لقد أرسى المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام قواعد التفسير للجماعة من بعده كبذرة صالحة يُعتمد عليها لتنمو مِن قلبها الأشجار الباسقة وارفة الظلال وتتدلى منها الثمار الطيبة. من بين هذه الأصول الثابتة أن كل القصص القرآني للنبيين والصالحين هي في الحقيقة نبوءات تخص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وتحمل كل منها جانب من جوانب حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. وهذه النكتة التي سوف نبيّن كيف توصّل من خلالها الخليفة الثاني المُصْلِحُ المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلى أن الخضر المذكور في قصة رحلة موسى عَلَيهِ السَلام كان يرمز إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. ولنأخذ بداية قول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام حول أساس الموضوع:
“أما القرآن الكريم فهو معجزة عظيمة بحد ذاته، وليست فيه الفصاحة والبلاغة المعجزة فقط بل هو زاخر بالنبوءات والمعجزات الأخرى أيضا. والبراهين القوية التي بها يثبت وجود الله لا توجد في التوراة ولا في الإنجيل. والمعارف عن عالم المعاد التي بيّنها القرآن الكريم لا توجد في التوراة ولا في الإنجيل ولا في أي كتاب آخر. والقصص المذكورة في القرآن الكريم ليست قصصاً بحتة بل هي نبوءات جاءت بأسلوب القصص، غير أنه توجد القصص في التوراة حتما، ولكن القرآن الكريم عَدَّ كُلّ قصة نبوءةً للرسول الأكرم ﷺ وللإسلام. وقد تحققت النبوءات الكامنة في هذه القصص أيضا بكل جلاء. فباختصار، إنَّ القرآن الكريم بحر المعارف والحقائق وبحر النبوءات كذلك. ولا يمكن أن يؤمن أحدٌ بالله تعالى إيمانا كاملا بغير واسطة القرآن الكريم، لأن هذه الميزة توجد في القرآن الكريم وحده واتّباعه الكامل يزيل جميع الحجب الحائلة بين الله وعبده. إن أتباع كل دين يذكرون الله كقصة وحكاية ولكن القرآن الكريم يُري وجه ذلك المحبوب الحقيقي ويُدخل نور الإيمان في قلب الإنسان. والإله المستور لا يُرى إلا بواسطة القرآن الكريم وحده.” (الخزائن الروحانية، مجلد 23، ينبوع المعرفة، ص 271-272)
إذن كل قصص القرآن الكريم هي نبوءات حول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم.
فعن موضوع رؤيا شخص موجود في الحقيقة ليعبّر عن شخص آخر لا وجود له بعد أو أي شيء آخر ضمن علم تعبير الرؤى كان قد بيّن الْمَسِيحُ الموعودُ عَلَيهِ السَلام أنَّ من الممكن في الرؤى أن يرى الرائي شخصاً فيكون رمزاً لشخص آخر كالتالي:
“لستم أكثر فراسة وعلماً من النبي ﷺ، اقرأوا صحيح البخاري تجدوا أن النبي ﷺ أُِري صورة عائشة رضي الله عنها على قطعة حرير على أنها ستكون زوجه، ولكنه ﷺ لم يدِّع أبدا أن المراد منها هو عائشة في الحقيقة، بل قال إنه إذا كان المراد من صورة عائشة هو عائشة حقيقةً، فلسوف أنالها، وإلا يمكن أن يكون المراد منها امرأة أخرى. وقال ﷺ أيضا إنه أُعطي عنقودا من عنب الجنة لأبي جهل، ثم ثبت أن مصداق هذه النبوءة هو ابنه عكرمة. فلم يصرح ﷺ شيئا قط بشأن جزء معين من أجزاء نبوءة ما لم يكشف الله عليه جميع جوانبها بوضوح.” (إزالة الأوهام ص 320)
أما عقيدة المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام في الخضر فليست هي العقيدة المتداولة عند الفرق بل يؤمن عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام بأن الخضر ميت ولم يعش أي حياة طويلة فوق العادة:
“بعض الأغبياء يقولون إنَّ مِن عقائد أهل الإسلام أن إلياس والخضر حيّان على الأرض وإدريس في السماء، لكنهم لا يعلمون أن العلماء الباحثين لا يعدّونهم أحياء، لأن في حديث البخاري ومسلم قال النبي ﷺ: “أُقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ.” (المشكاة، رواه مسلم). فالذي يعد الخضر وإلياس حيّين فهو يكذّب قَسَم النبي ﷺ، وإذا حسِبنا إدريس ؑحيّاً في السماء فلا بد من الإيمان بأنه سيموت أيضا في السماء لأن بعثته الثانية إلى الأرض غير ثابتة من النصوص، كما أن وفاته في السماء تنافي {فِيهَا تَمُوتُونَ} الأعراف: 26. منه” (التحفة الغولروية، الحاشية، ص 68-69)
أما قول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام في بعض المواضع أن الخضر فعل كذا وكذا فَهُو تناول ظاهر القصة والفوائد التي تنتج عنها ومثالها فضيلة النبي على الولي في بعض الأحيان، وهي عقيدة ثابتة عند المسلمين حيث يفضل بعض صلحاء هذه الأمة على النبيين السابقين “علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل“، بينما تناول المُصْلِحُ المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ العمق الروحي لهذه القصة وتأويل الكشف الموسوي (راجع المقال) فضلاً عن أنه من باب الإلزام والمحاججة التي كان يتميز به المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام ذاكراً إياه في غير موضع.
إذن لولا المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام وخليفته المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْه لما فهمنا هذه الجوانب النيّرة في تفسير هذه القصة العظيمة. وقد سبق أن بيَّنَ الْمَسِيحُ الموعودُ عَلَيهِ السَلام أنَّ القرآن الكريم يحمل وجوهاً عديدة تنكشف في أوقاتها المعلومة:
“إن القرآن الكريم ذو المعارف، فتحمل معانيه عدة وجوه ولا تناقِض بعضها بعضا. وكما أن القرآن الكريم لم ينـزل مرة واحدة، كذلك إن معارفه أيضا لا تنـزل على القلوب دفعة واحدة. لذا فقد ذهب الباحثون إلى أن النبي ﷺ أيضا لم يُعطَ المعارف دفعة واحدة، بل أكمل ﷺ دائرة التقدم العلمي تدريجا. والحال نفسه بالنسبة إليّ كَوني مظهراً له ﷺ بصورة ظلية. والسر في تقدم النبي ﷺ التدريجي هو أن مدار تقدمه كان القرآن وحده. فلما كان نزول القرآن الكريم تدريجيا كذلك كان تكميل معارف النبي ﷺ أيضا تدريجيا. والحال نفسه بالنسبة إلى المسيح الموعود الذي ظهر فيكم الآن. إن علم الغيب خاص بالله تعالى فنتلقّاه منه بقدر ما يعطينا الله ﷻ. … توجد مئات الأمثلة من هذا القبيل في كلام الله، ولهذا السبب يُسمَّى كلاما معجزا، إذ إن آية واحدة تحمل عشرات الأوجه وتكون كلّها صحيحة.” (نزول المسيح)
وقد عزى المُصْلِحُ المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ التفسير إلى أستاذه الخليفة الأول رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فقال:
“كان أستاذي المكرم حضرة نور الدين رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يرى أن هذه الواقعة كانت كشفاً من كشوف موسى ؑ، وأنها لم تقع بالجسم المادي (حقائق الفرقان، ج 3، وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين). وبعد التدبر في الأمر توصلت إلى أنه رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كان محقا في رأيه هذا.” (التفسير الكبير، سورة الكهف)
“كان أستاذي المكرّم نور الدين رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يرى إن رسول الله ﷺ هو الذي تمثّل لموسى ؑ، وقد تبين لي صواب رأيه بعد التدبر في الأمر، وأيقنت أن سيدنا مُّحَمَّداً ﷺ هو الذي تمثل لموسى ؑ، ومن أجل ذلك تمنى النبي ﷺ قائلاً: ليت موسى سكتَ حتى نزداد علماً بالامور التي تتعلق بمستقبلنا.” (نفس المصدر)
وقد أخذ الخليفة الأول رَضِيَ اللهُ عَنْهُ جلّ علمه من المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام وكان تلميذاً مطيعاً له عَلَيهِ السَلام الذي قال في إحدى المناسبات بأن الخضر كان بالفعل نبياً:
“لقد أُمر موسى والخضر عليهما السلام أن يقيما جداراً لغلامين يتيمينِ لأن أباهما كان صالحا. وقد اهتم الله بصلاحه حتى جعل النبيَّين يخدمانه كأجيرينِ. فهو رحيم وكريم إلى هذا الحد، ولكن إذا تجاسر أحدُ فيبطش به بطشا شديدا. وهو غيور لدرجة تنخلع القلوب نتيجةَ غضبه. انظروا كيف أهلك قرية لوط.” (الملفوظات، مجلد 3)
فقد اعتبر الْمَسِيحُ الموعودُ عَلَيهِ السَلام الخضرَ هنا نبياً فيما اعتبره مجرد ملهم في نص سابق. وهذا الذي يحدّده السياق، فحضرته عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام كان يتحدث عن الخضر أي الرجل الصالح الذي في زمن موسى عَلَيهِ السَلام الذي لم يكن نبياً، ثم تكلّم عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام عن الكشف الذي رأى موسى ؑ فيه الخضر نبياً، وذلك ما وضّحه حضرة المُصْلِحُ المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في التفسير الكبير من أستاذه الخليفة الأول رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وهو أن الخضر في الكشف تأويله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم.
لقد بيّن المُصْلِحُ المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بجمال لا نظير له وفق قاعدة المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام أعلاه كيف تنطبق هذه القصة أي قصة العبد الصالح مع موسى ؑ كيف تنطبق على سيدنا المصطفى مُحَمَّد خاتم النبيين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. وقد دفعَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بهذا الشرح العظيم كل الشبهات التي تثار حول قصة الخضر والتي نلخصها من كلام المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كما يلي:
- لم يثبت لموسى ؑ هذا السفر المادي إلى ذلك المكان في التوراة. فلا يوجد إلا السفر الكشفي.
- لم يسافر موسى ؑ قبل بعثته إلا مرة واحدة وهي لمدين كما ذكرت التوراة والقرآن الكريم أيضا، ولم يكن معه أحد، بينما هذا السفر يذكر أن معه فتاه أي خادمه أو مساعده أو تلميذه. هذا الذي يدل على كون السفر كشفاً وليس سفراً مادياً.
- لا يوجد ذِكْرُ أيضاً لسفر بعد بعثة موسى ؑبحيث ترك بني إسرائيل وفارقهم بهذا السفر. وهذا يعني أن السفر الممكن فقط هو في الكشف.
- ثبت أن بني إسرائيل فسدوا وأشركوا باتخاذ العجل وذلك في فترة أربعين يوماً فقط عندما ذهب موسى ؑ إلى الجبل الذي لا يبعد عن المكان إلا القليل فقط. فلا يوجد ذِكْر لأي فساد آخر خصوصاً مع سفر طويل كالذي في قصة السفر مع الخادم ولقاء العبد الصالح. وهذا كله ممكن تماماً في الكشف.
- عندما ذهب موسى إلى الجبل لوقت قصير استخلف موسى ؑ أخاه هارون ؑ بينما لم يستخلف أحداً في هذا السفر الطويل الذي وصف بالحُقب التي تساوي ثمانين عاماً على أقل تقدير ﴿أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا﴾ -الحُقْبِ هي ثمانون سنة، ويقال: أكثرُ من ذلك. والحُقْب: الدهرُ؛ السنَةُ، وقيل: السنون (معجم الأقرب). الأمر الذي لا ذِكْر له في التوراة ! أما في الكشوف فهو ممكن ومهم.
- سُنَّة الأنبياء ؑهي عدم مفارقة قومهم لزمن طويل بعد بعثتهم، أما المسيح عَلَيهِ السَلام فلم يفارق قومه بل ذهب إلى الجزء الأكبر منهم وترك الأصغر بعد التبليغ وترك الحواريين ذَاهِبًا إلى القوم الأكثر عدداً للتبليغ، بينما سفر موسى ؑ الطويل لم يكن للتبليغ بل للتعرف على شخص ما فقط لأنه أعلم منه ! السفر في الكشف لا يتطلب الانتقال من المكان المادي.
- قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في تفسير الكنز المذكور في الآية: “ما كان الكنزُ إلا عِلماً” (تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا). القول بأن الكنز هو عِلْم يعني بأنه تعبير وليس مادة، كذلك الطعام في القرية والجدار الذي بنياه كله يصبح من هذا القبيل، وهذا غير ممكن إلا في الكشوف. فالواقعة كلها كشف.
- الوقائع نفسها تؤكد عدم مادية القصة، ومثال ذلك خرق العبد الصالح للسفينة كي لا يأخذها الملك غصبا. فهل تعطلت السفينة عندما خرقها ؟ وإذا لم تتعطل لماذا لم يغتصبها الملك ؟ وإذا تعطلت فكيف لم تغرق ؟ أما في الكشف فهذا ممكن تمام الإمكان وفيه جوانب مهمة.
- المعلوم أن الخضر الذي رَآه موسى ؑ في الكشف أو السفر الملقب بالعبد الصالح لم يكن نبياً في الواقع، فكيف يجوز لولي أن يُقدِم على ذبح طفل صغير مهما كان السبب ؟ أما القول بأنه سيكبر ويصبح مجرماً فهو ينافي الشرع الذي يقضي بعقاب الجريمة بعد أن تحدث وليس قبل ذلك، كما أنه يفتح الباب لشرور فضيعة إذ يمكن لكل ولي أن يفعل ما يشاء بحجة أن الله أَخْبَرَهُ بمصير الطفل والدليل حادثة الخضر في القرآن ! أما أن الطفل كان قاتلاً فعلاً كما يقال فهو يخالف القرآن الكريم الذي لم يذكر ذلك ألبتة بل ذكر أن القتل تم لكي لا يُرهق والديه طغيانًا وكفراً، وهذا لا يقوم به إلا الشخص المتمكن المتمتع بالقوة والعقل الناضج وليس الطفل الصغير.
لا يليق بنبي كموسى ؑ أن يلوم رفيقه لأنه بنى جداراً ليستفيد منه أهل القرية فقط لأنهم لم يضيفوهما خاصة وأن هذا الجدار لطفلين يتيمين ويقول له لا تبن الجدار مجاناً دون أن تطلب منهم المال مقابل ذلك ! هذا لا يكون إلا في الكشف - كل هذه الأحداث مجتمعة تؤكد بلا أدنى شك أن الحادثة هي إسراء وكشف روحاني وليس رحلة مادية. فجميع ذلك لا يدفع بنبي كريم ليسافر ويهجر قومه كل هذا الوقت ويبذل كل هذا العناء فقط ليتعلم مثل هذه الأشياء. فهل سافر موسى ؑ مثلاً لكي يتعلم كيف تُخرق السفن، ويُقتل الأطفال، وتُبنى الجدران المهدمة، وهل يجب أخذ الأجر على البناء أم لا ؟ هذا لا يقوم به أقل الناس إيماناً ومعرفة ناهيك أن يقوم به النبي الجليل موسى عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام.
- ذكر الماوردي في تفسير ابن كثير أن العبد الصالح كان ملاكاً ! فهل الملاك يسافر الناس إليه ويقطعون الأميال الطوال أم هو الذي يأتيهم في لمح البصر ؟ وهذا يقطع أن القصة لم تكن مادية بل روحانية.
- يقول النبي ﷺ كما في صحيح البخاري بأنه ﷺ كان يودُّ لو صبر موسى ؑ كي تسرد المزيد من أخبار هذه القصة: “وَدِدْنا أن موسى كان صبَر حتى يقصّ الله علينا مِن خبرهما” (البخاري: كتاب التفسير، باب قوله تعالى وإذ قال موسى لفتاه)، فهل كان النبي ﷺ بالأخذ بظواهر القصة كما يُزعم هل كان يتمنى المزيد من هذه التفاصيل ؟ أي شخص عاقل لن تجذبه هذه الأحداث إذا ما أُخذت على ظاهرها فما بالك بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ! ولكن لأنها رحلة كشفية فقد تمنى النبي ﷺ معرفة المزيد مما تكشفه التعابير في هذه القصة العظيمة.
ولهذا فلا يمكن أن تحدث هذه القصة بجملتها إلا في الكشف.
أما التعبير الصحيح الذي كتبه المُصْلِحُ المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بالتفصيل لهذه القصة فهو يتعلق بأصل التجلي الذي رَآه موسى ؑ في الشجرة المحترقة وفي الجبل عندما أجاب الله تعالى موسى ؑ بأنه لا يمكن أن يراه أي أن الأمر الذي أعدّه الله تعالى للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يفوق قدرة موسى ؑواحتماله ﴿قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾.
لم يكن موسى ؑ بالتأكيد يقصد رؤية الله ﷻ بالعين المادية بل كان يقصد رؤية التجلي الكامل المُعدّ للنبي ﷺ. فأراد الله تعالى أن يُري موسى ؑسمو مكانة النبي ﷺ في الكشف فاختار الخضر الذي كان أحد الصالحين في زمن موسى ؑ ليرمز به إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. أما فتاه يوشع في الكشف فهو رمز لعيسى ؑ، إذ كان سفر موسى ؑ وشريعته ستنتهي عند عيسى ؑ الذي هو في الحقيقة فتى موسى وتابع شريعته. كذلك مجمع البحرين يعني حسب علم تعبير الرؤى للبحر أنه الْمَلِكُ القوي الجليل الذي تهابه الناس، ويعني كذلك التسبيح، حيث ورد عن البحر: “يدلّ في المنام على مَلِكٍ قويٍّ هائل مهابٍ عادلٍ شفيقٍ يحتاج إليه الخلائقُ.” ثم يقول: “وربما دلَّ البحر على التسبيح والتهليل” (تعطير الأنام: كلمة البحر). وهذا يدل على انتهاء شريعة موسى ؑ ببعثة عيسى وصولاً إلى نقطة هي مجمع البحرين أي بداية شريعة وملك جديد هي القرآن الكريم ببعثة المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم.
كذلك في موضوع نسيان الحوت ﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا﴾ يصبح المعنى الواضح أن قوم النبيين موسى وعيسى عليهم السَلام اليهود والنصارى سوف ينسون التعاليم الحقيقية والعبادة الصحيحة التي تتجلى عند مجمع البحرين. وهكذا الطعام الذي يعني في علم الرؤى التعب والنصب وهو الذي سيصيب هذين القومين ويدركوا في النهاية بعد طول الأمد أن لا مصداق لنبوءات التوراة إلا سيدنا مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. والصخرة في الآية تعنى حسب التعبير هي الفسق والفجور الذي سيحدث لقوم النبيَين عند بعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وبالمثل عبارة “العبد الصالح” الذي آتاه اللهُ تعالى منه رحمة وعَلَّمَه من لدنه علما لا ينطبق إلا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الذي قال تعالى عنه ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾ وقال عنه تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ وقال تعالى عنه ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ و ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ و ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾.
قوله تعالى بأن موسى ؑ أجاب العبد الصالح وقال ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾ ومن غير الجائز أن يصبح نبي جليل كموسى عَلَيهِ السَلام كالتلميذ المطيع لمجرد شخص ولي ! هذا لا يتحقق إلا إذا أخذناه بالنظر إلى الحديث الشريف: “لو كان موسى وعيسى حيّين ما وسعهما إلا اتّباعي” (تفسير القرآن العظيم لابن كثير). هنا يصبح الأمر منطقياً جداً وجائزاً فوق أنه حقيقة ثابتة وهي ختم النبوة وسمو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فوق النبيين كافة عليهم السَلام.
وهكذا امتلاك المساكين لسفينة في البحر حسب التعبير هو الفضل والمال الكبير الذي يحوزه الإنسان المتحلّي بالدِّين فيقوم حسب تعاليم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بخرق هذا الْمُلْك أي إلغاء عبادة المال وتكدس الثروات الذي يمتاز به بنو إسرائيل الذين أخذوا معهم حملا كبيرا من الذهب والجواهر من المصريين عند خروجهم مع موسى ؑ. فلا يتمكن الأغنياء أي الملك من اغتصاب أموالهم وتكديسها. فكأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بذلك قد قضى على الأطماع بفرض الزكاة وتوزيعه الميراث بالنسب الثابتة ومنعه الربا وجعله الدنيا خادمة لا مخدومة. وهذا الذي رَآه النبي ﷺ في الإسراء في المرأة العجوز التي كانت رمزاً للدنيا والماء رمزاً للمال الذي لو شربه لغرقت الأمة بالمادة وضعفت روحانيتها وصلتها بالله تبارك وتعالى.
أيضا قتل الغلام كان إشارة إلى اعتراض النصارى أن دين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الإسلام يقتل الشباب بحرمانهم من مُتع الحياة (حرمة الاختلاط والخمور) وأن ذلك ظلم عظيم وإهدار للقوى التي يجب التمتع بها بدل إهدارها وإهلاكها. وهذا بالفعل ما يعترض به على الإسلام اليوم أنه دين رجعي لا يصلح في زمن الحداثة والتطور. كذلك يعني قتل الثورة النفسية التي يرمز لها الغلام في تعبير الرؤى والتحكم بهذه القوى بواسطة كبحها وقتلها للنهوض بالروح والجسد معا.
وكذلك قوله تعالى ﴿فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا﴾ أي استبدال الشريعة الموسوية بالشريعة الكاملة ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾.
كذا طلب موسى ؑ اتخاذ الأجر على بناء الجدار معناه مادية قومه أي اليهود وتمسكهم بالمال في كل شؤون حياتهم. ومعنى الجدار وفق التعبير الرجال الصالحون في الأمتين الموسوية والنصرانية الذي بزوالهم تفشى الفساد فكان الجدار الجديد أي التجديد هو على يد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الذي يعيد الصلاح والتقوى والقرب من الله الواحد الأحد تبارك وتعالى بعد خلو النبيين والصالحين في الأمتين. يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:
“إنَّ مَثَلِي وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ، بَنى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ: هَلاَّ وُضِعَتْ هذِهِ اللَّبِنَةُ، فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ.” (متفق عليه)
إذن كل هذا هو تعبير عن التجلّي العظيم للإسلام بعد الديانتين اليهودية والنصرانية وتحمّل ما لا يُطاق عند الأمتين مع الكشف عن تفاصيل كثيرة مهمة ستجدونها في التفسير الكبير الذي ألّفه المُصْلِحُ المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وفق القواعد التي بيّنها المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام في ينبوع المعرفة وغيره من كنوز المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام التي هي أن كل القصص في القرآن الكريم إنما هي نبوءات حول النبي مُحَمَّد المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وهكذا أثبت المُصْلِحُ المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بقواعد المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام أن كل المواضيع الواردة في سورة الكهف ومنها هذه القصة إنما هي بترتيب محكم لا كما يظن أعداء الإسلام بل والمسلمين أنفسهم أنها بلا ترابط ومناسبة، بل أثبت رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن كل حادث ومثال جاء في محله وبمقتضى الضرورة. ولقد سبق أن بيَّنَ المُصْلِحُ المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الحكمة من ورود هذه الأمثال في قصة أصحاب الكهف مروراً بهذه القصة بل والسورة التالية أيضا.
وللاستزادة حول تفسير قصة العبد الصالح وموسى ؑ يمكن الدخول إلى الرابط للتفسير الكبير: هنا و هنا!
يتضّح مما سبق أن أصول التفسير التي سار عليها الخلفاء رَضِيَ اللهُ عَنْهُم قد رسمها المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام بكل وضوح فاتحاً باب التدبر الحقيقي في القرآن العظيم وفق ضوابط منظّمة.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ