إن موضوع الخلافة في الإسلام واسع وهام، وسوف أتناول في هذا المقال أحد جوانبه المتعددة، وهو: كيف يختار الله تعالى الخليفة. غير أنه يجدر قبل معالجة الموضوع أن أذكر أن هناك نوعين من الخلافة: الخلافة الربانية والخلافة البشرية، ولعله من الأفضل أن نشرح كلا من هذين النوعين بشيء من التفصيل.

الخلافة الربانـية

الخلافة الربانية هي ذلك النوع من الخلافة الذي يختار الله فيه الخليفة. وينقسم هذا الاختيار بدوره إلى قسمين، فهو إما أن يكون اختيارا مباشرا أو غير مباشر:

أ- الخلافة الربانية بطريق مباشر هي تلك الخلافة التي يختار الله تعالى فيها الخليفة بغير أن يشترك أحد من الناس في عملية الاختيار. ويذكر لنا القرآن الكريم مثالين من هذه الخلافة. المثال الأول هو مثال آدم ؏ حيث يقول تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة:31)

والمثال الثاني هو مثال داود ؏ حيث يذكر ﷻ في كتابه العزيز:

﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً في الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ (ص:27)

وبما أن الله تعالى يختار الخليفة مباشرة فإنه يُنسَب إليه ﷻ، فيقال إنه خليفة الله. وعلى ذلك فإن كل نبي وكل رسول هو في واقع الأمر خليفة الله، أي أن النبوة هي في حقيقتها خلافة ربانية مباشرة، يختار الله فيها الخليفة (أي النبي) بطريق مباشر، دون أن يشترك أحد من الناس في عملية الاختيار هذه. ومن المعروف أن الرسول ﷺ ذكر عن الإمام المهدي أنه: “خليفة الله المهدي“.

ب – القسم الثاني من الخلافة الربانية هي تلك التي يختار الله تعالى فيها الخليفة بطريق غير مباشر. ويُطلق على هذه الخلافة في الإسلام اسم “الخلافة الراشدة”، وهي الخلافة التي تلي بعثة النبي أو الرسول، ولذلك فهي تُنسب إلى ذلك النبي أو الرسول، فيقال عن الخليفة إنه “خليفة النبي” أو “خليفة الرسول” أو “خليفة المسيح”.

وقد وَصف سيدنا رسول الله ﷺ هذه الخلافة بأنها “خلافة على منهاج النبوة“. كذلك قال ﷺ إنه لم تكن من نبوة إلا تبعتها خلافة. ونحن نعلم من حديث آخر له ﷺ أن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وأنه ﷺ ليس بعده نبي. ومن هذين الحديثين يتضح لنا أن كلمة “خليفة” لفظ يمكن أن يُطلق على النبي وعلى غير النبي على السواء. فالنبي يخلفه خليفة قد يكون نبيا.. أي خليفة يختاره الله بطريق مباشر، كما خلف سليمان داود عليهما السلام. وقد يخلف النبي خليفة لا يكون نبيا.. أي خليفة يختاره الله أيضا ولكن بطريق غير مباشر. وبهذا المعنى.. فإنه ﷺ لن يخلفه خليفة يكون نبيا، وإنما تخلفه خلافة على منهاج النبوة.

ويذكر الله تعالى في الآية الثامنة من سورة الأحزاب، أسماء أولئك الأنبياء الذين قال عنهم حصرًا إنه أخذ منهم ميثاق النبيين، إذ يقول تعالى:

﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخْذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ (الأحزاب:8)

ومن الملاحظ أن هؤلاء الأنبياء هم من جاءوا على رأس أمة من الأمم وفي نهايتها، فنوح ؏ كان على رأس أمته، وكان في نهايتها إبراهيم ؏ كما يقول تعالى عنه: ﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيم﴾ (الصافات:84)

وبالمثل كان موسى ؏ على رأس أمة بني إسرائيل وكان عيسى ابن مريم  ؏ في آخرها، وأيضا كان سيدنا رسول الله ﷺ على رأس الأمة الإسلامية آخر الأمم، بينما كان المسيح الموعود  ؏في نهايتها، كما يقول ﷺ: “كيف تهلِكُ أُمّةٌ أنا في أولها والمسيح ابن مريم في آخرها” (كنـز العمال، الدر المنثور)

وقد تأسست الخلافة بعد جميع هؤلاء الأنبياء الذين جاءوا على رأس كل أمة وفي نهايتها، سواء كانت هذه الخلافة خلافة نبوة أو خلافة على منهاج النبوة.

الخلافة البشرية

الخلافة البشرية هي نظام من نظم الحكم السياسية، كالنظم الملكية أو الجمهورية وغيرها، وقد تأسست هذه الخلافة في التاريخ الإسلامي على يد بعض الأسر الإسلامية التي تولت الحكم بعد انتهاء الخلافة الراشدة، أي بعد انتهاء الخلافة على منهاج النبوة، وذلك بعد أن تم اغتيال الخليفة الثالث والرابع رضي الله تعالى عنهما.

وبطبيعة الحال فإن هذه الخلافة ليست خلافة ربانية، فالله تعالى لا يختار الخليفة في هذا النظام السياسي.. لا بطريق مباشر.. ولا بطريق غير مباشر. وإنما يترك نظام الحكم للناس، ويتم تعيين الخليفة، أي الحاكم، حسبما يقرره الناس أو حسبما يُفرض عليهم، سواء كان ذلك ديمقراطيا، أو وراثيا، أو دكتاتوريا أو باغتصاب السلطة عن طريق الانقلابات العسكرية.

ولا يعالج المقال هذا النوع من الخلافة البشرية، فهي لا تشترك مع الخلافة الربانية إلا في الاسم فقط.. أي في لفظ “الخلافة” فحسب. وعلى هذا فإننا لا نتحدث هنا عن كل نظام يُطلق فيه على رئيس الدولة لقب خليفة، سواء كانت هذه الخلافة خلافة أموية أو عباسية أو فاطمية أو عثمانية أو أية خلافة أخرى.

كذلك فإننا لن نعالج موضوع الخلافة الربانية التي يختار الله فيها الخليفة بطريق مباشر.. أي الأنبياء والرسل، وإنما سوف نتناول فقط نظام الخلافة الربانية التي هي خلافة على منهاج النبوة، والتي يختار الله تعالى فيها الخليفة بطريق غير مباشر.

أهمية الموضوع

هذا أمر على جانب كبير من الأهمية، ومن الضروري لنا أن نفهم كيف يختار الله الخليفة. وهذا الموضوع مهم بالنسبة لنا نحن المسلمين الأحمديين، لأن الخلافة على منهاج النبوة قد أُعيد تأسيسها في هذه الجماعة المباركة بعد أن بعث الله تعالى عبده المسيح الموعود والإمام المهدي ؏. وحيث إننا نعاهد الخليفة بما هو معروف بعهد البيعة، فمن المحتم لنا أن نفهم مقام الخلافة فهما صحيحا.

كذلك فإنه من الضروري أيضا للمسلمين عامة أن يفهموا كيف يختار الله تعالى الخليفة في نظام الخلافة على منهاج النبوة، وهو نظام الخلافة الذي ذكر عنه رسول الله ﷺ أنه سوف يُعاد تأسيسه بعد أن تتحول الخلافة بعده ﷺ من خلافة على منهاج النبوة إلى حكم متوارث وحكم جبري وحكم عاضّ، حيث قال: “… ثم تكون خلافة على منهاج النبوة.

ومما يؤسف له أن الكثيرين ممن دخلوا الإسلام في عهد الخلافة بعد وفاة رسول الله ﷺ لم يدركوا أن الله تعالى هو الذي يختار الخليفة، وبسبب جهلهم هذا ثاروا على الخليفة الثالث سيدنا عثمان بن عفان ؓ، وكما نعلم فإن الخليفة الثالث والرابع قُتلا بأيدي المسلمين. ومن أجل ذلك رفع الله عنهم نعمة الخلافة على منهاج النبوة.. وانتهت هذه الخلافة الراشدة. ولو أنهم فهموا حقيقة مقام الخلافة وأدركوا أن الله تعالى هو الذي يختار الخليفة، لما أخذتهم الجرأة إلى هذا الحد الذي وضع نهاية مأساوية لحياة الخليفة الثالث والرابع، وأصاب وحدة المسلمين بشرخ ظل يزداد عمقا واتساعا إلى يومنا هذا.

أسئلة تحتاج إلى أجوبة

وحيث إن الله تعالى يختار الخليفة بطريق غير مباشر.. على أيدي الناس الذين يبدو أنهم ينتخبونه.. فلا بد أن تنشأ العديد من الأسئلة في أذهان بعض الناس:

أولا: كيف يُقال إن الله تعالى هو الذي يختار الخليفة مع أن ظاهر الأمر أن الناس هم الذين ينتخبونه؟

ثانيـا: إذا كان الله تعالى هو الذي يختار الخليفة فعلا، فلماذا لا يختاره مباشرة كما يختار الأنبياء والرسل؟

ثالثـا: من هو ذلك الذي يختاره الله ليكون خليفة وما هي الصفات التي تتوفر فيه؟

رابعـا: لماذا لا يشترك جميع أفراد الجماعة في عملية الانتخاب؟

خامسـا: من هم أولئك الذين ينتخبون الخليفة؟

سادسـا: هل الخليفة معصوم من الخطأ؟ وأي نوع من الأخطاء يمكن أن تصدر عن الخليفة؟

كل هذه الأسئلة هامة وتحتاج إلى إجابة شافية، ولسوف نتناول كلا من هذه الأسئلة على حدة ونقدم الإجابة عليه.

السؤال الأول

كيف يمكن أن يكون الله تعالى هو الذي يختار الخليفة مع أن ظاهر الأمر يقول إن الناس هم الذين يختارونه؟

طريقان للمعالجة

هناك طريقان للإجابة على هذا السؤال.. الأول هو بيان أن بعض الأعمال يقوم بها الإنسان، ولكن نتائج هذه الأعمال تكون من فعل الله تعالى. والطريق الثاني هو بيان أن هناك أعمالا يقوم بها الله تعالى ولكنها تتجلى وتظهر على أيدي الإنسان. وبالطبع فلا بد أن نبرهن على أنه في حالة اختيار الخليفة فإن الله تعالى هو الذي يقوم بالاختيار، وأن الإنسان الذي يدلي بصوته إنما يفعل ذلك تنـفيذا لإرادة الله تعالى.

الأدلة من القرآن المجيد

الدليل الأول:

يتناول القرآن المجيد الطريق الأول بالشرح والتبيان، فيؤكد على أن هناك أعمالا يقوم بها الإنسان، ولكن نتائجها تكون من فعل الله تعالى، فيقول تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾ (الواقعة:64-65)

ويقول الفلاحون فيما بينهم إنهم سوف يزرعون كذا وكذا هذا العام، أو إن المحصول الذي زرعه هذا العام كان محصولا جيدا، وهكذا. فالفلاح يحرث الأرض، ويزرع البذر، ويروي الزرع، ويتعهده بالعناية والرعاية، ويحصد المحصول، ولكن الله تعالى يقول إنكم لا تزرعون، وإنما نحن الزارعون.. أي أن الله تعالى ينسب إلى نفسه العمل الذي قام به الفلاح وهو الزراعة. لماذا؟ لأن من المحتم على الفلاح أن يتبع النظام الذي وضعه الله تعالى للزرع كي ينمو ويحقق ثماره، وإلا فلن ينمو الزرع، وعلى هذا فإن الزارع الحقيقي هو الله تعالى، لأنه هو ﷻ الذي وضع نظام الزراعة الذي لا بد من اتباعه لكي يجني الإنسان المحصول. وحين يتبع الإنسان النظام الإلهي فإنه يحقق النتيجة التي يريدها الله تعالى.

من المستحيل لأحد أن يزرع أشجار المانجو في كندا مثلا خلال فصل الشتاء حيث تنخفض درجة الحرارة في بعض المناطق إلى أقل من أربعين درجة مئوية تحت الصفر. إن لم يستطع الإنسان أن يبني مكانا يوفر فيه نفس الظروف الجوية، ونفس درجات الحرارة، ونفس درجات الرطوبة، ونفس كمية ضوء الشمس، ونفس نوع التربة الموجودة في الأماكن التي تنمو فيها أشجار المانجو، فإنه من المستحيل أن ينجح الإنسان في زراعة أشجار المانجو في كندا خلال فصل الشتاء. وعلى ذلك.. حين يتبع الإنسان نظاما وضعه الله تعالى للوصول إلى نتيجة معينة يرضى عنها الله، فإنَّ تحقّق هذه النتيجة هو من فعل الله تعالى وليس من فعل الإنسان. وبالتالي.. لكي نضمن أن يكون الخليفة من اختيار الله تعالى.. لا بد أن نتبع النظام الذي وضعه الله تعالى لاختيار الخليفة. فإذا تحققت هذه الغاية فإنها تكون من فعل الله تعالى وليست من فعل الإنسان.

وقد وضع الله تعالى نظاما معينا لا بد من اتباعه لكي يتفضل ﷻ باختيار الخليفة. وهذا النظام يقتضي حدوث عدة أمـور، أولهـا وأهمها أن يأتي نبي مبعوثا من الله تعالى، فإن الخلافة على منهاج النبوة لا تقوم إلا على إثر بعثة نبي، ثم يتولى هذا النبي إنشاء جماعة من المؤمنين تقوم على الإيمان الصحيح والتقوى الحقيقية والعمل الصالح.

ثانيـا: ألا يقع الاختيار على أن يرشح أحد نفسه لمقام الخلافة، لأن من يرشح نفسه لمنصب الخلافة يرى نفسه أفضل من غيره لشغل هذا المنصب، والقرآن الكريم ينهى عن هذا المسلك إذ يقول: ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ (النجم:33)، وقد ورد في الحديث عن عَبْد الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لا تَسْأَلْ الإِمَارَةَ، فَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا.” (البخاري، كتاب الأحكام، باب مَن سأل الإمارة وُكِلَ إليها). فيجب ألا يتنافس أحد مع غيره للحصول على هذا المنصب، فإن من يتنافس مع غيره للحصول على أصوات الناخبين ويستخدم أسلوب الدعاية لنفسه يقول في واقع الأمر: “انتخِبوني أنا ولا تنتخبوا شخصا آخر فأنا خير منه”، وهذه مقولة إبليس حين رفض الخضوع لآدم ؏ زاعما أنه خير منه.

ثالثـا: التضرع أمام الله تعالى أن يتولى بنفسه اختيار الخليفة، وذلك بدعائه ﷻ بعد توفّر صـدق الإيمان والإخلاص في الاستجابة له، فهـو الذي قال: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ (البقرة :187)، وقال أيضا: ﴿قُلْ مَا يَعْبَؤُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ﴾ (الفرقان:78).

فإذا اتخذ الإنسان كل الخطوات التي لا بد من اتخاذها، ووفّى بكل المتطلبات التي لا مناص منها، فإن الله تعالى يتفضل عليه ويقوم باختيار الخليفة. ولكن إن لم يتبع الإنسان النظامَ الذي وضعه الله تعالى حق الاتباع في كل خطواته، فإن الله تعالى لا يتدخل بفضله في عملية الاختيار، وإنما يترك الأمر كله تحت حكم القوانين العامة التي وضعها ﷻ لكافة الخلق وعامتهم دون الخاصة.

الدليل الثـاني:

أما الدليل الثاني الذي يقدمه لنا القرآن المجيد في هذا الشأن، فيؤكد على أن هناك أعمالا يقوم بها الله تعالى، ولكنها تتجلى على أيدي الإنسان. فهي تبدو كأنها من فعل الإنسان، ولكن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى. يقول ﷻ في كتابه العزيز: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ﴾ (التوبة:14)

هذه الآية الكريمة نزلت للمسلمين الأوائل الذين كانوا يقاتلون المشركين المعتدين، فقد تفاقمت اعتداءاتهم على المسلمين واستثارت غضب الله واستدعت نزول العذاب عليهم. وكانت هذه دائما سُنّة الله تعالى؛ فكلما ازداد غيّ المعارضين والمنكرين لأنبيائه ورسله.. حلّ بهم العذاب، وأخذهم غضب من الله. فحين زاد غيّ مشركي مكة، وتجاوز عدوانهم كل الحدود، كان لا بد من نزول العقاب الإلهي عليهم. وفي الآية المذكورة يطمئن الله عباده المؤمنين بأن عقابه على وشك النـزول على أعدائهم ومعارضيهم، ولكن بدلاً من إنزال العقاب عليهم مباشرة كما كان الأمر مع أعداء الأنبياء السابقين مثل قوم نوح ولوط وموسى عليهم السلام، فإن الله تعالى سوف يُنـزل عقابه على مشركي مكة بأيدي المؤمنين. فلا بد للمؤمنين أن يقاتلوا المشركين المعتدين حتى يعذبهم الله بأيدي المؤمنين. إذن فالفعل هو فعل الله تعالى، ولكن هذا الفعل الإلهي سوف يتجلى على أيدي المؤمنين.

وهذا يوضح بجلاء أن هناك أعمالا من تصرُّف الله تعالى ولكنه يُظهرها على أيدي المؤمنين الذين يطيعونه ويقومون بتنفيذ أوامره. فلو لم يقم المؤمنون بطاعة الله تعالى، ولو أنهم امتنعوا عن محاربة المشركين، فما كان الله ليظهر فعله على أيديهم، وإنما يتجلى فعله الإلهي على أيدي أحبائه المخلصين الذين يتبعون أوامره، ويقومون بتنفيذ وصاياه وتعاليمه. يقول تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ الله قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ الله رَمَى﴾ (الأنفال:18)

هنا يوجه الله تعالى حديثه للمؤمنين ويؤكد لهم أنهم ليسوا هم الذين قتلوا المشركين المعتدين، وإنما ينسب إلى نفسه. ومن المعروف طبعا أن المؤمنين هم الذين قاموا بقتال أهل مكة، ولكن الله تعالى يقول إنه هو الذي قتل هؤلاء المعتدين. فلماذا نسب الله تعالى الفعل إلى نفسه مع أنه كان يبدو أن المؤمنين هم الذين قاموا بهذا العمل؟ لأن المؤمنين حين قاموا بهذا العمل إنما قاموا به تنفيذا لأمر الله تعالى، واتبعوا كل ما أمرهم الله به لتحقيق هذا الأمر، وعلى ذلك فإن تحقق نتيجة هذا العمل يقوم به الله نفسه، ولا يكون المؤمنون سوى أداة لتنفيذ إرادة الله ﷻ.

هناك الكثير من الأدلة والبراهين في القرآن المجيد، وبدراسة تلك الدلائل يتبين بوضوح أن الإنسان حين يقوم بعمل ما.. طاعة لله تعالى.. ومتبعا أوامره وتعاليمه، فإن هذا العمل الذي يبدو أن الإنسان يقوم به.. يصبح من فعل الله تعالى في واقع الأمر ولا يكون الإنسان في هذه الحالة سوى مجرد وسيلة يتخذها الله تعالى لتجلي إرادته وتحقيق مشيئته. وهذه هي نفس الوسيلة التي يتخذها الله تعالى في اختيار الخليفة، فهو ﷻ يتخذ الإنسان وسيلة لإظهار إرادته وإقرار مشيئته.

السؤال الثاني

إذا كان الله تعالى هو الذي يختار الخليفة، فلماذا لا يختاره مباشرة كما يختار الأنبياء؟ إن الأنبياء لا ينتخبهم أحد، ولا يتخذ الله ﷻ الإنسانَ وسيلة لاختيار النبي.. فلماذا لا يتبع نفس الأسلوب في اختيار الخليفة؟

الرحمانية والرحيمية

لكي نفهم الإجابة على هذا السؤال لا بد من أن نفهم معنى صفتين من الصفات الإلهية.. هما “الرحمن” و”الرحيم”.

إن صفة “الرحمن” هي صفة رحمة عامة لجميع المخلوقات الحية، وهي الصفة التي يُظهر بها الله تعالى بركاته وإنعاماته على الإنسان دون أي اعتبار لأعماله.. أي سواء كان الإنسان مؤمنا أم كافرا، إن كان يعبد الله أم يكفر بوجوده، إذا كان مستحقا لتلقي نعمه أم غير مستحق، فإن الله تعالى ينعم على الإنسان بخالص فضله من خلال صفته “الرحمن”. فالحياة والضوء والهواء مثلا يوفرها الله تعالى للصالح والطالح، وللمؤمن والكافر، وللمطيع والعاصي. إن الإنسان لم يخلق الهواء ولم يعمل عملا يستحق به نوال هذه النعمة، ولكن الله تعالى برحمانيته أوجد الهواء حتى قبل وجود الإنسان نفسه. فهو ﷻ يتجلى على الناس أجمعين بنعمه وأفضاله العامة من خلال صفته “الرحمن”.

أما صفة “الرحيم” فهي ليست صفة عامة للجميع، وإنما تقتضي أن يقوم الإنسان بعمل ما حتى تتجلى عليه نعمة الله وفضله. وتنطوي تحت صفة “الرحيم” صفاتٍ كثيرة تشترك كلها مع صفة “الرحيم” في أن على الإنسان أن يقوم بعمل ما ليتجلى الله عليه بهذه الصفات. فالرازق مثلا صفة رحيمية، تقتضي أن يسعى الإنسان لطلب الرزق فيتجلى الله عليه بصفة الرازق. والغفور أيضا صفة رحيمية، تقتضي أن يتوقف الإنسان عن فعل المعصية ويندم عليها ويطلب المغفرة من الله تعالى، فيتجلى عليه ﷻ بصفة الغفور. غير أن الله تعالى هو مالك يوم الدين، وهو قد يغفر لمن يشاء من عباده حتى وإن لم يطلب ذلك العبد المغفرة، ولكن في هذه الحالة لا تنطوي صفة الغفور تحت صفة “الرحيم” ولكنها تنطوي تحت صفة “الرحمن”.

وهناك أمور لا يجليها الله تعالى إلا لعباده المؤمنين، وتظهر من خلال صفته “الرحيم”، وهي تقتضي بطبيعة الحال أن يكون الإنسان مؤمنا أولا، وإلا فإن تلك الصفات الإلهية لا تتجلى عليه، وإن لم يقم الإنسان المؤمن بالأعمال التي يقتضيها ظهور صفة معينة، فإن هذه الصفة لا تتجلى عليه من خلال رحيمية الله تعالى.

وعلى هذا.. فإن اختيار النبي يتم عن طريق صفة الله الرحمانية. والسؤال هنا هو: متى يختار الله تعالى نبيا؟ إنه يختار النبي عندما تكون هناك حاجة لوجوده، والحاجة تكون عندما تمتلئ الأرض ظلما وجورا، فيختار الله نبيا ليملأها قسطا وعدلا. حين ينتشر الفساد والضلال في الأرض.. لا يكون هناك مَن يستحق نوال النعمة والفضل من الله، ولكنه ﷻ بخالص فضله، ودون استحقاق من الإنسان، يتجلى بصفة “الرحمن” فيختار نبيا لهداية الناس، ولذلك فهو يختار النبي اختيارا مباشرا من خلال صفة الرحمانية.

ولكن بعد أن ينجز النبي مهمته وينشر رسالته ويجمع المؤمنين على طريق الله المستقيم، ويؤسس جماعة المؤمنين في الأرض، فإن الله تعالى يتجلى على هؤلاء المؤمنين بصفته “الرحيم” ويختار لهم الخليفة.. لمن؟ للمؤمنين الذين يؤمنون ويعملون الصالحات. هذان هما الشرطان الواجب توافرهما لكي يختار الله الخلافة الربانية، إذ يقول تعالى: ﴿وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ﴾ (النور:56).. أي أن الوعد ليس عامًا مطلقًا، بل هناك شرطان ينبغي توفرهما أولاً ليحقق الله وعده ويختار الخليفة. وإذا انتفى وجود هذين الشرطين أو حتى إذا غاب أحدهما.. فإن الوعد بأن يختار الله الخليفة لا يتحقق. هذان المتطلبان هما الإيمان والعمل الصالح. الإيمان وحده لا يكفي، والعمل الصالح بغير إيمان لا قيمة له. أما الإيمان فيعني الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله (جميع رسله) واليوم الآخر والقدر خيره وشره. ولكن.. ما هو ذلك العمل الصالح الذي تقتضيه إرادة الله تعالى حتى يتجلى على المؤمنين بصفته الرحيمية ويختار لهم الخليفة؟ إن الإجابة على هذا السؤال موجودة في نفس الآيات التي جاءت في سياقها آية الاستخلاف.

ما هو المقصود بقوله:

﴿وعمـلوا الصـالحـات؟

يقول تعالى في سورة النور:

﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُّطِعِ الله وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لاَّ تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ط إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * قُلْ أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ ط وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ * وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ط يَعْبُدُونَني لاَ يُشْرِكُونَ بي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (سورة النور: الآية 52 – 57)

لقد جاء الوعد بالاستخلاف في الآية 56 من سورة النور. وفي الآيات الأربع التي سبقتها والآية التي تلتها.. جاء ذكر الطاعة ومشتقاتها سبع مرات، كما يلي: أطعنا، يطع، طاعة، أطيعوا، أطيعوا، تطيعوه، وأطيعوا. ولم يحدث في الكتاب العزيز بأكمله أن جاءت مشتقات لفظ “الطاعة” سبع مرات في ست آيات متتالية إلا في هذا الموضع، وذلك لأن هذا الموضع يحتوي على آية الاستخلاف التي تنص على ضرورة الإيمان والعمل الصالح لكي يقيم الله ﷻ الخلافة الراشدة. وكأن الله تعالى يريد أن يؤكد على أن الأعمال الصالحة هي في تحقيق الطاعة.. الطاعة لله، والطاعة للرسول، ثم بالتالي الطاعة للخليفة الذي يختاره الله تعالى. أما طاعة الله وطاعة الرسول فهي متضمنة في صفة ﴿الذين آمنوا منكم﴾، وعلى هذا تكون الأعمال الصالحة هي طاعة الخليفة الذي يختاره الله تعالى. فبدون هذه الطاعة لن تكون هناك أعمال صالحة، وإن لم تكن هناك أعمال صالحة، فلن تكون هناك خلافة يختارها ويستخلفها الله تعالى. فعندما يُفقد أحد الشرطين الواجب توافرهما لتحقق الوعد، أو إذا فُقدا كلاهما، فلن يقيم الله الخلافة الربانية في الأرض.

لقد رأينا في المرحلة الأولى من الإسلام كيف أدى عدم طاعة الخليفة إلى حرمان المسلمين من نعمة وجود الخلافة الربانية. لقد كانوا مؤمنين.. يؤمنون بالله ويؤمنون برسوله، ولكنهم فشلوا في عمل الصالحات. لقد فشلوا في أداء الطاعة الواجبة للخليفة، وكانت النتيجة أن رفع الله تعالى عنهم نعمة الخلافة بعد مقتل الخليفة الثالث والرابع، وبذلك انتهت نعمة الخلافة على منهاج النبوة، أي الخلافة الربانية الراشدة.

إن اختيار الله ﷻ للخليفة نعمة عظمى، وهي لا تتنـزل إلا على الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فإذا لم يقم المؤمنون بواجبات هذه الطاعة.. لن يختار الله الخليفة، ولن يتجلى الله على المؤمنين بنعمة الخلافة من خلال صفته “الرحيم”، فهي نعمة خاصة.. لا يُنعم بها الله تعالى إلا على المؤمنين الذين يعملون الصالحات.

السؤال الثالث

من هو ذلك الذي يختاره الله ليكون خليفة، وما هي الصفات التي تتوفر فيه؟

إن الإجابة على هذا السؤال تأتي أيضا من القرآن المجيد حيث أمرنا الله تعالى أن ندعو بأن يهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين وأن يجعلنا للمتقين إماما. فماذا يعني قوله تعالى: ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ (الفرقان:75)

إنه يعني ببساطة: واجعل لنا من بين المتقين إماما، أو: واجعل منا للمتقين إماما. والسؤال الذي ينشأ الآن هو: هل يسمع الله ﷻ هذا الدعاء أم لا يستجيب له؟ بالطبع هو يسمع ويستجيب، ولكن بشرط أن يكون الداعون من المؤمنين وأن يكونوا من الطائعين للخلافة.

حين ينتقل الخليفة إلى جوار ربه، تصيب جماعة المؤمنين صدمة شديدة، ويأخذهم خوف عظيم. إن وفاة الوالد في العائلة يصيب أفرادها بحزن كبير، كذلك فإن وفاة الأب الروحي لجماعة المؤمنين يصيبهم بألم وحزن كبيرين، وينتاب الجميع خوف وقلق وتساؤل: هل سيستمر الله تعالى في إنزال فضله عليهم باختياره خليفة لهم؟ إن القلق يساورهم، والحزن يعصف بهم، ويسائلون أنفسهم: هل كانوا مطيعين للخليفة الذي اختاره الله لهم، والذي اختاره الآن لجواره، أم كانوا من العاصين الفاسقين؟ إنهم جميعا يتجهون إلى الله تعالى، ويدعونه بحُرقة شديدة وقلب مكلوم ونفس حزينة، ويتوبون إليه من كل معاصيهم وذنوبهم، ويرجونه أن يغفر لهم أخطاءهم وسيئاتهم، ويتوسلون إليه أن يهديهم ويوفقهم، ويدعونه قائلين: يا رب أقم لنا الشخص الذي تريد أنت أن يكون خليفة لنا.

وعلى هذا فإن إقامة الخلافة ليست من فعل الناس. إنها من فعل الله عز وعلا، وليس الناس سوى وسيلة لدى الله تعالى يُظهر ﷻ من خلالهم مشيئته. إنهم يدلون بأصواتهم فقط، تماما كما يلقي الفلاح بالحَب في التربة، ولكن الزارع الحقيقي هو الله تعالى.. تماما كما قام المسلمون الأوائل بقتال المشركين المعتدين، ولكن عذاب الله ينـزل على هؤلاء المشركين بأيدي المؤمنين.

الغرض من الدين

إن المؤمنين يدعون الله تعالى أن يوفق قادتهم الذين سوف يقومون بانتخاب الخليفة أن يدلوا بأصواتهم في حق مَن يريد الله تعالى أن يجعله خليفة لهم. وهنا ينبغي لنا أن نسأل سؤالا: ما هو الغرض من الدين؟ ليس الغرض من الدين مقصورا على أن يكون المرء فاضلا وأن يعيش حياة طيبة ويحيا في مجتمع سعيد؛ بل الغرض الأساسي من الدين هو أن يقيم الإنسان علاقة بينه وبين الله تعالى، وأن يكون هناك اتصال بين الخالق والمخلوق. وإن لم يحقق الدين هذا الغرض فلا حاجة للإنسان لمثل هذا الدين، وإنه لدين ميت لا قيمة له لو لم يُقم علاقة اتصال بين الإنسان والله تعالى. والإسلام دين حي، ومن خلال الإسلام وحده يمكن للإنسان أن يقيم هذه العلاقة بينه وبين خالقه.

ووجود هذه العلاقة يقتضي أنه حين يكون الإنسان في كرب وحزن وقلق.. حين يحيط بالإنسان خطب جلل وتلم به مصيبة خطيرة، حين يكون الإنسان في حاجة إلى هداية الله تعالى فيدعوه ويناديه راجيا أن يسمع دعاءه، فلا بد أن يسمع الله هذا الدعاء ويهب عبده الهداية التي يطلبها، فالمثل يقول: “الصديق عند الضيق”، والقرآن يقول: ﴿الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ (البقرة:258). وليس شيء أشدَّ ألمًا على المؤمنين من وفاة خليفتهم.. وفاة إمام المتقين؟ إن أكثر الناس تقوى وصلاحا قد غاب عن جماعة المؤمنين، وصارت هذه الجماعة كالجسد الذي فقدَ رأسه. فماذا يفعل المؤمنون؟ إنهم يلقون بأنفسهم على عتبات ربهم، ويتوسلون إليه: ربنا أَعِنّا وأَغِثْنا واهْدِ أولئك الذين يدلون بأصواتهم لكي يختاروا الشخص الذي تريد أنت أن تجعله خليفة لنا.

عند ذلك يتجلى الله بصفته “الرحيم” ويقيم مرة أخرى الخلافة التي وعد بها. إنه يهدي المؤمنين ويخبرهم عن الشخص الذي يريد هو أن يقيمه. وكل ما يفعله هؤلاء هو أنهم يدلون بأصواتهم لهذا الشخص الذي تقتضي المشيئة الإلهية أن تجعله خليفة في الأرض. إنهم يدلون بأصواتهم فقط، ولكن اختيار ذلك الشخص يتم من قِبَل الله تعالى.

السؤال الرابع

لماذا لا يشترك جميع أفراد الجماعة في عملية الانتخاب؟

إن انتخاب الخليفة ليس أمرا مفتوحا لجميع أفراد الجماعة، ولا يشترك فيه كل شخص وأي شخص، ولا كل من بلغ السادسة عشر أو الثامنة عشر من العمر، أو من كان يتمتع بمواطنة هذا البلد أو ذاك. لا! إن نظام انتخاب الخليفة يختلف عن نظام الانتخاب في الديمقراطيات الدنيوية.

إن جماعة المؤمنين تدعو الله تعالى أن يجعل لهم من المتقين إماما، وأن يجعل منهم للمتقين إماما. وإمام المتقين هو أشد الناس تقوى وأكثرهم صلاحا، وعلى هذا فإنّ من يُدلي بصوته لإمام المتقين هذا لا بد أن يكون هو نفسه من المتقين. إن التماسا يُرفع إلى الله تعالى لكي يختار ﷻ لجماعة المؤمنين خير الناس، فمن الواجب أن يرفع خير الناس هذا الالتماس إلى الله تعالى، تماما كما اختار موسى ؏ سبعين رجلا من بين خير الناس من قومه لكي يرفعوا إلى الله تعالى التماسا بالعفو والمغفرة. ولذلك فإن صفوة المتقين وحدهم هم الذين يستحقون شرف أن تتجلى إرادة الله على أيديهم. صفوة المتقين فقط هم الذين يتصل الله تعالى بهم ويخبرهم عمن يريد أن يجعله خليفة عليهم. إن هؤلاء الذين يشتركون في انتخاب الخليفة لا بد وأن يكونوا قد بلغوا أعلى مراتب التقوى، وهم بذلك يكونون على صلة بالله تعالى حتى إذا ما دعوه ليتجلى عليهم بمشيئته فإنه يتجلى عليهم فعلا بمشيئته، ويختار لهم إمام المتقين، ويخبرهم عن هذا الاختيار، ويجعل قلوبهم وأفكارهم تميل نحوه، وكل ما يفعله هؤلاء هو أنهم يدلـون بأصواتهم لمن اختـاره الله تعالى إماما للمتقين.

الانتخابات الديمقراطية وانتخاب الخليفة

إن عملية انتخاب الخليفة تختلف تماما عن نظم الانتخاب في الديمقراطيات الغربية التي تقوم فيها الأغلبية من الناس باختيار من يمثلهم. تعتمد هذه الانتخابات على الناس في عملية الاختيار، أما الأساس الذي يقوم عليه انتخاب الخليفة فهو التقوى، ويعتمد هذا الانتخاب على الله تعالى في عملية الاختيار. كما أن الانتخابات الديمقراطية تقوم على ترشيح الأفراد أنفسهم لكي ينتخبهم الناس، وهذا يخالف أمر الله تعالى الذي نهى عن أن يزكي الإنسان نفسه، حيث يقول ﷻ: ﴿فلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُـم﴾. كذلـك فإن لُبَّ الانتـخابات الديمقراطية يعـتمد على الدعاية الانتـخابية التي يقـوم بها كل من يرشـح نفسه لها، وهو يعـتقد أنه خير من الآخر الذي رشح نفسـه أيضا، فهو يقـول بلسان حـاله وقـاله كما قال إبليس من قبـل: “أنا خير منه”.

لا خلافة ربانية بلا تقوى

إن لم تقم عملية الانتخاب على التقوى فإن النظام كله ينهار ولا يقوم، ولا يمكن أن تتجلى إرادة الله تعالى لقوم حادوا عن طريق التقوى. فبدون التقوى لا يشترك الله تعالى في عملية الانتخاب، ويُرَد الأمر كله إلى الناس ليختاروا من يريدونه حسب أغلبية الأصوات. وعلى هذا فليس كل من ينتخبه الناس يكون بالضرورة من اختيار الله تعالى. لا بد أن يتم اختيار هذا الشخص حسب النظام الإلهي الذي وضعه الله تعالى حتى يرضى أن يشترك ﷻ مع المؤمنين في عملية الانتخاب. فإذا وُجدت جماعة المؤمنين التي أقامها مبعوث السماء بأمر من الله تعالى، وإذا ارتبطت جماعة المؤمنين هذه برباط التقوى والتزمت بشرطي الإيمان الصحيح والقيام بالأعمال الصالحة، وإذا غابت تماما كل إجراءات التنافس والترشيح لمنصب الخليفة، وإذا لم يقم أي فرد بعمل أية دعاية انتخابية لنفسه أو لغيره، وإذا اشترك أكثر الناس تقوى من بين المؤمنين في عملية الانتخاب، وإذا لم يُدلِ هؤلاء بأصواتهم إلا بعد أن يخروا على عتبات الله تعالى ويسـألوه الهداية والتوجـيه، وإذا تم بذلك انتـخاب أكثر الناس تقـوى ليكون إمـام المتقـين، فحـينئذ.. وحينئذ فقـط.. يكون هـذا الشخـص من اخـتيار الله تعـالى.

أما انتخاب رؤساء الدول وقادة العالم فإنه لا يتم بهذا النظام الرباني، وبالتالي فإن الشخص الذي يتم انتخابه ليس مُعَيّنا من قِبَل الله تعالى. نعم قد يكون انتخابه ديمقراطيا، ولكنه ليس ربانيا، لأنه لم يتم حسب النظام الرباني. إن هتلر في واقع الأمر جاء إلى السلطة عن طريق الانتخاب الديمقراطي الذي لم يتم حسب النظام الرباني، فلم يكن للتقوى وجود في ذلك الانتخاب، وعنـدما تغيب التقوى.. يغـيب فضل الله أيضا.

السؤال الخامس

من هم أولئك الذين ينتخبون الخليفة؟
الهيئة الانتخابية

إن الأمر كله يعتمد على التقوى. وإن لم توجد التقوى فلا وجود لمشاركة الله تعالى في هذه العملية الانتخابية. وهنا ينشأ سؤال آخر: من هم أولئك الذين يشتركون في انتخاب الخليفة؟ وكيف نكون على يقين أنهم قد بلغوا ذلك المقام العالي من التقوى؟ من أجل هذا هناك لجنة معينة تسمى “مجلس انتخاب الخليفة” وهي التي تنال شرف الاشتراك في عملية انتخاب الخليفة. ليس لها عدد معين، ولكن الشرط الوحيد الذي يجب أن يتوفر في أعضائها هو أن يكونوا على مقام عظيم من تقوى الله.

حينما انتقل الرسول ﷺ إلى الرفيق الأعلى اجتمع زعماء المسلمين من المهاجرين والأنصار الذين كانوا على قمة التقوى.. واختاروا أبا بكر خليفةً أول. وقبيل وفاته، راح أبو بكر يسأل ويستشير كل من يعرف فيه الصلاح والتقوى، وكأنه قد قام باستفتاء بين أولي التقوى من المهاجرين والأنصار، حتى اطمأن أن جميع هؤلاء المؤمنين المتقين يرتضون عمر بن الخطاب ليكون من بعده إماما للمتقين، وبعد أن استخار الله رشّح عمرَ خليفة من بعده. أما عمر بن الخطاب ؓ فقد أمر بتشكيل هيئة انتخابية تتولى اختيار إمام المتقين، وكانت مكونة من ستة أفراد من كبار صحابة الرسول ﷺ ومن بين العشرة المبشرين بالجنة، والذين توفي رسول الله ﷺ وهو راض عنهم.

وفي زمن إحياء الإسلام من جديد.. بعد بعثة الإمام المهدي ؏.. أمر سيدنا المصلحُ الموعود الخليفةُ الثاني ؓ أيضا بتكوين هيئة انتخابية تتولى الاشتراك في عملية انتخاب الخليفة، ثم أدخل الخليفة الرابع رحمه الله في قواعدها تعديلات هامة نظرًا إلى تغير الأوضاع. وتتكون هذه اللجنة من الذين خدموا الإسلام والجماعة بإخلاص وتقوى خدماتٍ بارزة في العالم كله. هذا المجلس لا يقوم بأي عمل إلا بعد انتقال الخليفة إلى الرفيق الأعلى. فيجتمع أعضاؤه سويًّا، ولا بد أن يجتمعوا في مركز الخلافة. ولا يجوز لأحد أن يرسل صوته عن طريق الهاتف أو الفاكس أو الانترنت، بل لا بد له من الحضور مع بقية أعضاء هذا المجلس، فيكون بذلك في صحبة المتقين، وهناك سوف يعاين بنفسه تأثير فاجعة وفاة الخليفة، وسوف يعاني من الألم والحزن ما يساعده على التقرب من الله تعالى. هناك سوف يدعو ويدعو ويدعو: يا رب.. اهدني يا رب.. لأنتخب الشخص الذي تريد أنت أن تجعله إماما للمتقين.

وبطبيعة الحال.. لا يمكن القطع بأن كل من يشترك في هذه الهيئة الانتخابية يكون بالضرورة قد وصل إلى المراتب العليا من التقوى، ولكن لا بد أن تكون أغلبيتهم كذلك. ومن جانب آخر.. ليس إلزامًا على الله تعالى أن يتصل بكل فرد من أفراد الهيئة الانتخابية، ولكنه حتما لا بد أن يوجه الأغلبية منهم.

من الذي يخـتار؟

إن هؤلاء المتقين الذين يشتركون في الهيئة الانتخابية يسألون الله تعالى عمن يريد أن يختاره، والأغلبية العظمى منهم يتلقون منه ﷻ ما يشرح صدورهم ويوجههم للتصويت لمن اختاره ﷻ لمنصب الخلافة، وكل ما يفعلونه هو أنهم يدلون بأصواتهم من أجله. فمن الذي قام بالاختيار؟ في الحقيقة إنه الله تعالى.

ولنأخذ هنا مثالا.. لنفترض أن لديك صحنا فيه ثمرات من الفاكهة.. فهو يحتوي على برتقالة، وتفاحة، وثمرة من الموز، وأخرى من الكمثرى. وطلب منك البعض أن تختار إحدى ثمار الفاكهة من الصحن لتقدمها لأبيك. وكان من الممكن أن تقدم لأبيك ما تختاره أنت من ثمار الفاكهة، ولكنك بدلا من ذلك ذهبت إلى أبيك وسألته أيا من ثمار الفاكهة يريد. فأشار الأب إلى ثمرة التفاح، فتناولت أنت التفاحة بيدك وقدمتها له. فمن الذي قام بالاختيار هنا؟ هل هو اختيارك أنت الذي قدمت الفـاكهة، أم هـو اخـتيار أبيـك الذي أطلـعك عـلى اختـياره؟

هذا ما يحدث تماما في عملية انتخاب إمام المتقين.. ولكنه ليس ما يحدث في انتخاب قادة الدول ورؤساء الجمهوريات، ولا في انتخاب أي شخص في أي تنظيم سياسي أو اجتماعي أو ديني غير جماعة المؤمنين، إنما هو يحدث فقط عند انتخاب الخليفة، فهو الانتخاب الذي يقوم على التقوى، وتتوقف هذه التقوى على مدى عمق العلاقة بين الإنسان وخالقه. وعلى ذلك.. فإنه ﷻ هو الذي يقوم بالاخـتيار، وهـو الذي يـقرر اختـيار الخليـفة.

شرف عظيم.. وتحذير كبير

لعله من الجدير الإشارة هنا إلى أن الله تعالى قد أضفى على المؤمنين شرفا عظيما إذ جعلهم يشتركون معه في عملية اختيار الخليفة. أما في حالة اختيار النبي.. فلم يكن للمؤمنين وجود بعد، ولذلك فإنه ﷻ يختار النبي بنفسه.. مباشرة.. دون أن يشترك معه أحد. ولكن بعد أن يؤدي النبي مهمته ينشئ جماعة المؤمنين، فإن الله تعالى يُضفي عليهم هذا الشرف العظيم بأن يدعوهم للاشتراك في عملية اختيار الخليفة. ورغم أن الخيار النهائي له ﷻ، إلا أنهم يتباركون بالاشتراك في هذه العملية. وقد كان من الممكن أن يختار الله الخليفة مباشرة دون اشتراك أحد، وكان من الممكن إهمال وجود جماعة المؤمنين كلية، ولكنها محبة الله لهذه الجماعة التي تأبى إلا أن ينعم الله عليهم بهذا الشرف ونوال هذه البركة. فمن خلال شفاههم.. وعن طريق رفع أيديهم.. تتجلى إرادته الكريمة، ويتم اختيار الله لإمام المتقين، الذي يستمر في قيادة جماعة المؤمنين على درب التقوى والإيمان واليقين.

إن هذا الشرف العظيم يتضمن أيضا تحذيرا كبيرا، وهو أنه إذا حدث أن تدنى مستوى التقوى في جماعة المؤمنين.. أو إذا لم تقم بواجب الطاعة التامة الكاملة للخليفة، فقد يرفع الله هذا الشرف عنهم، ولا يجدون الله معهم ليتخذ لهم القرار الحكيم، ويتجلى عليهم بالاختيار الصائب لشخص الخليفة.

 السؤال السادس

هل الخليفة معصوم من الخطأ، وأي نوع من الأخطاء يمكن أن تقع من الخليفة؟

الجانب الآخر الهام في موضوع الخلافة هو نوع الأخطاء التي يمكن أن تحدث من الخليفة، وما إذا كان الخليفة معصوما من الخطأ كما هو الحال بالنسبة للأنبياء.

ومن الممكن تقسيم الأخطاء إلى ثلاثة أنواع: أخطاء تتعلق بشؤون الدنيا، وأخطاء تتعلق بمصالح جماعة المؤمنين وأمنها، وأخطاء تتعلق بتنفيذ شريعة الله تعالى.

الأخطاء التي تتعلق بشؤون الدنيا

إذا كان الله تعالى هو يختار كلا من النبي والخليفة.. فإن كلا منهما يمكن أن تقع منه نفس أنواع الأخطاء التي تقع من الآخر. فما هي الأخطاء التي يمكن أن تقع من النبي؟ إن الله تعالى يختار النبي لهداية الناس.. لا ليكون خبيرا في الشؤون الدنيوية، فلا بأس أن تقع من النبي بعض الأخطاء التي تتعلق بشؤون الدنيا، ولا يعيب النبي أن يخطئ في أمر من أمور الدنيا كما يخطئ غيره من البشر، فليس من المفترض أن يكون النبي بكل شيء عليما -وهناك بعض الروايات التي تقول إن النبي ﷺ أخطأ في أمر من أمور الزراعة، حيث اقترح على الصحابة عدم تأبير النخل- ولا يحط ذلك من قدر النبي ﷺ ولا ينال من شأنه، فليس ضروريا أن يتلقى النبي وحيا من الله تعالى في شؤون الدنيا، ومن المعروف عن النبي ﷺ أنه قال: “أنتم أعلم بأمر دنياكم.” (مسلم)

وكما يمكن أن يقع خطأ من النبي في شؤون الدنيا، كذلك يمكن أن يقع خطأ من الخليفة في أمر من الأمور الدنيوية. ولا فرق بين النبي والخليفة في هذا النوع من الأخطاء.

أخطاء تتعلق بجماعة المؤمنين

النوع الثاني من الأخطاء هو الأخطاء التي تتعلق بأمور جماعة المؤمنين. وقد حدث مرة أن كان سيدنا رسول الله ﷺ يقود جيش المؤمنين في أول غزوة له وهي غزوة بدر. وحيث إن الرسول كان يُعتبر القائد الأعلى للجيش.. بحسب التعبيرات العسكرية الحديثة.. فكان عليه أن يتخذ القرارات الصائبة التي تضمن سلامة وأمن جماعة المؤمنين. وحدث أن اختار القائد الأعلى للجيش مكانا يعسكر فيه الجنود، ولكن ذلك الاختيار لم يكن صائبا. فلم يكن من مصلحة الجيش أن يعسكر في هذا المكان الذي يبعد عن الماء. واقترح أحد الجنود أن يُعسكر الجيش في مكان آخر يجاور الماء، وأدرك القائد الأعلى صواب رأي الجندي، فانتقل الجيش وعسكر في المكان الذي اقترحه ذلك الجندي.

ولا ننسى هنا أن ذلك القائد الأعلى كان سيدنا رسول الله ﷺ، وقد اختاره الله تعالى مباشرة دون تدخل أحد من البشر في عملية اختياره. وكان هو قائد الجيش الأعلى المسؤول عن اتخاذ كافة القرارات التي تكفل سلامة الجيش وكسب المعركة. ولكنه أخطأ خطأ تكتيكيا.. غير أن أحد صحابته اقترح تصحيح الخطأ فتم التصحيح على الفور. وهكذا نرى أنه من الممكن أن يخطئ النبي أو الخليفة في أمر من الأمور التي تتعلق بجماعة المؤمنين، ولكن هذا الخطأ لا بد أن يتم تصحيحه على الفور. وإن حدث أن أحدا لم يتنبه لوقوع الخطأ، فإن الله تعالى الذي اختار ذلك النبي أو ذلك الخليفة.. يتولى توجيه الأمور بحيث يجعل كل ما ينتج عن هذا الخطأ من سوء أو معاناة لجماعة المؤمنين.. يتحوّل إلى خير وبركة لهذه الجماعة، فتكون المحصلة النهائية لهذا الخطأ هي تحقيق مصلحة عظمى لجماعة المؤمنين.

وليست هذه مجرد كلمات نابعة من عاطفة المحبة والاحترام لمقام النبوة والخلافة، ولكنها الحقيقة التي ظهرت وتجلت بكل وضوح خلال حياة الرسول ﷺ؛ فقد حدث أن رأى ﷺ في رؤيا أنه يدخل المسجد الحرام ويطوف بالكعبة مع صحابته، فظن أن عليه أن يذهب توًّا لتحقيق الرؤيا. فخرج في صحبة 1500 من المسلمين وبدأوا الرحلة الطويلة المضنية من المدينة إلى مكة المكرمة. غير أن قريشًا رفضت السماح لهم بدخول مكة، ناقضة بذلك كافة الأعراف والتقاليد العربية التي تكفل حق الطواف حول الكعبة حتى للأعداء إذا جاءوا مسالمين بغير سلاح. بل إن أهل مكة لبسوا جلود النمور علامة على تصميمهم الشرس على الدخول في حرب مع المسلمين لردهم عن مكة. وقد أرسل الرسول ﷺ عثمان بن عفان ليحاول إقناع أهل مكة بالسماح للمسلمين بالطواف في سلام، ولكنهم أصرّوا على عنادهم، وأشاعوا أن عثمان قد قُتل ليلقوا الرعب في قلوب المسلمين.

ولما سمع الرسول ﷺ بخبر مقتل عثمان طلب من المسلمين أن يبايعوه على أخذ ثأر عثمان أو الموت، فبايعوه وهم على يقين من تحقق وعد الله لرسوله في الرؤيا بدخول المسجد الحرام. وتطورت الأمور بسرعة منذرة بوقوع حرب ضروس بين المسلمين وأهل مكة، وكان من الممكن أن يُقتل المئات من الجانبين بسبب الخطأ في تفسير الرؤيا، ولم يتنبه أحد لوقوع ذلك الخطأ. وقد أدرك الرسول ﷺ ذلك حين عاد عثمان لم يُصب بأذى، وعرض عليه أهل مكة الصلح على أن يمتنع من دخول المسجد الحرام في ذلك العام. واعترض المسلمون على العودة فراحوا يجادلون الرسول محتجين بأن الله وعدهم بدخول المسجد الحرام محلقين رؤوسهم ومقصرين. فأقر الرسول بوعد الله كما جاء في الرؤيا، ولكنه أشار إلى أن الله تعالى لم يحدد موعدا لتحقق الرؤيا في ذلك العام أو في العام التالي. إذن فقد أخطأ الرسول ﷺ في تفسير الرؤيا، وترتب على ذلك الخطأ خروج المسلمين في ذلك العام وتكبد المشاق وتحمل عناء السفر ثم العودة دون دخول المسجد الحرام. ولأن أحدا لم يتنبه لوقوع هذا الخطأ، فإن الله تعالى أجرى دفة الأمور بحيث تتحول المحصلة النهائية لهذا الخطأ فتكون لمصلحة جماعة المؤمنين. وهكذا وقع رسول الله صلح الحديبية الذي أثبتت الأيام أنه كان خيرا عظيما لمصلحة الإسلام والمسلمين.

لعلنا من هذا الدرس العظيم نتعلم أيضا أهمية الطاعة التامة والكاملة. لقد كان المسلمون على شفا حفرة من النار بسبب ترددهم في تنفيذ أمر الرسول ﷺ، حتى إن الرسول دخل إلى زوجته أم سلمة وقال لها: “هلك القوم”. ولكن الله تعالى أنقذ المؤمنين من الهلاك حيث أجرى على لسان أم سلمة نصيحة للرسول ﷺ أن يذبح قربانه ويتحلل من إحرامه، فلما فعل.. إذا بالمؤمنين يتسابقون في طاعته ويتحللون من إحرامهم وينحرون ذبائحهم. لقد كانت لحيظة من عدم الطاعة كان من الممكن أن تؤدي إلى عواقب وخيمة، ولكن الله تعالى بفضله غيّر اتجاه سير الأمور لتصب في النهاية لما فيه مصلحة جماعة المؤمنين.

أخطاء تتعلق بأمور الشريعـة

أما النوع الثالث من الأخطاء فهو الأخطاء التي تُرتكب مخالفة لأوامر الشريعة. ونحن نعلم جميعا أن الصلاة المفروضة هي خمس صلوات: الصبح فيها ركعتان، والظهر أربع ركعات.. وهكذا. هذا ما أمر به سيدنا رسول الله ﷺ حسب أوامر الشريعة التي أنزلها الله تعالى عليه. ولكن حدث مرة أن كان الرسول ﷺ يصلي بالمؤمنين صلاة الظهر، فسلم بعد أن أدى ركعتين فقط، مما حدا بالمؤمنين أن يسألوه: أقصرت الصلاة يا رسول الله؟ ولما أدرك الرسول أنه أخطأ في أداء الصلاة قام وأكمل الركعتين ومعه المسلمون.

إذن فمثل هذا الخطأ في حق الشريعة يمكن أن يحدث من النبي أو من الخليفة، ولكنه لا يحدث أبدا إلا نتيجة للسهو أو النسيان. إن البشر معرض للنسيان، والنبي والخليفة هما من البشر، ولكن مثل هذه الأخطاء لا بد أن يتم تصحيحها على الفور، تماما كما يتم في التو تصحيح الأخطاء التي تقع في قراءة القرآن من الإمام في الصلاة. ولا يمكن أن يصدر من النبي أو من الخليفة خطأ يتعلق بأمور الشريعة بسوء نية أو عن قصد.

معنى العصـمة

كثيرا ما نسمع أن النبي معصوم من ارتكاب الذنوب والمعاصي، غير أن هذه العصمة ليست شيئا خارجيا يُفرض على النبي رغما عنه. وإنما العصمة تنبع منه وتنطلق من ذاته، وهي النتيجة الطبيعية لطاعته لله تعالى. إنه يدرك وجود الله تعالى في كل لحظة من لحظات حياته، وهذا الإدراك المتواصل لوجود الله ﷻ هو الذي يحفظه من اقتراف الذنوب أو المعاصي، وهو ما نسميه العصمة الإلهية. فكيف يمكن للنبي أن يتعمد معصية أوامر الله تعالى؟ إنه لمستحيل.

كذلك فإن الخليفة هو الشخص الذي اختاره الله تعالى لكي يشرف على أمور جماعة المؤمنين، وهو الشخص الذي رأى الله تعالى أنه يصلح لأن يكون إماما للمتقين، فهو أكثر أهل الأرض تقوى وصلاحا، وعلى كتفيه تقع مسؤولية الحفاظ على جماعة المؤمنين وقيادتها نحو آفاق أعلى وأرفع من مقامات التقوى والصلاح. فكيف يمكن لهذا الرجل أن يتعمد معصية الله تعالى وارتكاب مخالفة أمر الله عن سوء قصد؟ هذا مستحيل. فعندما يختار الله تعالى رجلا من أجل تحقيق الحماية الروحية لجماعة المؤمنين، فمن المستحيل أن يتخلى عن هذا الرجل ويحرمه من عصمته. ولنتذكر أن الله تعالى وعد بحفظ المؤمنين الصادقين من أثر الشيطان اللعين، فقال: ﴿إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ (الحجر:43)، فإن لم يكن للشيطان من سلطان على العباد المتقين، فكيف يكون للشيطان سلطان على إمام المتقين؟ كلا ثم كلا.. هذا غير ممكن البتة.

وفي هذا الشأن.. ليس هناك من فرق بين النبي والخليفة، فكل ما يمكن أن يصدر من النبي من خطأ يمكن أن يصدر من الخليفة أيضا.

وحين ندرك ونفهم هذا الأمر تماما.. نستطيع أن ندرك أهمية مقام الخلافة وعظمته، وقدْره ومكانته، فهو ليس سوى امتداد لبركات النبوة. فما أعظمَ حظَّ المسلمين الأحمديين إذ منّ الله عليهم بهذه النعمة العظمى. إن الفرحة التي يشعرون بها، والبهجة التي تغمرهم، والانشراح الذي يملأ صدورهم، والرضا والاطمئنان الذي يفيض في وجدانهم حين يتم اختيار الخليفة لا تعدله فرحة، ولا تساويه بهجة، وسوف يستمر هذا الفضل إن شاء الله تعالى إلى يوم القيامة.

سـؤال أخـير

هناك سؤال أخير قد يتبادر إلى أذهان البعض منا: إذا كان الخليفة معصوما من ارتكاب الذنوب والمعاصي ومن مخالفة شريعة الله بسوء قصد أو خبث نية، فلماذا تنص بعض العهود على طاعة النبي أو الخليفة في كل ما يأمر به من معروف؟ وهل يعني هذا أن الخليفة يمكن أن يأمر بما هو مخالف للمعروف.. أي ما هو مخالف لشرع الله تعالى؟ وهل في هذه الحالة يكون لكل فرد الحق في أن يقرر ما إذا كان الأمر الصادر من الخليفة معروفا أو غير معروف ليطيعه أو لا يطيعه؟

إن التعبير “يطيعني في كل ما آمره به من معروف” قد استعمله سيدنا رسول الله ﷺ في البيعة الأولى التي اشترك فيها سبعون رجلا وامرأتان من أهل المدينة. والقرآن المجيد يذكر الطاعة في المعروف في سياق آية الاستخلاف، حيث يقول: ﴿قُلْ لاَ تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ﴾..أي أن المطلوب هو الطاعة فيما هو معروف. وكذلك في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبي إذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ ولا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ في مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ…﴾ (الممتحنة:13)

فما معنى قوله: ﴿وَلاَ يَعْصِينَكَ في مَعْرُوفٍ﴾؟ من المستحيل أن يكون معنى هذا هو أن لا يعصينك إذا أمرتهن بمعروف، أما إذا أمرتهن بغير المعروف فليس لك حق الطاعة عليهن، ويكون من حقهن عدم طاعتك.

إن طاعة الله تعالى فيما هو معروف، وطاعة الرسول فيما هو معروف، وطاعة الخليفة فيما هو معروف.. لا تعني أبدا أن الله تعالى أو أن الرسول أو أن الخليفة يمكن أن يأمر بما هو مخالف للمعروف. لا.. وإنما يعني ذلك أن الله والرسول والخليفة لا يمكن أن يأمر إلا بما هو معروف. فإذا صدر من الله أمر، أو صدر أمر من الرسول أو من الخليفة، فإننا نكون على يقين بأن ذلك الأمر هو حتما من المعروف. وحينما نطيع الأمر الذي يصدر من الله أو من الرسول أو من الخليفة فإننا نكون على يقين بأننا نطيع فيما هو معروف، فلن يصدر من الله أو من النبي أو من الخليفة إلا ما هو معروف. وعلى هذا فالمؤمن يكون مطمئنا إلى أنه حين يطيع أمر الله أو تعليم الرسول أو توجيه الخليفة فإن طاعته هذه هي في المعروف.

إن هذا يضيف عظمة إلى عظمة مقام الخلافة، فما أعظمَها من نعمة أن نعلم أن كل أمر يصدر من الخليفة هو أمر بالمعروف. لذلك فقد أطلق المسيح الموعود على نعمة الخلافة اسم “القدرة الثانية”. إن القدرة الأولى هي اختيار النبي، والقدرة الثانية هي اختيار الخليفة، هذه خلافة ربانية بطريق مباشر وتلك خلافة ربانية بطريق غير مباشر، وليس بينهما من فرق بتاتا سوى أن إحدى القدرتين تتجلى بواسطة من يختاره الله تعالى من خلال صفته “الرحمن”، والثانية تتجلى بواسطة من يختاره الله تعالى من خلال صفته “الرحيم”.

إن الكثيرين منا زاروا مناطق تنبت فيها الأشجار، ولعلهم شاهدوا أشجارا تنبت في أماكن لا يمكن أن يصل إليها إنسان ليزرع هذه الأشجار، حيث تنبت الأشجار في منـزلقات الجبال أو بين الصخور أو على جزيرة صغيرة تحيط بها المياه من كل جانب، ولا يستطيع الإنسان أن يقف عليها، فمن الذي زرع هذه الأشجار؟ إنه الله تعالى. وهناك أشجار أخرى غرسها الإنسان بيديه، وهي تماثل الأشجار التي زرعها الله تعالى، وليس هناك من فرق بين الأشجار التي يزرعها الله تعالى مباشرة والأشجار التي يزرعها الله تعالى عن طريق الإنسان. وهكذا أيضا.. ليس هناك من فرق بين اختيار النبي واختيار الخليفة.. سوى أن أحدهما يتم مباشرة، والآخر يتم عن طريق صفوة الناس. إن الفرق بين النبي والخليفة هو فرق في نوع المهمة التي يقوم بها كل منهما. فالنبي يأتي ليضع الأساس الذي تقوم عليه جماعة المؤمنين، والخليفة يأتي لكي يبني ويُعلي البناء على نفس الأساس الذي وضعه النبي. فالعملية كلها كأنها عملية إقامة بناء ضخم.. يرسي النبي أساسه، ثم يأتي الخليفة الأول فيبني الطابق الأول، ويأتي الخليفة الثاني فيبني الطابق الثاني، وهكذا حتى يعلو البناء، ويصير بناءً شامخا.. كالشجرة المباركة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

رجل عظـيم

حدث مرة أن سُئل السيد محمد ظفر الله خان سؤالا.. وهو الصحابي الجليل للمسيح الموعود، وابن الأحمدية البار الذي هو مثال في التقوى والروحانية، كما وصل إلى أعلى المناصب العالمية في تاريخه الطويل وعمره المديد، حيث تقلد منصب الوزير وهو في الثلاثينيات من عمره، كما أنه صار أول وزير للخارجية في دولة باكستان بعد تأسيسها، وكان رئيس الدورة السابعة عشر للأمم المتحدة، واختير قاضيا في محكمة العدل الدولية ثم رئيسا لقضاتها. باختصار، كان تاريخه حافلا بنجاح يتلوه نجاح في الدين والدنيا. وكان السؤال الذي وُجّه إليه هو: “لقد كتب الله لك النجاح طوال حياتك، فما هو سبب هذا النجاح”؟ وبدون أي تردد وتأنٍّ قال:

لأنــي طــوال حـيـاتـي كنت مطيعا لمقام الخلافة

 

نقلا عن: عن مجلة التقوى لسان حال الجماعة الإسلامية الأحمدية العالمية

 

About مصطفى ثابت رحمه الله

View all posts by مصطفى ثابت رحمه الله

2 Comments on “الخلافة في الإسلام: كيف يختار الله الخليفة؟”

Comments are closed.