نظرية المؤامرة التي يقدِّمها المعارضون تقوم على أن المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام كان متآمرا مع صحابته، أو على الأقل مع طبقة منهم، وكانوا يجلسون سويا ويصوغون الأكاذيب لخداع الناس ويوزِّعون الأدوار بينهم! ومنهم من يكتب له وينظم له الأشعار، وغير ذلك من الأعمال الأخرى التي يقومون بها ثم تصدر باسمه.
ومن حسن الحظ أن هذه النظرية الحمقاء قد أسقطها الأصوليون من علماء الإسلام منذ فجره؛ إذ يقول علم مصطلح الحديث أن تواطؤ جماعة على الكذب مستحيل وفقا للعقل والعادة، وهذه قاعدة عقلية محضة. وهذه القاعدة هي الأساس الذي تثبت به السنة النبوية والأحاديث المتواترة، بل هي الأساس الذي يثبت بها صدق القرآن الكريم وعدم تعرُّضه للتحريف أو التبديل. بل إن هذه القاعدة العقلية قد أرغمت العقلاء من أشد خصوم الإسلام، كالمستشرقين الغربيين، على الإقرار بأن القرآن الكريم هو قطعا ذلك الكتاب الذي أملاه النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته وكان متداولا بينهم منذ ذلك الوقت إلى اليوم، رغم عدم إيمانهم بأنه وحي من عند الله تعالى.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه القاعدة العقلية في قوله تعالى:
{ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (العنْكبوت 49)
فمن ضمن معاني هذه الآية هو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ من كتاب ويملي على صحابته ما هو مكتوب مسبقا، كما لم يكن يخطُّ القرآن ويكتبه بيده ويعطيهم نسخة مكتوبة مبيضة بعد تفكر وتدبر! فكان الجميع يشهدون أنه ألقاه شفويا وفقا لادعائه أنه تلقاه وحيًا، ثم كتبوه كما سمعوه، ثم اتفقوا بعد وفاته على أن هذا ما سمعه كلٌّ منا وكتبه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وكنا نردده في قراءتنا للقرآن وصلواتنا دون خلاف. فعمدة هذا الدليل تقوم على استحالة تواطؤ الصحابة على الكذب، وهذا الدليل يلجم المبطلين ويبدد ريبتهم من ناحية عقلية محضة.
وبالطريقة نفسها، فإن حجية الإجماع الذي هو أحد مصادر الشريعة الإسلامية عموما تقوم على هذه القاعدة، بل إن من فروع الإجماع هو الإجماع السكوتي الذي يعني أن عدم اعتراض أحد من الصحابة على أمر ما يدل على اتفاقهم جميعا عليه. ليس بسبب أنهم عدول فحسب، ولكن لأن الافتراء في مسألة كهذه لا بد وأن يلقى اعتراضا أو كشفا من أحد.
فإذا افترض المعارضون أن الجماعة الإسلامية الأحمدية كانت جماعة من الأشرار المزورين المتواطئين على الكذب جدلا، فلماذا لم يختلف هؤلاء فيما بينهم في يوم من الأيام ويكشف أحد منهم جوانب من هذه المؤامرة الخطيرة التي كانوا يديرونها بينهم؟ ولماذا لم يدِّع أحد مجرد ادعاء حدوث أمر كهذا؟
والواقع أن الأحداث في تاريخ الجماعة الإسلامية الأحمدية زادت هذا الدليل قوة، إذ كان هنالك زمان مثالي “لكشف المستور” فيما لو حدث أمر كهذا؛ فقد حدث خلاف خطير بين صحابة المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام على مسألة الخلافة بل وعلى حقيقة مقام المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام. فمع أن جماعة غير المبايعين للخلافة “اللاهورية” قد تجاوزوا كل الحدود في معارضة الخليفة الثاني والإساءة إليه، إلا أنه لم يشككوا في مصداقية الكتب والكتابات ونسبتها للمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام، ولم يذكروا أنه كان يشارك آخرون في كتابة كتب حضرته وأشعاره، أو أن مؤامرات كانت تحاك ولكنهم لم يشاركوا بها يوما، وكانوا يستنكرونها وهم اليوم يريدون التبرؤ منها! فكانت هذه الفتنة، التي تلاشت اليوم ولم يبق لها أثر يُذكر – بل قد تراجع كثير منهم بعد فترة وجيزة ودخلوا في طاعة الخلافة- تحمل في طياتها خيرا لجماعة المؤمنين بعد أن حسبوها شرًا، إذ تقدِّم شهادة دامغة على تحقق هذا الدليل الملجم.
بل وهنالك ما يزيد هذا الدليل قوة أيضا، وهو أن بعض المنافقين قد اتهموا الخلفاء تهما شنيعة للغاية، وبعض المعارضين من الأشرار من عديمي المروءة والحياء من المعارضين اليوم يكررون كلامهم، ولكن هؤلاء الذين كانوا يدعون أنهم يعرفون الحياة السرية للمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام وأفراد أسرته وصحابته لم يقولوا بمسألة المؤامرة والتحريف والتزوير في كتب الجماعة وأدبياتها.
وهكذا نرى أن القول بهذه النظرية يتجاوز حدود عدم المعقولية إلى الحماقة بإقرار العقلاء؛ إذ إن فرضية كهذه ليست مستحيلة عقلا فحسب، بل تدل على أن من يقول بها مضطرب الفكر والشعور غارق في الأوهام والوساوس وسوء الظن المرضي. وهذا يدل تلقائيا على أن القائل بهذه النظرية لا بد وأن يكون في شكٍّ من القرآن الكريم وفي السنة النبوية، أو أنه لا يؤمن بهما أصلا، لأنهما يثبتان باستحالة هذه الفرضية وسقوطها، التي قال بها بعض الحمقى من قبل، وإلا فإن مجرد الاعتقاد بهذه الإمكانية المستحيلة لا بد وأن ينسحب على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.
والخلاصة أن قول هؤلاء المعارضين بهذه النظرية إنما يلزمهم بقبول تبني أعداء الإسلام لها في محاولة التشكيك فيه وفي مصادره. فإن كانوا يرون النبي صلى الله عليه وسلم صادقا والصحابة عدولا فأعداء الإسلام لا يشاطرونهم هذا ويرونهم شرار الناس! فلو كان معارضونا يؤمنون بصدق الإسلام حقا، فماذا سيكون ردهم على أسلافهم وإخوانهم من القائلين بهذه النظرية الحمقاء ذاتها في نقض الإسلام والتشكيك في مصادره؟
الحق أن هؤلاء المعارضين إن أصروا على القول بهذه النظرية سيكونون مضطرين للتنازل عن دينهم وادعائهم للإيمان بالإسلام بعد إقرارهم الضمني ب٠تجردهم من العقل، وإلا فلن يكون دفاعهم – لو كانوا معنيين بالدفاع عن الإسلام أصلا – سوى الأهواء التي لا تغني من العقل والحق شيئا.