كما أن الله تعالى قد بعث الإمام المهدي والمسيح الموعود حكَما عدلا وإماما مقسطا في الخلافات الدينية وفي تبيان الغثِّ من السمين مما توارثته الأمة من معتقدات وأفكار تراكمت، فأحيا الصحيح منها ونبذ الفاسد، كذلك شاء الله تعالى أن يكون أيضا حكما عدلا في قضايا ذات أهمية قصوى تتعلق باللغة العربية وآدابها، وهذا لارتباطها الوثيق بالإسلام بصفتها لغة القرآن الكريم والتراث العلمي الإسلامي. وهذا ليس مستغربا، فلا شك أن إحياء العربية ركن من أركان إحياء الإسلام، وكان لا بد لحضرته أن يلعب هذا الدور حتما، ولعبه هذا الدور هو أحد دلائل صدقه.

القضية الأولى بخصوص اللغة كانت تتعلق بالنثر، حيث كان هنالك تيَّار في البلاد العربية يدعو إلى التخلِّي عن النمط القديم من الكتابة الأدبية المفعم بالمحسنات اللغوية البديعية والبيانية، الرابط للغة بتراثها باستخدام مفردات جزلة وعريقة؛ فقالوا إن اللغة يجب أن تكون مبسطة غير مقعَّرة، ولا بد من هجرة الألفاظ التي تبدو غريبة. فاللغة ليست سوى وسيلة لإيصال الأفكار، لذلك لا بأس في استخدام الألفاظ العامية بل والمفردات الأجنبية، ولا حاجة لتعريب المصطلحات العلمية لأنها تقطع الصلة مع العلوم في العالم حسب رأيهم، هذا فضلا عن أنهم رأوا أن العربية لا تصلح لغةً علمية ألبتة، لذلك من الممكن استبدالها باللغات الأجنبية عسى أن تتقدم الأمة وتلتحق بركب الحضارة! فبينما كان هذا التيار منتشرا، بل وقد ساد نسبيا وتفوَّق على تيار التقليديين من الأدباء المتمكنين، جاء حضرته وقدَّم عددا من الكتب العربية بالأسلوب التقليدي، رابطا الحديث بالقديم، ومطعِّمًا كتاباته بالاقتباس والتناص والأساليب الموروثة من النحو والصرف التي منها ما غاب عن كتَّاب وقرّاء اليوم رغم أصالته. فبهذا قد حكم لصالح تيار العراقة في الأدب العربي، وكان هو بنفسه رائده، وستبقى كتاباته سببا لتطوِّر هذا التيار وازدهاره لأنها تقدِّم علومه وتراثه الذي يحظى بالاهتمام يوما بعد يوم كلما ازداد عدد العرب الداخلين في جماعته وناطقي العربية ومحبيها في العالم.

أما القضية الثانية فهي الشعر العربي؛ إذ انتشر في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تيارٌ يدعو إلى تحرير الشعر من الوزن والقافية، وبدأ هذا النمط من الشعر الحر ينتشر انتشار واسعا في العالم العربي ويلقى استحسانا، وأخذ روَّاده ومحبوه يهاجمون الشعر التقليدي ويقذفونه بالجمود وعدم القدرة على مواكبة العصر وتقديم ما يستطيعه الشعر الحر. فخرج حضرته وقدَّم قصائد طويلة من الشعر العربي الموزون ببحور الشعر التقليدية، وعالج به أحوال الإسلام المعاصرة ومجَّد فيه الله تعالى والإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم، وعزَّزه بالمعارضة والاقتباس والتناصِّ وربطه بالتراث، فقدَّم للأدب العربي قصائد رائعة زادت أبياتها على الثلاثة آلاف بيت، ووظَّف الشعر في خدمة الدين وتقديم معارفه وأخلاقياته وكذلك تحريك المشاعر نحو حبِّ الله تعالى وحبِّ النبي صلى الله عليه وسلم والغيرة للإسلام.

ومن خلال هذين العملين اللذين قام بهما حضرته، فقد حكم تلقائيا أيضا في نقطة ثالثة وهي مسألة كانت ولا تزال مثار خلاف في النقد العربي، وهي مسألة السرقات الأدبية؛ هذه المسألة التي شهدها الأدب العربي منذ الشعر الجاهلي، ثم تراجعت واختفت إلى حدِّ كبير في القرون الثلاثة الأولى تأثرا بمبادئ الإسلام الذي ينهى عن القذف والاتهام بغير علم ولا بينه ويدعو إلى النقد عن طريق الإتيان بالمثل لا مجرد الانتقاد – ولهذا ظهر فن المعارضات والنقائض في الشعر العربي الذي كان الشعراء يتبارون فيه ويثبتون جدارتهم بهذا الأسلوب الأمثل- ، ثم عاد مرة أخرى في نهايات القرن الثالث وبداياته القرن الرابع ليطلَّ برأسه ويبقى إلى يومنا هذا.
فقد اتُّهم الشعراء الجاهليون كلُّهم بأنهم قد سرقوا من غيرهم، لذلك نجدهم قد دافعوا ضد هذه التهمة وظهر ذلك في شعرهم.

فقال طرفة:

وَلا أُغيرُ عَلى الأَشعارِ أَسرِقُها……….عَنها غَنيتُ وَشَرُّ الناسِ مَن سَرقا

وقال حسان رضي الله عنه الشاعر المخضرم (أي شهد الجاهلية والإسلام):

لا أسْرِقُ الشُّعَرَاءَ ما نَطَقُوا………. بَلْ لا يُوَافِقُ شِعْرَهُمْ شِعْري

ولكنهم لم يكونوا يرون استخدام التعابير التي قيلت من قبل أو الأغراض السابقة من السرقة في شيء، لذلك قال عنترة مدافعا في مطلع معلقته:

هلْ غادرَ الشُّعراءُ منْ متردَّمِ………. أم هلْ عرفتَ الدارَ بعدَ توهُّمِ

وقال كعب بن زهير رضي الله عنه المخضرم أيضا:

وما أرانا نقولُ إلا معارًا …………. ومعادًا من قولنا مكرورا

وكان امرؤ القيس قد قال من قبل:

عوجا عَلى الطَلَلِ المَحيلِ لِأَنَن……. نَبكي الدِيارَ كَما بَكى اِبنُ خِذام

وكما قلنا، فمع نهايات القرن الثالث الهجري وما بعده، فقد توسَّع النقد والاتهام بالسرقة بصورة غير مسبوقة، فقد اتُّهم المتنبي (ت 354 هـ) وأبو تمام (ت 231 هـ) والبحتري (ت 284 هـ) وغيرهم من كبار الشعراء بالسرقة من غيرهم، وأُلِّفت العديد من المصنفات في هذه السرقات المزعومة. وكذلك ابتدع بعض الحاقدين من النقاد مصطلحات غير موفقة تنزُّ حقدا وضغينة ويتضح فيها التغريض للإساءة إلى شاعر ما، وكان من أبرزهم شخص يدعى الحاتمي (ت 388هـ)، وقيل إنه كان شاعرا لكن لم يُعرف من شعره شيء ولم يشتهر به، وكان لا شغل له سوى انتقاد المتنبي الذي أَلَّف في نقده المصنفات العديدة.

فمن أمثله مصطلحات هذا الشخص الذي أسرف في الاصطلاحات اصطلاح “الاهتدام” في وصف ما يقتبسه شاعر من شطر أو تراكيب ممن سبقه. والاهتدام عنده من الهدم، أي كأن الشاعر الجديد قد هدم بيت الشاعر القديم ونقضه ثم أخذ تراكيبه واستخدمها!! فبأي صورة وأي منطق يرى أن استخدام هذه التعابير يهدمُ شعرَ الشاعر الأول؟ فهل يضرُّ هذا الاقتباس شعرَ الأول شيئا؟ أم أنه في الواقع إقرارٌ واعترافٌ بقوة هذه التعابير من قِبَل الثاني؟

والواقع أن الحاتمي قد تعرَّض بنفسه للنقد ممن جاءوا بعده بسبب موقفه هذا، ورأوا أن مصطلحاته غير موفقة، كابن رشيق (ت 456 هـ) الذي من الواضح أنه أطول باعا بهذه الصناعة وأكثر دقة، إذ قال حول هذا الأمر:

وقد أتى الحاتمي في حلية المحاضرة (كتابه) بألقاب محدثة تدبرتها ليس لها محصول إذا حققت: كالاصطراف والاجتلاب، والانتحال، والاهتدام، والإغارة، والمرافدة، والاستلحاق… وكلها قريب من قريب. وقد استعمل بعضها في مكان بعض” (العمدة لابن رشيق)

وقد أجاد ابن رشيق في كتابه العمدة في النقد إلى حد كبير، وجاء نقده متوازنا وموقفه قريب جدا من الصحة، إذ قد بيَّن موقفه مما سُمِّيت سرقات شعرية بقوله:

هذا باب متّسع جدّا لا يقدر أحد من الشّعراء أن يدعي السّلامة منه، وفيه أشياء غامضة إلاّ عن الحاذق بالصّناعة، وأخرى فاضحة لا تخفى عن الجاهل الغافل” (العمدة لابن رشيق)

وقد توسَّع ابن رشيق في تبيان الفارق بين السرقة المذمومة والاقتباس أو الاستعارة أو التوارد، وبيَّن أنواعه بصورة رائعة والتي منها أن يكون الشاعر الثاني قد سمع شيئا ثم نسيه. وقد اتخذ عموما موقفا كان في الواقع موقف أستاذه عبد الكريم النهشلي الذي روى عنه قوله:”اتكال الشاعر على السرقة بلادة وعجز، وتركه كل معنى سبق إليه جهل. ولكن المختار له عندي أواسط الحالات.” أي أنه لم يكن يرى ما قد سمي سرقة سرقة، بل هو اقتباس وتضمين وغير ذلك مما يجوز للشاعر بل لا بد منه بالنسبة له.

وهذا الموقف الصحيح المتوازن قد اتخذه عدد من كبار الأدباء والنقاد كمثل الجاحظ (ت 255هـ) الذي قال:

لا يُعلَم في الأرض شاعر تقدم في تشبيه مصيب تامّ، أو في معنى غريب عجيب، أو في معنى شريف كريم أو في بديع مخترع إلاّ وكلّ من جاء من الشّعراء من بعده، أو معه إن هو لم يعد على لفظه فيسرق بعضه أو يدعيه بأسره، فإنّه لا يدع أن يستعين بالمعنى، ويجعل نفسه شريكا فيه” (البيان والتبيين).

ويقول ابن طباطبا (ت 366 هـ): “إن الشّعراء السّابقين غلبوا على المعاني الشّعرية فضاق السّبيل أمام المحدثين، ولم يكن من الأخذ بدّ” (عيار الشعر).

ويذهب الآمدي (ت 370هـ) إلى أبعد من ذلك فيقول: “إنّ السّرقة ليست من مساوئ الشّعراء، وخاصّة المتأخّرين إذ كان هذا بابا ما تعرى منه متقدّم، ولا متأخّر” (الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري)

وهكذا فإن الباحث المغرِّض عن الآراء الشاذة سيجد ضالته في أقوال كقول الحاتمي الموتور المهووس بمهاجمة المتنبي ومحاولة الانتقاص منه، وليس من السهل حتى على الباحث غير المغرِّض ألا يقع في فخِّ الحاتمي فيعتمد اصطلاحاته وموازينه المختلة، فنجد مثلا بعض المتأخرين كالدكتور شوقي ضيف قد وقع في فخِّ الحاتمي، ووصف معارضة وتناص واقتباس ابن زيدون بالاهتدام أيضا! مما يؤكد أن هذه المسألة ما زالت ملتبسة على كبار النقاد العرب إلى اليوم، وكان لا بد من حسمها.

وهكذا، فقد حكم الإمام المهدي والمسيح الموعود لصالح أصحاب الرأي الصحيح المتوازن في هذه المسألة، وذلك بتقديمه بنفسه هذا النموذج، وأثبت عمليا مقامه ومنزلته العظيمة كشاعر من كبار شعراء العربية، بل من كبار أدبائها أيضا فيما يتعلق بالنثر وابتكاره أساليب المعارضة النثرية أيضا، وجرت عليه السُّنة التي جرت على كبار الشعراء، بأن خرج بعض السفهاء في زمانه ومن بعده ممن يعزون اقتباساته وتناصه إلى السرقة، رغم أنه المنهج الوسط الذي لا بد أن يتخذه الشاعر المجيد والأديب الأريب إنما هو المسلك الوسط كما قال كبار الأدباء والنقَّاد.

ولا بد أخيرا من الاعتراف بهذا العمل الذي قدَّمه حضرته خدمة للغة العربية في أدبها ونقدها وغير ذلك من ضروب العربية، إذ أن الآراء الشاذة أو المغرضة عبر تاريخ الأدب العربي لو استمرت فكانت ستؤدي إلى تسطيح اللغة وهجرتها وتدمير الشعر العربي، وقطع الصلة بين الثراث والحداثة.

إن الدراسة المعمقة لتراث المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام ستكشف للباحث الكثير من الدرر الكامنة التي قدَّر الله لها أن تتلألأ في كل عصر مظهرة صدق الإسلام ومعيدة العزة والمجد له إلى يوم القيامة. فطوبى لمن عرفه واهتدى بهديه، والخيبة والخسران لمن أعرض عنه ونأى.

About الأستاذ تميم أبو دقة

من مواليد عمَّان، الأردن سنة 1968 بدأ بتعلَّم القرآن الكريم وحفظ بعض سوره وفي تعليمه الديني في سنٍّ مبكرة وبدأ بتعليم القرآن في المساجد في الثانية عشرة من عمره. انضم إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية عام 1987 قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر وكان من أوائل الأحمديين العرب. يعمل في خدمة الجماعة في المكتب العربي المركزي وفي برامج القناة الإسلامية الأحمدية وفي خدمات التربية والتعليم لأفراد الجماعة وفي العديد من الأنشطة المركزية. أوفده الخليفة الخامس نصره الله تعالى ممثلا ومندوبا لحضرته إلى عدد من الدول، وكرَّمه الخليفة نصره الله بلقب “عالِم” في العديد من المناسبات. عضو مؤسس ومعدّ في فريق البرنامج الشهير “الحوار المباشر” الذي انطلق رسميا عام 2006 والذي دافع عن الإسلام ضد الهجمة المسيحية التي انطلقت على بعض القنوات في بداية الألفية وأخمدها، والذي أسهم في تعريف الجماعة الإسلامية الأحمدية إلى العالم العربي، والذي يبث الآن مترجما ترجمة فورية إلى العديد من اللغات. وهذا البرنامج أصبح نموذجا للعديد من البرامج المشابهة في اللغات الأخرى. شارك ويشارك في العديد من البرامج الأخرى وخاصة المباشرة في اللغة العربية وفي بعض البرامج باللغة الإنجليزية. عضو هيئة التحرير لمجلة “ريفيو أوف ريلجنز” الإنجليزية العريقة التي بدأ إصدارها في زمن الإمام المهدي والمسيح الموعود عام 1902م.

View all posts by الأستاذ تميم أبو دقة