عهد الله تعالى مع إبراهيم عليه السلام كان يتضمن قسمين:

قسم الوعد المادي و هو أولا: تملك الأرض المقدسة < وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ – الأنبياء 106> ..ونجد ذلك في مزامير داوود <الصديقون يرثون الأرض و يسكنونها إلى الأبد> ..و في سفر التكوين: <لآن جميع الأرض التي أنت ترى لك أعطيها و لنسلك إلى الأبد> .. و ثانيا: تكثير النسل .. و قد ورد في سفر التكوين: <لأجعلك أمة عظيمة و أباركك و أعظم إسمك و تكون بركة> ..

– وثانيا القسم الروحاني و هو المتعلق بإستمرار النعم الروحانية في ذرية إبراهيم و أن يجعل الله تعالى النبوة فيها .. قال تعالى : <إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ – البقرة 124> بمعنى أنه قد أستجيب لك يا إبراهيم بشرط أنه سيتحقق هذا الوعد في الصالحين من ذريتك وسينزع من الظالمين ..

و هكذا نرى كيف أن كل الوعود الذي وعد الله بها تعالى إبراهيم قد تحققت في ذريته حيث سكنوا الأرض المقدسة وكثر الله نسله وجعل فيه النبوة.

إلا أن هذا العهد الذي كان ماديا وروحانيا جعل الله له علامتين كذلك مادية وروحانية، فأما العلامة الروحانية فهي الإلتزام بالإيمان بالنبي المبعوث. والعلامة المادية فهي الختان. وسأوضح فيما بعد أهمية هذه العلامة.

ورد في سفر التكوين : <وقال الله لإبراهيم وأما أنت فتحفظ عهدي أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم. هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك : يختن منكم كل ذكر. فتختتنون في لحم غرلتكم، فتكون علامة عهد بيني وبينكم.> و قال : <وأما الذكر الأغلف الذي لا يختن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها إنه قد نكث عهدي>.

لقد إستمر الوعد في ذرية إسحاق وكانت النبوة مستمرة في سلسلته كما أن الأرض كانت تنزع منها كلما كذب نبي مبعوث، و تعود لها بعد الإيمان به. كما أن الختان استمر إلى حين مقدم المسيح عليه السلام و الذي كان إيذانا بحرمان السلسلة الموسوية من النعم الروحانية وإنتقالها إلى سلسلة أخرى. كما ورد في العهد الجديد علي لسان المسيح: <يوشك أن ينزع منكم ملكوت الرب و يعطى أمة تعمل بآثماره>  وهكذا نزع الملكوت الروحاني من بني إسرائيل وكذلك نزع منكم الملكوت المادي حيث أخرجوا من الأرض التي كتبت لهم 40 سنة بعد صلب المسيح. وهكذا لم يكن للعلامة المادية التي هي الختان أدنى قيمة عند الله وإن إستمرت في اليهود إلى اليوم مادامت العلامة الروحانية لا تتحقق فيهم.

و رب سائل يسآل، إذن لماذا لم تستمر النعم الروحانية في أتباع المسيح ما داموا حققوا العلامة الروحانية بإيمانهم بالمسيح عليه السلام؟

لقد كان تدبير الله تعالى أن يكون المسيح إنذارا بإنهاء العهد الإلاهي مع ذرية إسحاق، ومادام المسيح من ذريته فكان لزاما أن تنتهي هذه السلسلة في شخص المسيح وتنتقل لسلسلة إسماعيل. ولعل أهمية علامة الختان تظهر جلية عندما نعلم أن بولس الرسول قد نسخ تعليم الختان وبذلك فقدت هذه العلامة إلى الأبد في أتباع المسيح ليصيروا بذلك غير مستحقين للعهد الإلاهي وليكون دليلا آخر على إنتقال هذه النعم إلى أمة أخرى تعمل بأثمار ملكوت الله فحرم أتباع المسيح أنفسهم من هذه النعم لعدم إلتزامهم بالعهد.

وكان كل ذلك تدبيرا من الله تعالى لكي ينتقل هذا العهد إلى سلسلة إسماعيل إنطلاقا من الرسول ﷺ والذي أحيا فعلا سنة الختان وكانت علامة مادية على إستمرار هذه النعم الروحانية في أمته، لكن بعد مجيء المسيح الموعود وكفر الناس به إستمرت فيهم هذه العلامة المادية لكنها صارت طقسا غير ذا قيمة، لكنها بقيت في أتباع المسيح الموعود عليه السلام ليستمر الوعد في ميراث النعم المادية والروحانية في أتباعه إلى يوم القيامة. وهكذا ترى كيف كان الختان علامة مادية والإيمان علامة روحانية كافيتان لتمييز الأمة التي مازالت تتنعم بالوعد الإلاهي من الأمم التي حُرمت منه.