عبادات الإسلام وشعائره تهدف كلها إلى خير العباد في الدنيا والآخرة. وما من عبادة شرعها الله تعالى إلا وغايتها أن يفوز العبد بقرب الله ورضوانه. ومن هنا كان الحج من أعظم العبادات والقُرُبات التي يتقرب بها الناس إلى خالقهم، فتصفو نفوسهم وتتطهر قلوبهم وبالتالي يحظون بالسمو الروحاني.

تاريخ الحج

تاريخ الحج قديم قِدَم الكعبة المشرفة، وتاريخ الكعبة قديم قِدَم الزمن. ولا توجد روايات تذكر تاريخ إنشاء هذا البيت، ومن بناه لأول مرة. أما الأدلة على كون هذا البيت قديما وموجودًا حتى قبل سيدنا إبراهيم عليه السلام فهي كالتالي: قال الله تعالى : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت(البقرة: 128). فهنا لم يقل الله تعالى: وإذ يضع إبراهيم القواعد، وإنما قال: وإذ يرفع، وهذا يدل على أن بيت الله كان موجودًا من قبل ولكنه كان قد تهدّم، ورفع إبراهيم هذا الأساس بإذن الله، وأقامه من جديد.

وهناك آية قرآنية أخرى تؤكد هذا الموضوع أكثر، حيث تقول: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدًى للعالمين)(آل عمران: 97) .. أي أن أول بيت بُني لصالح الناس ومنفعتهم هو ذلك الموجود في مكة المكرمة.

وكذلك ورد في الأدعية التي دعا بها إبراهيم عليه السلام ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم(إبراهيم: 38). وجملة (عند بيتك المحرّم) تبين أن بيت الله الحرام كان موجودًا هناك من قبل، لأن هذا الدعاء صدر من سيدنا إبراهيم عندما كان ابنه إسماعيل طفلا صغيرا وجاء به مع أمه هاجر وأسكنهما هناك، وأطلع الله إبراهيم بالوحي على هذا المكان وأخبره أن هذا هو أول بيت بُني لله تعالى.

كذلك وصف القرآن بيت الله بأنه البيت العتيق في قوله تعالى: وليطَّوَّفوا بالبيت العتيق(الحج: 30) .. مما يبين أن بيت الله موغلٌ في القدم، أو بعبارة أخرى إنه أول معبد بُني لعبادة الله في العالم. فليس إبراهيم باني هذا البيت، وإنما جدد بناءه ورفعه على أسسه الأصلية.

وتؤكد الأحاديث أيضًا وجودَ آثارٍ لبيت الله قبل قدوم إبراهيم إلى هذا المكان..فقد ورد أنه لما ترك إبراهيم هاجر وإسماعيل في وادٍ غير ذي زرعٍ قَالَتْ: “يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلا شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا. فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِذَنْ لا يُضَيِّعُنَا. ثُمَّ رَجَعَتْ. فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ – حَيْثُ لا يَرَوْنَهُ – اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: رَبِّ إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ (صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء). يؤكد هذا الحديث أيضًا على أن الكعبة لم يَبْنِها إبراهيمُ وإنما جدّد بناءها فقط، وأنها كانت موجودة من قبل، وكانت بدايتها في زمن لا يعلمه إلا الله تعالى، ولا يذكر التاريخ ذلك.

ويعترف بذلك المستشرق المتعصب “وليم موير” ويقول: “إننا مضطرون إلى إرجاع المبادئ الكبيرة لدين مكة إلى زمن موغلٍ في القدم….

ثم يقول وليم موير: “إن المؤرخ الشهير “ديودورس سكولس” قال وهو يتحدث عن ما قبل الميلاد بنصف قرن: هناك معبد من الحجر مشيد بالجزء المحاذي للبحر الأحمر من الجزيرة العربية، وهو معبد قديم جدًا، يؤمه العرب من كل مكان لزيارته”.

ثم يقول وليم موير: “إن هذه الكلمات تتعلق بالبيت المقدس بمكة، لأنه ليس هناك مكان آخر اكتسب هذا الاحترام الكبير من العرب.” (حياة محمد، ديباجة، فصل 2 ص 102 – 103) بتصرف من التفسير الكبير لميرزا بشير الدين محمود أحمد الخليفة الثاني للإمام المهدي عليه السلام ج 2، ص 166- 168)

هذا، وثمة كشف للإمام محيي الدين ابن عربي – رحمه الله – يسلّط الضوء على الموضوع الذي نحن بصدده، فيقول حضرته: “أراني الحق تعالى فيما يراه النائم ..وأنا أطوف بالكعبة مع قوم من الناس لا أعرفهم بوجوههم. فأنشدونا بيتَين نسيت أحدهما وأذكر الثاني وهو:

لقد طُفْنا كما طُفْتم سِنِينَا بهذا البيت طُرًّا أجمعينا

فتعجّبت من ذلك. وتسمَّى لي أحدهم باسمٍ لا أذكره، ثم قال لي: أنا من أجدادك. قلت: كم لك منذ متَّ؟ فقال: لي بضع وأربعون ألف سنة. فقلت له: فما لآدم هذا القدر من السنين؟! فقال لي: عن أي آدم تقول؟ عن هذا الأقرب إليك أم عن غيرك؟ فتذكّرتُ حديثًا لرسول الله (ص) أن الله خلق ألف آدم. وقلت: قد يكون ذلك الجد الذي نسبني إليه من أولئك.”(الفتوحات المكية، ج 3، الفصل الخامس في المنازلات، باب 309)

ويدل ما سبق على أن الكعبة كانت موجودة من قبل وبالتالي كان الناس يحجون إليها حسب التقاليد المروّجة بينهم. أما المناسك التي قد أحياها الإسلام وأمر باتباعها فيرجع تاريخها إلى عهد نبي الله إبراهيم عليه السلام، وفق ما قال تعالى لسيدنا إبراهيم: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ(الحج: 28).
ولقد استمرت هذه المناسك في ذرية سيدنا إسماعيل عليه السلام إلى عهد الإسلام الحنيف، غير أن العرب لما نسوا التوحيد وداخَلَهم الشركُ، تبع ذلك تحريف وتغيير في أعمال هذه العبادة، شأنهم في ذلك شأن الأمم، إذا فسدت سرى الفساد في كل شيء منها. فلما جاء الإسلام أزال الشوائب العالقة بهذه المناسك، وأحيا تلك السنن التي كانت قد صارت مطمورة تحت أنواع من التقاليد السخيفة والأعراف الباطلة. فانجلى فضل الحج واتضحت أهميته، وانكشفت مكانته السامية بين العبادات.

فضل الحج

لقد وردت نصوص كثيرة في فضل الحج، ونذكر طائفة منها فيما يلي:

الحج يهدم ما قبله
ثمة رواية طويلة وردت في صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال:”فلما جعل الله الإسلامَ في قلبي أتيتُ النبي (ص) فقلت: ابْسُطْ يمينَك فلأبايعك. فبسط يمينه. قال: قبضتُ يدي. قال: ما لك يا عمرو؟ قال: قلت: أردتُ أن أشترط. قال: تشترط بماذا؟ قلت: أن يُغفر لي. قال: أما علمتَ أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله.” (صحيح مسلم، كتاب الإيمان)

الحج أفضل الأعمال بعد الإيمان والجهاد

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل النبي (ص): أي الأعمال أفضل؟ قال: “إيمان بالله ورسوله.” قيل: ثم ماذا؟ قال: “ثم جهاد في سبيل الله”. قيل: ثم ماذا؟ قال: “ثم حج مبرور”. (صحيح البخاري، كتاب الحج)

الحج أفضل الجهاد

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله: نرى الجهاد أفضلَ الأعمال، أفلا نجاهد؟ قال: “لا، لكِنَّ أفضلَ الجهاد حجٌّ مبرور.” (صحيح البخاري، كتاب الحج)

الحج المبرور جزاؤه الجنة

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال:”العمرة إلى العمرة كفّارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.” (صحيح مسلم، كتاب الحج)

الغاية من الحج

قال الله تعالى مبينا أحكام الحج: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (البقرة: 204).

هنا حدد الله الغاية من الحج وهي – كما نلاحظ – أن ينال المؤمن التقوى.

يقول سيدنا الإمام المهدي عليه السلام:
“ليس المراد من الحج أن يخرج أحدٌ من بيته ويعبر البحار، ثم يرجع من هناك بعد ترديد بعض الكلمات بلسانه ترديدًا تقليديًا فارغًا فحسب. الحق أن الحج عبادة عالية هي آخر درجة من درجات السلوك إلى الكمال. اعلموا أن انقطاع الإنسان عن نفسه يتطلب منه أن يتفانى في حب الله تعالى، وأن يبلغ به حب الله مبلغًا بحيث لا يتألم في سبيل ذلك من وعثاء السفر، ولا يكترث بحياته ولا بماله، ولا يبالي بفراق أعزته وأقاربه، ولا يتردد عن التضحية بحياته، شأن العاشق الولهان الذي يستعد دائما بفداء نفسه من أجل حبيبه. وقد جعل الله تعالى في الحج نماذج لكل هذه الأمور. فكما أن العاشق يهوم حول معشوقه كذلك جَعَلََ اللهُ في الحج الطوافَ. وثمة نكتة لطيفة: كما أن هناك بيت الله، كذلك ثمة من هو فوقه، فما لم تطوفوا حوله ( لا يجديكم هذا الطواف الظاهري ولا تثابون عليه. ينبغي أن تكون حال الذين يطوفون حوله ) مشابهة للتي تكون في الطواف الظاهري الذي يقتصرون فيه على لباس يسير. فعلى الطائفين حوله ” أن يخلعوا ثياب حب الدنيا ويلبسوا كساء التواضع والخضوع، ثم يطوفوا كالعاشقين. الطواف أمارة من أمارات العشق الإلهي ويهدف إلى أن يطوف الإنسان حول مرضاة الله تعالى.” (الملفوظات ج 9 ص 123 – 124)

ويقول سيدنا مرزا بشير الدين محمود أحمد رضي الله عنه الخليفةُ الثاني للإمام المهدي عليه السلام في تفسير الآية المذكورة أعلاه: “الغاية من عبادة الحج أن تتولد التقوى في قلوبكم.”

ثم يقول حضرته:”كل مناسك الحج هدفها أن يتولد في قلبكم حب صادق لله تعالى.” (التفسير الكبير ج 2 ص 432)

فالحج هجرة إلى الله استجابة لدعوته تعالى (فَفِرُّوا إِلَى اللَّه). كما إنه موسم دوري يلتقي فيه المسلمون كل عام على أصفى العلاقات وأتقاها، ويجتمعون على المحبة والمودة، يربط بينهم الإيمان رغم تباين الألوان وتباعد الأقطار واختلاف الديار. هكذا فإن الحج عظيمٌ في مظهره، وعظيمٌ في مناسكه، وعظيمٌ في نتائجه، وعظيمٌ في منافعه وآثاره، إذ هو نوع من السلوك الرفيع، ولون من ألوان التدرب العملي على مجاهدة النفس من أجل الوصول إلى المثل العليا.

تعريف ببعض الأماكن المقدسة وحكمة تسمياتها

إن جميع الأماكن الموجودة في الديار المقدسة – التي هي من شعائر الله – قد سميت بأسماء تنبه الإنسان إلى الله تعالى، وإليكم بيان ذلك.

عرفات: هو ذلك المكان الذي تجلى فيه الله تعالى لسيدنا إبراهيم عليه السلام. وثمة دلالة في تسميته وهي أننا عرفنا الله، والتقينا به لدى وصولنا إلى هذا المكان. وكأن هذا المكان ينطق بلسان حال الحاج. وقد جاء في الأحاديث ما يؤكد ذلك حيث قَالَ رسولُ الله (ص):”مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلائِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاء.” (صحيح مسلم، كتاب المناسك)

وفي رواية أخرى: “إن الله يباهي ملائكته عشيةَ عرفة بأهل عرفة فيقول: انظروا إلى عبادي، أتوني شُعثًا غُبرًا.” (مسند أحمد بن حنبل، مسند المكثرين من الصحابة)

مِنى: وهو المقام الذي جرت فيه السيدة هاجر وراء سيدنا إبراهيم عليه السلام في فزع، ولما أخبرها أنه تركها بأمر الله قالت: إذنْ لا يضّيعنا.

واسم (مِنى) مشتق من الأمنية. وفيه إشارة إلى أن الذي يتوكل على الله ويفوض أمره إليه، متبعا سنة سيدنا إبراهيم والسيدة هاجر، ينال أمنيته. وأمنية الحاج لقاء الله تعالى.
وهذا هو المكان الذي تمّ فيه القضاء على الشيطان للأبد، إذ نفدّ إبراهيم عليه السلام أوامر الله، وطاوعته في ذلك زوجته غير مبالَين بوساوس الشيطان تهديده بالفقر والهلاك. لذلك يقوم الحاج هناك برجم الشيطان بالجمرات.

المزدلفة: وهو المقام الذي وعد الله فيه سيدنا إبراهيم برفع درجاته للتضحية الجليلة المذكورة آنفا.

ولفظ (مزدلفة) فيه معنى القرب والزلفى، وفيه إشارة إلى أن غاية الحاج قد اقتربت منه، وهي الفوز بقرب الله تعالى.

دلالات وحِكَم في مناسك الحج

يقول سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام ما تعريبه:” الخوف والحب شيئان يصعب اجتماعهما بادئ الرأي، إذ كيف يمكن للمرء أن يحب أحدًا ويخاف منه أيضًا؟ ولكن خوف الله وحبّه لهما شأن آخر، لأن المرء بقدر ما يخاف الله بقدر ما يزداد حبًّا له، وكلما تقدم في حبّ الله، استولت عليه خشيته تعالى، فنفَّرَتْه من السيئات والموبقات، وأدّت به إلى العفّة والطهارة. ولتحقيق هذَين الأمرَين فَرَضَ الإسلامُ الصلاةَ التي هي مظهرٌ لخوف الله، وفرض الحجَّ الذي هو مظهرٌ لحبّ الله تعالى. وتتجلّى مظاهرُ الخوف كلّها في أركان الصلاة التي هي غاية في الخضوع والتذلّل والاعتراف بالعبودية. أما أعمال الحج فتكتنف جميع جوانب الحب.” (الملفوظات ج 3 ص 300)

الإحرام: الخليفة الثاني للإمام المهدي عليه السلام يقول: “الإحرام يرمز إلى أمر هام، وذلك أن يتراءى للإنسان مشهد يوم الحشر. فكَفْنُ الإنسان قطعتان من القماش، واحدة لأعلى الجسم وأخرى لأسفله، ويكون الرأس حاسرًا؛ ونفس المشهد يكون في عرفات، حيث يتراءى للإنسان مشهد كالحشر. يجتمع هناك الناس بالآلاف على هذه الهيئة، ويخيل إلى الإنسان أنه أمام الله، وأن الناس قد خرجوا من قبورهم في أكفانهم ليمثلوا أمام الله تعالى.” (التفسير الكبير ج 2 ص 448)

وهذا ما أشار إليه الله تعالى في قوله بعد ذكر أحكام الحج: ..وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(البقرة: 204). فينبغي أن تجول في خاطر الحاج مواقف سيتعرض لها بعد وفاته، حتى يعد لها عُدَّته ويأخذ الزاد قبل لقاء الله تعالى.

الطواف: مِن حِكمه أن يجعل كل من الطائفين ذاتَ الله تعالى محورَ حياته وجميع أعماله؛ أو بعبارة أخرى، ينبغي أن يكون الهدف من كل خطوة يخطوها وصالَ الله تعالى. يقول سيدنا الإمام المهدي عليه السلام:

“…كما أن العاشق يهوم حول معشوقه كذلك جَعَلَ اللهُ في الحج الطوافَ. وثمة نكتة لطيفة: كما أن هناك بيت الله، كذلك ثمة من هو فوقه، فما لم تطوفوا حوله 61525; لا يجديكم هذا الطواف الظاهري ولا تثابون عليه. ينبغي أن تكون حال الطائفين حوله 61525; مشابهة للتي تكون في الطواف الظاهري الذي يقتصرون فيه على لباس يسير. فعلى الطائفين حوله أن يخلعوا ثياب حب الدنيا ويلبسوا كساء التواضع والخضوع، ثم يطوفوا كالعاشقين. الطواف أمارة من أمارات العشق الإلهي، ويهدف إلى أن يطوف الإنسان حول مرضاة الله تعالى.” (الملفوظات ج 9 ص 123 – 124)

يقول سيدنا الخليفة الثاني للإمام المهدي رضي الله عنه وهو يبين حكمة كون الطواف والسعي كلاهما سبع مرات: “… وفي ذلك إشارة إلى تكميل المدارج الروحانية السبعة التي يجب أن يسعى الإنسان لنيلها. وقد جاء تفصيل هذه الدرجات الروحانية في سورة (المؤمنون).” (التفسير الكبير ج 2 ص 449)

الرمل والاضطباع: بعد أن يضطبع الطائف رداءه يرمل ويهرول في الأشواط الثلاثة الأولى من طوافه، ثم يمشي الهوينا في الأربعة الأخرى. ولقد قام به رسول الله (ص) وأمر أصحابه بذلك لإظهار القوة والجلد أمام كفار قريش. وطبعًا الحكمة فيه أبعد من ذلك وهي أن يتحلى المسلم بالقوة ضد أعدائه الذين يحولون دون وصوله إلى الله عز وجل، أو يعترضون سبيله. فلا يجوز له أن يضعف أمام أعدائه بحال وليكن دائما قويا.

تقبيل الحجر الأسود: لا شك في أن الحجر الأسود هو من جنس الأحجار التي لا تضر ولا تنفع، ولكن يكفي هذا الحجر شرفًا أن سيد المرسلين (ص) قد قبَّله. وثمة أثر بهذا الخصوص ورد عن سيدنا عمر كرم الله وجهه، أنه قال مشيرًا إلى الحجر الأسود: “إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله قبّلك، ما قبّلتُك.” (صحيح مسلم، كتاب الحج)

يكشف هذا التصريحُ الحكمةَ في تقبيل الحجر الأسود، وهي أن السِرّ في كل العبادات هو إذن الله وأمره بفعلها. فإن كانت ثمة عبادة تخلو من أمر الله تعالى وإذنه فلا ينتفع بها فاعلها. فالعبرة كل العبرة بالانقياد لأمر الله. وإلا فمن المعلوم أن الحجر الأسود من جنس الأحجار التي لا تنفع ولا تضر، ولكن لما تعلّق بهذا الحجر إذنٌ إلهي بتقبيله أصبح المؤمن ينظر إليه نظرة الإجلال والاحترام، لأنه يتوصل بتقبيله إلى ما يصبو إليه من حب مولاه ورضاه .

السعي بين الصفا والمروة: بعد أن يفرغ الحاج من الطواف يبدأ بالسعي بين الصفا والمروة. والحكمة في السعي هي إظهار العبد كاملَ خضوعه واستسلامه لمولاه بحيث لو كلّفه بما هو أشق من السعي لقام به بدون تردد أو تساؤل، لأن ذلك سوف يضمن له عون الله ونصرته فورًا كما حصل مع هاجر إذ إنها ما إن انتهت من جريِها بين الصفا والمروة بحثًا عن الماء لولدها حتى وجدت الماء ينفجر من تحت قدميه.

رمي الجمرات: يقول الخليفة الثاني للإمام المهدي عليه السلام: “الغرض الحقيقي منها هو البراءة من الشيطان. وهناك حكمة في أسماء هذه الجمرات: الدنيا، والوسطى، والعقبة، وهذه الحكمة هي: أن يعِد الإنسان أنه لن يسمح للشيطان أن يقترب منها في الدنيا، وأنه سوف يدخل عالم البرزخ ثم العقبى خاليًا من أي تأثير للشيطان على روحه.” (التفسير الكبير ج 2 ص 449)

ذبح الهدي: من المعلوم أن الله تعالى ليس بحاجة إلى لحوم الأضاحي ولا دمائها. وإنما يريد الله تعالى من ذبح العبد للأضحية أن تنشأ في قلب العبد المؤمن روحُ التضحية في سبيل الله. كما أن القيام بذبح الهدي إنما هو عبارة عن استعداد الحاج لتقديم كل تضحية يطلبها الله منه. وهذه الحالة إنما هي نتاج تقوى الله. فقد نوّه الله تعالى إلى ذلك بقوله:
61533;لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ(الحج: 38).

والخليفة الثاني للإمام المهدي رضي الله عنه يقول: “… ثم بتقديم الذبائح وجَّه الأنظار إلى أن على الإنسان أن يكون دائمًا مستعدًا للتضحية بنفسه في سبيل الله، فكلما يناديه ربه يذعن له على الفور ويحني رأسه في سبيل الله، ولا يتردد في أن يقدم رأسه في هذا السبيل.” (التفسير الكبير ج 2 ص 449)

ولقد بيّن سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام فلسفة الأضحية أيما بيان حيث قال في خطبته الإلهامية الشهيرة التي ألقاها مرتجلاً ومؤيَّدًا بإلهام من الله تعالى:
“يَا عِبَادَ اللهِ.. فَكِّرُوا فيِ يَوْمِكُمْ هَذَا يَوْمِ الأَضْحَى، فَإِنَّهُ أُودِعَ أَسْرَارًا لأُولِي النُّهَى. وَتَعْلَمُونَ أَنَّ فيِ هَذَا الْيَوْمِ يُضَحَّى بِكَثِيرٍ مِنَ الْعَجْمَاوَاتِ، وَتُنْحَرُ آبَالٌ مِنَ الْجِمَالِ وَخَنَاطِيلُ مِنَ الْبَقَرَاتِ، وَتُذْبَحُ أَقَاطِيعُ ( آبال وخناطيل وأقاطيع كلُّها تعني القُطعان والجماعات) مِنَ الْغَنَمِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ رَبِّ الْكَائِنَاتِ. وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ مِنْ ابْتِدَاءِ زَمَانِ الإِسْلامِ، إلى هذه الأَيَّامِ. وَظَنِّي أَنَّ الأَضَاحِي فيِ شَرِيعَتِنَا الْغَرَّاءِ، قَدْ خَرَجَتْ مِنْ حَدِّ الإِحْصِاءِ، وَفَاقَتْ ضَحَايَا الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ مِنْ أُمَمِ الأَنْبِيَاءِ، وَبَلَغَتْ كَثْرَةُ الذَّبَائِحِ إِلَى حَدٍّ غُطِّيَ بِهِ وَجْهُ الأَرْضِ مِنَ الدِّمَاءِ. حَتَّى لَوْ جُمِعَتْ دِمَاؤُهَا وَأُرِيدَ إِجْرَاؤُها لَجَرَتْ مِنْهَا الأَنْهَارُ، وَسَالَتِ الْبِحَارُ، وَفَاضَتِ الْغُدْرُ وَالأَوْدِيَةُ الْكِبَارُ.
وَقَدْ عُدَّ هَذَا الْعَمَلُ في مِلَّتِنَا مِمَّا يُقَرِّبُ إِلَى اللهِ سُبْحَانَه، وَحُسِبَ كَمَطِيئَةٍ تُحَاكِي الْبَرْقَ في السَّيْرِ وَلُمَعَانَه. فَلأَجْلِ ذَلِكَ سُمِّيَ الضَّحَايَا قُرْبَانًا، بِمَا وَرَدَ أَنَّهَا تَزِيدُ قُرْبًا وَلُقْيَانًا كُلَّ مَنْ قَرَّبَ إِخْلاَصًا وَتَعَبُّدًا وَإِيمَانًا. وَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ نُسُكِ الشَّرِيعَةِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ بِالنَّسِيكَةِ. وَالنُّسُكُ الطَّاعَةُ وَالْعِبَادَةُ في اللِّسَانِ الْعَرَبِيَّةِ، وَكَذَلِكَ جَاءَ لَفْظُ النُّسُكِ بِمَعْنَى ذَبْحِ الذَّبِيحَةِ، فَهَذَا الاِشْتِرَاكُ يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنَّ الْعَابِدَ فيِ الْحَقِيقَةِ، هُوَ الَّذِي ذَبَحَ نَفْسَهُ وَقُوَاهُ، وَكُلَّ مَنْ أَصْبَاهُ، لِرِضَى رَبِّ الْخَلِيقَةِ، وَذَبَّ الْهَوَى، حَتَّى تَهَافَتَ وَانْمَحَى، وَذَابَ وَغَابَ وَاخْتَفَى، وَهَبَّتْ عَلَيْهِ عَوَاصِفُ الْفَنَاءِ، وَسَفَتْ ذَرَّاتِهِ شَدَائِدُ هَذِهِ الْهَوْجَاءِ.
وَمَنْ فَكَّرَ في هَذَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ الْمُشْتَرَكَيْنِ، وَتَدَبَّرَ الْمَقَامَ بِتَيَقُّظِ الْقَلْبِ وَفَتْحِ الْعَيْنَيْنِ، فلا يَبْقَى لَهُ خَفَاءٌ وَلاَ مِرَاءٌ، في أَنَّ هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ الْمُنْجِيَةَ مِنَ الْخَسَارَةِ، هِيَ ذَبْحُ النَّفْسِ الأَمَّارَةِ، وَنَحْرُهَا بِمُدَى الانْقِطَاعِ إِلَى اللهِ ذِي الآلاَءِ وَالأَمْرِ وَالإِمَارَةِ، مَعَ تَحَمُّلِ أَنْوَاعِ الْمرَارَةِ، لِتَنْجُوَ النَّفْسُ مِنْ مَوْتِ الْغَرَارَةِ. وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الإِسْلاَمِ، وَحَقِيقَةُ الاِنْقِيَادِ التَّامِّ. وَالْمُسْلِمُ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَهُ نَحَرَ نَاقَةَ نَفْسِهِ وَتَلَّهَا لِلْجَبِينِ، وَمَا نَسِيَ الْحَيْنَ فيِ حِينٍ.
فَحَاصِلُ الْكَلاَمِ.. أَنَّ النُّسُكَ وَالضَّحَايَا في الإِسْلاَمِ، هِيَ تَذْكِرَةٌ لِهَذَا الْمَرَامِ، وَحَثٌّ عَلَى تَحْصِيلِ هَذَا الْمَقَامِ، وَإِرْهَاصٌ لِحَقِيقَةٍ تَحْصُلُ بَعْدَ السُّلُوكِ التَّامِّ. فَوَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَّمُوْمِنَةٍ كان يَبْتَغِي رِضَاءَ اللهِ الْوَدُودِ، أَنْ يَّفْهَمَ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ وَيَجْعَلَهَا عَيْنَ الْمَقْصُودِ، وَيُدْخِلَهَا في نَفْسِهِ حَتَّى تَسْرِيَ في كُلِّ ذَرَّةِ الْوُجُودِ، وَلاَ يَهْدَأْ وَلاَ يَسْكُنْ قَبْلَ أَدَاءِ هَذِهِ الضَّحِيَّةِ لِلرَّبِّ الْمَعْبُودِ، وَلاَ يَقْنَعْ بِنَمُوذَجٍ وَقِشْرٍ كَالْجُهَلاَءِ وَالْعُمْيَانِ، بَلْ يُؤَدِّي حَقِيقَةَ أَضْحَاتِهِ، وَيَقْضِي بِجَمِيعِ حَصَاتِهِ وَرُوحِ تُقَاتِهِ، رُوحَ الْقُرْبَانِ. هَذَا هُوَ مُنْتَهَى سُلُوكِ السَّالِكِينَ، وَغَايَةُ مَقْصَدِ الْعَارِفِينَ، وَعَلَيْهِ يَخْتَتِمُ جَمِيعُ مَدَارِجِ الأَتْقِيَاءِ، وَبِهِ يَكْمُلُ سَائِرُ مَرَاحِلِ الصِّدِّيقِينَ وَالأَصْفِيَاءِ، وَإِلَيْهِ يَنْتَهِي سَيْرُ الأَوْلِيَاءِ.” (الخطبة الإلهامية، الخزائن الروحانية ج 16، ص 31-38)

ثم يقول حضرته :
“فَلاَ تَغْفَلُوا عَنْ هَذَا الْمَقَامِ يَا كَافَّةَ الْبَرَايَا، وَلاَ عَنِ السِّرِّ الَّذِي يُوجَدُ في الضَّحَايَا، وَاجْعَلُوا الضَّحَايَا، لِرُؤْيَةِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ كَالْمَرَايَا، وَلاَ تَذْهَلُوا عَنْ هَذِهِ الْوَصَايَا، وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا رَبَّهُمْ وَالْمَنَايَا.
وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى هَذَا السِّرِّ الْمَكْتُومِ، فيِ كَلاَمِ رَبِّنَا الْقَيُّومِ، فَقَالَ وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ:
61533;قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 61531; (الأنعام:163). فَانْظُرْ كَيْفَ فَسَّرَ النُّسُكَ بِلَفْظِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى حَقِيقَةِ الأَضْحَاةِ، فَفَكِّرُوا فِيهِ يَا ذَوِي الْحَصَاةِ. وَمَنْ ضَحَّى مَعَ عِلْمِ حَقِيقَةِ ضَحِيَّتِهِ، وَصِدْقِ طَوِيَّتِهِ، وَخُلُوصِ نِيَّتِهِ، فَقَدْ ضَحَّى بِنَفْسِهِ وَمُهْجَتِهِ، وَأَبْنَائِهِ وَحَفَدَتِهِ، وَلَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ، كَأَجْرِ إِبْرَاهِيمَ عِنْدَ رَبِّهِ الْكَرِيمِ. وَإِلَيْهِ أَشَارَ سَيِّدُنَا الْمُصْطَفَى، وَرَسُولُنَا الْمُجْتَبَى، وَإِمَامُ الْمُتَّقِينَ، وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَقَالَ وَهُوَ بَعْدَ اللهِ أَصْدَقُ الصَّادِقِينَ: إِنَّ الضَّحَايَا هِيَ الْمَطَايَا، تُوصِلُ إِلَى رَبِّ الْبَرَايَا، وَتَمْحُو الْخَطَايَا، وَتدْفَعُ الْبَلاَيَا. هَذَا مَا بَلَغَنَا مِنْ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ، عليه صَلَواتُ اللهِ والبَرَكاتُ السَّنِيةُ، وَإنَّهُ أَوْمَأَ فِيهِ إِلَى حِكَمِ الضَّحِيَّةِ، بِكَلِمَاتٍ كَالدُّرَرِ الْبَهِيَّةِ.
فَالأَسَفُ كُلّ الأَسَفِ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ هَذِهِ النِّكَاتِ الْخَفِيَّةَ، وَلاَ يَتَّبِعُونَ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مَعْنَى الْعِيدِ، مِنْ دُونِ الْغُسْلِ وَلَبْسِ الْجَدِيدِ، وَالْخَضْمِ وَالْقَضْم (الْخَضْم وَالْقَضْم بمعنى أكل اللحم بشهية بالغة) مَعَ الأَهْلِ وَالْخَدَمِ وَالْعَبِيدِ، ثُمَّ الْخُرُوجِ بِالزِّينَةِ لِلتَّعْيِيدِ كَالصَّنَادِيدِ. وَتَرَى الأَطَائِبَ مِنَ الأَطْعِمَةِ مُنْتَهَى طَرَبِهِمْ فيِ هَذَا الْيَوْمِ، وَالنَّفَائِسَ مِنَ الأَلْبِسَةِ غَايَةَ أَرَبِهِمْ لإِرَاءَةِ الْقَوْمِ. وَلاَ يَدْرُونَ مَا الأَضْحَاةُ، وَلأَيِّ غَرَضٍ يُذْبَحُ الْغَنَمُ وَالبَقَراَتُ.” (الخطبة الإلهامية، الخزائن الروحانية ج 16 ص 42-46)

أهداف الحج عمومًا

إذا تأملنا في نصوص الكتاب والسنة الخاصة بالحج، وجمعنا معها ما نلمسه في الواقع المشاهد خلال أداء فريضة الحج، تجلّت لنا أهداف كثيرة، نذكر بعضها فيما يلي:

الحج فيه تأسي بأبينا إبراهيم عليه السلام

لقد أمرنا الله تعالى بأن نتأسى بسيدنا إبراهيم عليه السلام والذين معه، وأن نجعلهم قدوة حسنةً لنا. فيقول تعالى:

61533;قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ.. إلى قوله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ 61531; (الممتحنة: 5 إلى 7)

فإن الحاج – امتثالا لأمر الله – يقوم بأعمال كثيرة في أثناء حجه، متأسيا في ذلك بأسوة سيدنا إبراهيم عليه السلام والذين معه، منها: رميُ الجمرات، والسعي بين الصفا والمروة الذي يذكّرنا بحادث السيدة هاجر، ومنها ذبح الهدي، وصلاة ركعتين خلف مقام إبراهيم عليه السلام لقوله تعالى (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)، وما إلى ذلك من أعمال أخرى كثيرة.

وبالمناسبة، فهناك معنى آخر ذكره إمامنا الحالي أمير المؤمنين – نصره الله – في تفسير قوله تعالى “واتخِذوا من مَقام إبراهيم مصلّى”، حيث قال ما معناه: لم يقل الله تعالى هنا “مُقام” التي هي مِن أقام يقيم، وتعني حصرًا مكان القيام، بل قال “مَقام” التي هي مِن قام يقوم، وتعني مكان القيام، كما تعني المرتبة والمنـزلة والدرجة أيضًا. وعليه فالمراد من قوله تعالى: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى): عليكم بالسعي دائمًا لأن تؤدوا الصلاة من خلال ذلك المقام الروحاني الرفيع الذي كان إبراهيم يقف عليه أثناء صلاته.. بمعنى يجب أن تحاولوا دومًا أن تكون صلواتكم مليئة برحيق الخشوع والابتهال والإخلاص والتفاني في الله تعالى مثلما كان إبراهيم يؤديها، عسى أن تنالوا درجة ومقامًا عند الله كما حظي به إبراهيم 61557;. ولاشك أن الوصول إلى ذلك المقام في الصلاة يتطلب من الإنسان التحلي بتلك الأخلاق والصفات التي قد ارتقت بإبراهيم عليه السلام إلى تلك الدرجات العلى. الأمر الذي لا يحده حدود الزمان والمكان.

والدليل على ذلك هو (أولاً) إن الأمر الرباني باتخاذ مقام إبراهيم مصلىًّ عام يشمل جميع المسلمين ولا يخصّ الحجاج وحدهم. و(ثانيًا) أن “مقام إبراهيم” الموجود في الحرم الشريف مكان ضيق لدرجة لا يمكن للحجاج أن يصلّوا كلهم، ولاسيما في عصرنا هذا، عند هذا المقام أيام الحج. فكيف يمكن أن يأمرنا الله تعالى بالقيام بشيء يجد حتى الحجاج – الذين معظمهم وصلوا إلى بيت الله بعد انتظار طويل، وجهد جهيد، ومن أماكن نائية، ولأول مرة ولربما الأخيرة – في القيام به صعوبة وأية صعوبة. بينما يقول الله تعالى: ما جعل لكم في الدين من حرج.

وعليه فإن آية (واتخِذوا من مقام إبراهيم مصلّى) خاصة من ناحية، وعامة من ناحية أخرى على النحو الذي بيّنّاه.

إعلان عملي لمبدأ المساواة بين الناس

تتجلى المساواة بأسمى صورها في الحج حين يقف الناس موقفًا واحدًا بعرفات، بحيث لا تفاضلَ بينهم لقوله تعالى (سواءً العاكِفُ فيه والباد)(الحج: 25)، وإنما التفاضل بالتقوى فقط. ولقد قال الله تعالى مؤكِّدًا هذا المنهج السامي في الإسلام {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 14). وقد ركز النبي (ص) على أهمية ذلك في خطبة حجة الوداع قائلا: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ. أَلا لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلا لأحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلا بِالتَّقْوَى. أَبَلَّغْتُ؟ قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ (ص).” (مسند أحمد بن حنبل باقي مسند الأنصار)

جمع الناس على مبدأ التوحيد

في الحج تتجلى صورة التوحيد لدى المسلمين حيث يتوافدون على الديار المقدسة من كل حدب وصوب، ويجتمعون في مكان واحد، وينادون ربًّا واحدا، ملبّين لندائه ومذعنين لأمره ومردّدين كلمة التوحيد ومعتَصمين بالحبل المتين.

توثيق لمبدأ التعارف والتعاون

يتجلى في الحج تحقيق مبدأ (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) حيث يحصل التعارف ويقوى، وتنشأ الصلات وتتوثق، ويتم التشاور، ويجري تبادل الآراء والتجارب والخبرات. وهكذا يتجلى عمليا قوله تعالى (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) (الحج: 29).

وثمة أهداف أخرى كثيرة لكننا نكتفي بما ذكرنا، داعين الله تعالى لكل من قام بأداء فريضة الحج، حجا مبرورًا وسعيا مشكورا. كما ندعو الله أن يفرج عنا، ويزيل جميع العقبات، فيوفقنا لزيارة الديار المقدسة. آمين.

اللهم، قد استبد بنا الحنين إلى بيتك المحرم، وقد بلغ بنا الشوق لرؤية الأماكن المقدسة ذروتَه.. اللهم اسقنا من زلال رحمتك ونصرتك، وأيدّنا بتأييدات سماوية. ربنا اشْفِ غليلَنا وهيّئْ لنا من أمرنا رشدا، لتكتحل عيونُنا برؤية بيتك المحرم، ولتمتلئ قلوبنا بأنوارك المنتشرة وبركاتك الغزيرة وأفضالك العميمة.. ربنا تقبَّلْ منا إنك أنت السميع العليم. اللهم آمين.