من أجمل ما سمعت عن المرحوم الأستاذ منير الحصني، أمير الجماعة الأول في سوريا، أنه كان يقول إن الأحمدية ميزان الرجال، بمعنى أنك إذا أردت أن تعرف الرجل وتزن عقله وفكره وحالته القلبية فاعرض عليه الأحمدية، وعندها سترى حقيقته وستعرفه جيدا.
والواقع أن هذا الأمر له أصل، إذ أن القرآن الكريم يبين أن دعوة الأنبياء إنما هي كالشمس التي بسطوعها تكشف ما على الأرض من حسن وسيئ. فالطيبون يبرهنون على طيبتهم وعلى نقاء سرائرهم بقبول هذا المبعوث السماوي، فيعرفهم الناس بعد أن كانوا كالكنز المخفي، أما الأشرار فلا يصبحون أشرارا بسبب معارضتهم لدعوة الأنبياء، وإنما معارضتهم لدعوة الأنبياء هي التي تكشف شرَّهم وخبث طويتهم الذي يكون خافيا على الناس أحيانا كثيرة. والواقع أنه بغير بعثة الأنبياء والمبعوثين السماويين يتعذر معرفة الخبيث من الطيب.
وقد أوضح القرآن الكريم أن بعثة الأنبياء وحدها هي التي تميز الخبيث من الطيب، إذ يقول تعالى:
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ } (آل عمران 180)
فهذه هي العملية الأزلية لتمييز الخبيث من الطيب، وهي التي مازت إبليس وأخرجته من صفوف الملائكة منذ بدء الخليقة، إذ لم يتبين ما فيه من شر وسوء وكبر إلا بمعارضة آدم بعد بعثته. فانطلق بعد أن كان منسجما مع الملائكة ويفعل فعلهم إلى أن يجعل حياته مكرسة لإضلال الناس وحرفهم عن الصراط المستقيم.
والحقُّ أن ما يميز دعوة الأنبياء أنها تضع صراطا مستقيما واضحا مبنيا على أسس قوية وراسخة، بينما ليس في يد المعارضين إلا الشبهات التي تريد أن تعيق سير المؤمنين على هذا الصراط المستقيم وتريد حرفهم عنه ليس إلا، وليس عند المعارضين منهج ولا سبيل ولا مسلك، بل يريدون أن يهيم الناس على وجوههم وتتفرق بهم السبل بعيدا. فدينهم ليس سوى معارضة الأنبياء والمبعوثين، وليس لديهم هدف سوى أن يبعدوا الناس بعيدا عنهم بأي طريقة، وبالطبع لا يتورعون عن الكذب والخداع والتدليس والكذب لتحقيق بغيتهم. ثم سرعان ما سيكتشف الناس أن أفعالهم وسيرتهم ليست سيرة أتقياء بل سيرة شياطين مفسدين.
ومن أمثله ذلك ما رأينا مؤخرا كيف أن أحد المعارضين المرتدين بعد ارتداده عن الجماعة تراه يقول إن كل معتقَدٍ مقبولٌ، مهما كان، المهم أن تكذِّب الجماعة وتتركها! وإن أول الأولويات وأوجب الواجبات هو أن تشهد بكذب مؤسس هذه الجماعة وتقتنع بأن هذه الجماعة هي أسوأ الجماعات في التاريخ، ثم اعتقد ما تشاء وافعل ما تشاء! فسواء كان المسيح حيا في السماء ونزل منها، أو كان ميتا في الأرض وأحياه الله، أو جاء مثيل له في الأمة، أو أي احتمال آخر، فلا بأس! فمضمون دعوته أنْ آمنوا بما تشاءون، واعتقدوا بما تحبون، ولكن اكفروا بهذا المبعوث الرباني تهتدوا! لذلك ليس عجيبا أن تجده متحالفا مع أناس تختلف أطيافهم بشدة، بل إن فيهم بعض غير المسلمين حتى، المهم أنهم جميعا عنده مهتدون ما داموا يعارضون هذه الجماعة ويشهدون أنها الشر بعينه!
والواقع أن الهدف من هذه الميوعة والزئبقية الفكرية ليس سوى أن يرضي هذا الشخص وأمثاله جميع الناس من كل الأطياف ليتحالفوا معه في معارضته التي ليست نابعة إلا من الهوى والأحقاد الدفينة. لذلك تجد من هم على هذه الشاكلة دوما يفرِّون من أن يعلنوا معتقداتهم؛ لأن اتخاذهم موقفا ما من قضية معينة يعني أنهم سيخسرون تلقائيا من يقول بخلافها. والواقع أن هؤلاء لا دين لهم، ولا قيمة عندهم لأي معتقدات.
ورغم هذه الزئبقية والميوعة الفكرية عموما إلا أنك تجد الثابت الوحيد الذي لديهم هو تكفيرهم للجماعة ورفضهم نسبتها إلى الإسلام بأي طريقة، وإن لم يصرحوا بذلك. وعدم تصريحهم بكفر الجماعة ليس إلا من باب الميوعة أيضا، لأن التكفيرالصريح سيفتح عليهم أبوابا تجعلهم يخسرون قطاعا من الناس، كما أن فتحه علانية سيؤدي إلى انزلاقهم فيه واضطرارهم لتطبيقه على آخرين، مما سيشغلهم وسيحرفهم عن هدفهم الوحيد الذي هو جمع كل من هب ودب لمعارضة الجماعة، بل والتحريض عليها بكل وسيلة.
أما الشبهات التي يثيرونها، فهي الشبهات التي أثيرت ضد الأنبياء باستمرار، والتي أثيرت ضد الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم وما زال يثيرها أعداء الإسلام حتى يومنا هذا. ولم تكن هذه الشبهات لتضر الإسلام في شيء، كما لن تضر الجماعة في شيء، بل هي في الواقع مصيدة يقع فيها الذين في قلوبهم مرض ممن يعلم الله ما في قلوبهم، فيطردهم بها من جماعة المؤمنين، وهي مناسبة ليطلع المؤمنون على درر خفية كامنة تحت الشبهات تزيدهم إيمانا وثباتا ويقينا.
باختصار، حال المعارضين هو حال إبليس اللعين الذي قال:
{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (17) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } (الأَعراف 17-18)
ولكن، صدق الله تعالى إذ قال في وصف المهتدين الذين يسيرون على صراط مستقيم والضالين الذين يمشون مكبين على وجوههم:
{ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (الملك 23)
فطوبى لمن ثقلت موزاينه ورجحت كفته في ميزان الأحمدية، والخيبة والخسران لمن خفت موازينه وهوى في قعر الجحيم.
ولله الحمد سنة الله المتجددة في خلقه
صدق الله العظيم