي والرحمة في معرض وصفه للخصوم المعتدين:
“ولا تميّزون الفائق من المائق وتخلطون. وعلى بادرة الظن تسبّون وتغتابون. وبولايتكم تفتخرون … وإني أعلم أنكم جمادٌ محضٌ، ما دناكم روحُ الله وإنكم ميّتون.” (التبليغ)
ولهذا تلقى المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام الوحي التالي سنة 1907: «أنتَ مِنّي بمنزلة روحي» أي تشريفي للمسيح الموعود وفق ما تقدم شرحه بأن بعثته هي بمنزلة رحمتي التي تكون عن طريق الوحي بهدف إحياء القلوب.
لذلك، لا إشكال في قول “روح الله” أي تشريف ورحمة الله تعالى ووحيه وأمره لَا إشكال أن تقال عن نَبِيٍّ مكرم وبالأخص عيسى عَلَيهِ السَلام لكون مهمته هي إحياء قلوب بني إسرائيل التي أماتتها التقليدية والجمود الفكري والابتعاد عن روح ولبّ الدين، وهذا بالفعل هو التشريف الإلهي العظيم. وهكذا وبنفس المعنى جاء مثيلُه في الأمة الإسلامية الْمَسِيحُ الموعودُ عَلَيهِ السَلام في عين المهمة لإحياء قلوب الناس التي أماتتها فتاوى التكفير والعدوان وتشويه اسم الجهاد الحقيقي وتفرّق شمل المسلمين ووقوعهم في براثن التنصير والابتعاد عن جوهر وروح الدين، فكان الْمَسِيحُ الموعودُ عَلَيهِ السَلام بحقّ مثيلاً لروح الله أي بمنزلة رحمة الوحي التي نالها قبله الْمَسِيحُ الناصري عَلَيْهِمْ السَلام.
أما الإشكالية فتقع على صاحب هذه الشبهة المتهافتة وحده، لأنه باعتراضه على عبارة “بمنزلة روح الله” بِحُجَّة أنَّ لقب “روح الله” إذا أُطلِقَ على نَبِيٍّ أو شخصٍ ولم يُطلقَ مثله على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فهو دليل أفضلية ذلك الشخص على النبي ﷺ والعياذ بالله! إشكاليته لأن عيسى ؑ كما ثبتَ هو روح الله! فهذه مشكلة صاحب الشبهة لا غير. أما أفضلية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فقدْ ثبتت على جميع الخلق من النبيين ؑ وغيرهم بنص القُرآن الكَرِيم، لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم خاتم النبيين، أي أكملهم وأعظمهم شرفاً ومنزلة عند الله تبارك وتعالى. فلا إشكالية إلا عند خصوم الجماعة الذين أعماهم الكره والحقد على الجماعة لدرجة الابتعاد عن روح الدين فأخذوا يهدمونه بدل المحافظة عليه.
هذا عند خصوم الجماعة، أما عند باقي المسلمين كما لاحظت عزيزي القاريء في الآيات من سورتي ص والنساء وفي قول ابن حزم والبغوي رحمهم الله تعالى وعند المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام؛ فكل روح خلقها الله تعالى هي روح الله، وإنما قيل عن المسيح روح الله لأنه كان يحيي موتى القلوب كما أشار البيضاوي رحمه الله، وهذه عموماً هي ميزة جميع رجال الله تبارك وتعالى ومنهم خاصةً مثيلُ المسيح عَلَيهِ السَلام.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ