سلسلة “المسيح يكسر الصليب بتصحيح المفاهيم” حلقة 14
لَمْ يترك حضرة المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام جانباً من جوانب المعتقدات الباطلة دون تفنيد، وفي هذا المنشور يتناول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام عقيدة التثليث من جانب الشهود التاريخية لدحض هذه العقيدة المبتدعة، ومن ثم يجيب الْمَسِيحُ الموعود عَلَيهِ السَلام على سؤال حول التوحيد في التوراة إِذْ يزعم البعضُ بأن لا حاجة إلى القُرآن طالما انّ التوحيد موجود في التوراة قبل القُرآن الكَرِيم بقرون عدّة. فهل هذا صحيح ؟ وهل هو مجرد تكرار لما جاء في التوراة ؟
يقول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام:
“لقد أقامَ اللهُ ﷻ أربعةَ شهودٍ على إبطال عقيدة النصارى لإقامـة الحُجة عليهم. أولاً: اليهود الذين يشهدون منذ ما يقارب 3500 عام على أنهم لَمْ يتلقَّوا قَطّ تعليم التثليث، وَلَمْ يتنبّأ نبيٌّ بأن إلهاً أو ابن الله في الحقيقة سـيظهر في الأرض. ثانياً: فرقة أتْباع يحيى ؑ (أي يوحنا) التي ما زالت موجـودة في بلاد الشام، وهي بحَسَب التعليم القديم تؤمنُ بأن المسيحَ إنسانٌ فقط، وهو نبيٌّ تلميذٌ ليحيى ؑ. ثالثاً: فرقة النصارى الموحِّدة التي ذكرها القـرآنُ الكـريم مراراً، والتي أجرى قيصرُ الروم في القرن الثالث مناظرةً بينهم وبين أصـحاب التثليث وغلبت فيها الفرقة الموحِّدة، فاعتنقَ قيصرُ دين الفرقة الموحِّدة. رابعاً: نبيُّنا ﷺ والقرآن الكريم، الذي شهد على أنَّ المسيحَ ابن مريم ليس إلهاً أبداً ولا ابن الله وإنما هو نبيُّ الله. وبالإضافة إلى ذلك فقََدْ شَهَدَت إلى الآن آلافُ الصلحاء بتلقّي الإلهام من الله على أنَّ المسيح ابن مريم عَبْدٌ متواضعٌ ونبي من الله، ففي هذا الزمن أقامني الله ﷻ أنا للشهادة على النصارى المعاصرين وأمرني بأن أكشف على الناس أنَّ اتخاذ ابن مريم إلهاً باطلٌ وطريق الكفر، ولقد شرّفني بمكالماته ومخاطباته وقد بعثني بآياتٍ كثيرة وأظهرَ خوارقَ كثيرة تأييداً لي، وإنّ مجلسي بفضله ورحمته يُري اللهَ في الحقيقة والذي يحضره بصحة النية وإرادة طيبة وبحثٍ مستقيم لمدّة فإني علـى يقينٍ بأنه سيؤمنُ بالله أخيراً حتى لو كان ملحدا. … أيها النصارى، تذكّروا أنَّ المسيحَ ابن مريم ليس إلهاً البتّة فلا تظلموا أنفسـكم ولا تُعطوا عظَمة الله لمخلوقه، إنَّ قلبنا يرتجف بالاستماع إلى أنكم تتّخـذون مخلوقاً ضعيفاً عاجزاً إلهاً، تعالوا إلى الإله الحق، ليكون خيراً لكـم وتحسُن عقباكم.” (البراءة، ص 51-52)
ويكمل حضرته:
“قد حَكَمَ اللهُ في النـزاع الدائر بين اليهود والنصارى منذ مئـات السنين، أي أنَّ عيسى ؑ لَمْ يكن من المردودين والملعونين، ولم يكـن من الكُفار الذين لا يُرفعون، بل هو نبيٌّ صادقٌ وتمَّ رفعه روحانياً في الحقيقة كسائر الأنبياء. فهذا هو النـزاع الذي كان دائراً بينهم.” (البراءة، ص 22)
وقد يسأل مُسْلِمٌ أو غير مُسْلِم: لماذا كل هذا الانتقاد لعقيدة رفع عيسى بجسده ؟
فيجيب المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام:
“إنَّ الأفكار القائلة بأن اللهَ تعالى قَدْ رفعَ المسيحَ ؑ إلى السماء بجسده؛ مُخجلة للغاية، لأنها توحي وكأنه ؑ كان يخافُ أن يبطش به اليهود. والذين لم يعرفوا حقيقة النـزاع قد نشروا أفكاراً كهذه. وفي هذه الأفكار إساءةٌ إلى النبي ﷺ لأَنِّ كُفار قريشٍ طلبوا منه بكلّ إصرارٍ وإلحاحٍ مُعجزةً أن يرقى في السماء أمام أعيُنِهم وينـزِلُ منها بكتاب حتى يؤمنوا به جميعاً، وَلَكِنَّ اللهَ تعالى قد ردَّ عليهم قائلاً: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}، أي إنني بشرٌ، واللهُ بريءٌ من أن يَرفع البشر إلى السماء خلافاً لسُنته. فهل يُعقل أن يَرفع ﷻ المسيحَ إلى السَّمَاءِ مُخالفاً بذلك وعْدَه.” (محاضرة سيالكوت)
ليس عيسى ﷺ وحده الذي رُفع بل كل من تواضع للرافع ﷻ رفعه
“حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ، حُجْرٍ قَالُوا حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، –وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ– عَنِ الْعَلاَءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ.” (مسند أحمد بإسناد صحيح 8996 و 7205 9641 قال الشيخ الأرناؤوط: “إسناده صحيح على شرط مسلم”. صحيح مسلم 2588. وسنن الدارمي 1676 كلها من طريق أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)
ما هو جديد القُرآن الكَرِيم في التوحيد عن التوراة
يجيب المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام:
“فليتّضح أنَّ كثيراً من الأمور الإلهية لا نجدُ لها أيّ أثرٍ في التوراة، ففي التوراة لا توجد مراتب دقيقة للتوحيد، فالقرآن يبيّن لنا أنَّ التوحيـد لا يعني أن نجتنب عبادة الأوثان والناس والحيوانات والعناصر والأجرام الفلكيـة والشياطين فقط، بل للتوحيد ثلاث درجات: الدرجة الأولى تخص العامة، أي الذين يريدون النجاة من غضب الله، والدرجة الثانية للخواص، أي أنَّ الذين يريدون الامتياز بالقرب الإلهي أكثر من العامة، أما الدرجة الثالثة فلخـواص الخواص، الذين يُحبّون إحراز الكمال في القرب. فالمرتبة الأولى للتوحيد هي أن لا يعبد الْإِنسَانُ غير الله وأن يجتنب عبادة كُلّ شيء يبدو محدوداً ومخلوقاً سواء أكان في الأرض أو في السماء. والمرتبة الثانية للتوحيد هي أن يؤمن بأن المؤثّر الحقيقي في جميع أعماله وأعمال غيرِه هو الله وحده، وأن لا يركّز على الأسباب بما يجعلها شريكة لله. فالقول مثلاً “لو لَمْ يكن زيدٌ لتعرضتُ لخسارة كذا، ولولا بكر لهلكتُ”. فـإذا قيلـتْ هـذه الكلمات بنيّة تُوحي بأن القائل في الحقيقة يعدّ زيداً وبكراً شـيئاً مـؤثراً في الحقيقة، فهذا أيضاً من الشرك. أما القسم الثالث للتوحيد فهـو أن يزيـل الإنسان أماني نفسه التي تعترض حُب الله وأن يُفني نفسه في عظمته، فأين هذا التوحيد في التوراة؟ وكذلك لا يوجد في التوراة أي ذكر للجنّة والنار، وقد تكون بعض الإشارات هنا وهناك. وكذلك التوراة لا تذكر الصفات الكاملة لله ﷻ بشكل واف. فلو كانت في التوراة سورةٌ كما في القرآن الكريم: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾، لكان من المحتمل أن يجتنب النصارى بلاءَ عبادة المخلوق هذا. وكذلك التوراة لَمْ تبيّن مدارج الحقوق كاملةً، بينما القرآن الكريم أوصل هذا التعليم أيضاً إلى الكمال فهو يقول مثلاً: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾، أي ينبغي أن تكون مواساتكم لبني البشر ناتجةً عن حماس طبعـي كما تواسي الأم ابنها، ولا تكون بدافع المنّ. كذلك فإن التـوراة لَمْ تثبـت وجود الله ووحدانيته وصفاته الكاملة بالدلائل العقلية، بينما القرآن الكريم قد أثبتَ جميع هذه العقائد بالإضافة إلى ضرورة الإلهام والنبوة بالدلائل العقلية، وببيان فلسفة كُلّ بحثٍ قد سهّل فهمُه على طلاب الْحَقّ، وكلّ هذه الدلائل توجد بالكمال في القرآن الكريم، ولا يقدِر أحدٌ على أن يقدم أيَّ دليل على وجود الله لَمْ يذكره القُرآنُ الكريمُ سلفاً. وبالإضافة إلى ذلك هناك دليلٌ عظيمٌ على الحاجة إلى وجود القرآن الكـريم، وهو أنَّ جميع الكتب بدءًا من كتاب موسى التوراة إلى الإنجيل تخاطب شعباً معيّناً، أي بني إسرائيل، وهي تقول بكلماتٍ واضحةٍ وصريحة بأن وصـاياها ليست للفائدة العامة بل هي تخصّ بني إسرائيل فقط، لكن مهمّة القرآن الكريم إصلاح العالم كله، وهو لا يخاطب شعباً معيّناً بل يقول بكلّ صراحةٍ ووضوح أنه نـزل للناس كافة، ويُهمه إصلاح كُلّ واحد. فمن ناحية المخاطَبين هناك فرقٌ هائلٌ بين تعليمَي التوراة والقرآن الكريم. فالتوراة تقول مثلا: لا تقتـل، والقرآن أيضاً يقول لا تقتل، وفي الظاهر يبدو أنَّ الأمرَ الذي ورَدَ في التوراة قد كُرِّرَ نفسه أو أعيدَ في القرآن الكريم، إلا أنه ليس تكراراً في الحقيقة، لأن الأمرَ التوراتي يخصُّ بني إسرائيل فقط، حيث مُنع من القتل بنـو إسـرائيل، والتوراة لا تعني أحداً غيرهم. أما الحُكم القرآني فيعمّ العالَم إذ قد مَنع كافـةَ بني البشر من القتل بغير حق. وكذلك فإن الغاية المتوخاة للقرآن الكـريم في خصوص جميع الأحكام هي إصلاح الناس كافة، أما غاية التوراة فتقتصر على بني إسرائيل فقط.” (البراءة، ص 78-80)
وهذا بالفعل ما أثبته الخطاب التوراتي الذي يعلن أنَّ الله هو رَبُّ إسرائيل فقط:
“هكذا يقول الرب ملك اسرائيل وفاديه رب الجنود أنا الأول وأنا الآخر ولا إله غيري.” -إشعياء 44:6.
“مُبَارَكٌ الرَّبُّ اللهُ إِلهُ إِسْرَائِيلَ، الصَّانِعُ الْعَجَائِبَ وَحْدَهُ.” -مزمور 72: 18.
بينما في القُرآن الكَرِيم يتجلّى الخطاب واضحاً بأن الله تعالى هو رَبُّ العٰالَمِينَ:
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ -الفاتحة
﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ -الشعراء
حتى أنَّ القُرآن الكَرِيم قد صحّح الخطاب التوراتي مؤكداً بأنَّ رسالة النبيين ؑ كانت بالفعل من رَبَّ العٰالَمِينَ، ولكن سجلت التوراة الخطاب بهذه الشاكلة لأن الشريعة التوراتية كانت حصرية لليهود وانتهت ببعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الذي جاء بالقُرآن العظيم للناس كافة.
ولله درّ خادم الخاتم مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم !
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ