قلنا من قبل إن معجزة تعلُّم اللغة العربية في ليلة واحدة كانت إحدى أعظم معجزات المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام والتي لها صفة الديمومة، إذ يستطيع أن يطّلع على آثارها ودلائلها كل من يقرأ كتب المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام وتراثه.
وقد عرفنا أن ما تعلَّمه المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام في تلك الليلة كان ما عبَّر عنه بأربعين ألفا من “اللغات العربية”، ونظرا إلى ما تعنيه كلمة “لغة” في العربية نستطيع أن نفهم أن المقصود هو الجذور والنحو والصرف والأساليب والشعر والأدب والأمثال والتراث والثقافة، ومن المعلوم أن هذه اللغات بهذا المعنى لا حصر لها، وبذلك تكون قيمة أربعين ألفا ذخيرة كبيرة بلا شك.
أما لماذا كان هذا التعليم؟ ولماذا كان واجبا أن يكون التعليم في “اللغات” العربية التي تشمل تلك المعاني؟ فالجواب هو أنه لا بد من هذا القدر الكبير من الاطلاع والمعرفة والانسجام والاستغراق في تراث اللغة والقوم ليصبح المرء كاتبا فذا أو شاعرا مجيدا. ولكن، بما أن هذا القدر من العلم في العربية والاستغراق في أدبها وتراثها لم يكن قد تيسر من قبل لحضرته عليه الصلاة والسلام، فكان لا بد أن يهبه الله تعالى إياه بصورة إعجازية ويدخله في عقله الباطن، ثم يبدأ مسيرة الكتابة العظيمة الإعجازية المتقنة للغاية، وكذلك نظم الشعر الجزل، ويتحدى به العرب والعجم، ويثبت من خلال ذلك أيضا أنه بالفعل مبعوث من الله تعالى، لأن هذه المقدرة إنما هي آية من الله تعالى نظرا إلى ظروفه، لذلك قال عليه الصلاة والسلام حول هذا الأمر:
“وإن كمالي في اللسان العربي، مع قلة جهدي وقصور طلبي، آيةٌ واضحة من ربي، ليُظهِر على الناس علمي وأدبي، فهل مِن مُعارِض في جموع المخالفين؟ وإني مع ذلك عُلِّمتُ أربعين ألفًا من اللغات العربية، وأُعطيتُ بسطةً كاملة في العلوم الأدبية، مع اعتلالي في أكثر الأوقات وقلّة الفترات، وهذا فضل ربي أنه جعلني أبرَعَ مِن بني الفُرات، وجعلني أعذبَ بيانًا من الماء الفُرات. وكما جعلني من الهادين المهديين، جعلني أفصح المتكلمين. فكمْ مِن مُلح أُعطيتُها، وكم من عذراءَ عُلِّمتُها! فمن كان مِن لُسْنِ العلماء، وحوَى حُسْنَ البيان كالأدباء، فإني أستعرضه لو كان من المعارضين المنكرين.
وقد فُقْتُ في النظم والنثر، وأُعطيتُ فيها نورا كضوء الفجر، وما هذا فِعْلَ العبد، إنْ هذا إلا آية رب العالمين. فمن أبى بعد ذلك وانزوى، وما بارزَني وما انبرى، فقد شهِد على صدقي ولو كتم الشهادة وأخفى.
يا حسرة على الذين يذكرونني بإنكار! لِمَ لا يأتونني في مِضمار؟ يشهَقون في مكانهم كحمار، ولا يخرجون كمُمار، إنْ هم إلا كعُودٍ ما له ثمر، أو كنخل ليس عليه تمر، ثم مع ذلك يخدعون الجاهلين. إنْ هم إلا كدارٍ خَرِبةٍ، أو جدران منقضّة. يعلّمون الناس ما لا يعمَلون، ويقولون ما لا يفعلون. خبَتْ نارهم، وتَوارى أُوارهم، وختم الله على قلوبهم، وأبادهم بعد شحوبهم، فتراهم كأموات غيرِ أحياء ساقطين“. (مكتوب أحمد، ص 89 – 90)
وقد شاء الله تعالى أيضا أن يُظهر معجزة هذا التعليم ليس في قوة اللغة من شعر ونثر فحسب، بل في ظهور تناصٍّ من روائع الأدب العربي والأشعار؛ أي وردود بعض الجمل والتراكيب والأشعار والأمثال من تراث العرب وأدبهم، لكي يعرفه ويطَّلع عليه ويستشعره من يعرف العربية وأدبها وتراثها، ويرى أيضا كيف أنه قد حاز مقدرة عظمى في هذا التناص وتوظيفه في كتاباته الرائعة، وهذا مما لا يقدر عليه إلا كبار الأدباء والكتاب. ولكن مع فارق هام جدا عن غيره، وهو أن هذا التناص لم يكن مقصودا أو متكلَّفا، بل كان موحى به ومتواردا، بحيث استخدمه حضرته دون أن يعرف به، وربما اطلع لاحقا على أنه كان قد ورد مسبقا في أدب العرب أو شعرهم، وليس ضروريا أن يكون قد اطلع على هذا التوارد كله. ولكن هذا التوارد سيستفيد منه كل من سيعرفه من القراء والمتلقين.
وهكذا تتضح المعجزة من جانبين؛ الأول القدرة على الكتابة العربية الفائقة الإعجازية التي تحدى بها العرب والعجم ولا يزال، وهذا الجانب يظهر من قوة اللغة، والثاني هو ثبوت أن الله تعالى بالفعل قد علَّمه أربعين ألفا من اللغات العربية، وفقا للمعاني التي ذكرناها لها سابقا، من خلال ظهور التناصِّ المتوارد غير المقصود الموحى به.
ولا عجب بعد رؤية هذين المظهرين الباهرين لهذه الآية أن يحاول بعض الجهلة المتعصبين إنكارها، لأنها ترغم أنوفهم وتحرجهم، فادعى البعض منذ زمن المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام أن ورود بعض التناصِّ في كتاباته إنما هو نوع من السرقة!! وهذا قمة في الجهل الذي لا يستحق الرد عليه. فمعلوم أن الكاتب المستغرق في لغة وأدبها وتراثها سيستشعر كل من يحتك به مدى قدرته بورود تناصٍّ وتعابير في كلامه وكتاباته. أما إذا كانت تعابيره غريبة وأساليبه جديدة فلن يشعر المتلقي بأنه ابن اللغة أو التراث ولن يتذوقها، هذا فضلا على أن التناص واستخدام التعابير المعروفة والأساليب المألوفة يختزل كثيرا من الأمور التي يعرفها أهل اللغة والثقافة ويجعلهم يشعرون بالألفة معها.
وعلى كل حال، فإن المتدبر سيرى هذه الآيات المتجددة في كل حين ويستمتع بها، أما المنكرون المخالفون فلن تزيدهم إلا غيظا وعمى، ولن يستطيع هؤلاء أن يحجبوا الشمس بغربال، ولن يكون صراخهم وعويلهم واعتراضهم إلا سببا للفت انتباه الناس إلى هذه المعجزة الرائعة التي ستتمكن من قلوب الطيبين وستخلب ألبابهم.