في أواخر عام 2013، كانت والدتي على فراش الموت في المستشفى، بعد أن تراجعت صحتها بفعل السرطان، واستدعينا إخوتي الذين كانوا في الخارج ليكونوا من حولها، لأنه بات واضحا أنها كانت تقضي الساعات الأخيرة من حياتها. وصادف حينها أنه كان واجبا أن أسافر للمشاركة في برنامج الحوار المباشر، ولم أكن قد اعتذرت عن عدم الحضور، ولم أبلغ الخليفة نصره الله بأن حال والدتي كانت قد تفاقمت، فعزمت على السفر متوكلا على الله.

أخبرت والدتي أن الوقت حان لأسافر، ولكن إذا لم ترغبي فيمكن أن ألغي سفري. فقالت لي: اذهب وتوكل على الله تعالى.

ودَّعتها في الليلة الأخيرة قبل سفري، وكنت أظن أنني لن أراها بعد ذلك اليوم، وقلت في نفسي لعلَّ الله اختار ألا أشهد وفاتها ودفنها، فربما هذا يكون أهون عليّ. وكان موقفي يظهر عجيبا للبعض، إذ إن إخوتي يأتون من خارج البلاد وأنا أغادر!

كنت على اتصال مع إخوتي حتى آخر لحظة قبل الإقلاع للاطمئنان على والدتي، فأخبروني أن الحال يتفاقم، وأنها أصبحت تفقد الوعي لبعض الوقت ثم تعود.

بمجرد وصولي إلى مطار هيثرو في لندن بدأت الاتصال للاطمئنان، فقيل لي إن حالتها تسوء، ولكنها ما زالت على قيد الحياة. وأدى انشغالي بالاتصال إلى نسيان حقيبتي اليدوية التي أحمل فيها جوازات السفر في عربة الحقائب في المطار، ولم أنتبه لذلك حتى وصلت إلى مقر إقامتي.. وقصة فقدان الحقيبة ثم استرجاعها كانت بحد ذاتها آية أخرى ربما سأذكرها لاحقا..

عندما علم أمير المؤمنين بقدومي رغم حالة أمي المتراجعة، عاتبني، وقال إنه كان من الأفضل أن تبقى إلى جانب والدتك لأنها على فراش الموت، فقلت لحضرته إنني قد استأذنتها، وأحببت أن لا أترك ميدان الجهاد حتى في هذه اللحظات الصعبة. وكان حضرته قد قرر مسبقا أن يرسلني أيضا في تلك الأيام إلى إحدى البلاد الأفريقية مندوبا، ولكنه ألغى الأمر لمعرفته بحال والدتي، فقلت لحضرته إنني مستعد للذهاب أيضا، فقال لي: لا حاجة هذه المرة، وإن شاء الله يكون في مرات لاحقة.

وعندما قابلت حضرته قبيل سفري عائدا إلى الأردن سألني: كيف الوالدة؟

قلت له: “إن حالتها متأخرة جدا”. وكنت أقصد أنها يمكن أن تموت في أي لحظة نظرا إلى الأسباب المنظورة المادية، ثم شعرت فجأة أنني أسأت الأدب مع الله تعالى، فهذه الأسباب لا تُلزم الله تعالى. ثم قلت مستدركا: “ولكن إذا شاء الله أن يحييها، فهذا شيء آخر”.

عندها نظرت إلى أمير المؤمنين وكان ينظر إلي نظرة شعرت أنها غير عادية فيها مسحة من جلال الله تعالى، وكُنَّا صامتين لبرهة، وشعرت أن المشيئة الإلهية قد اقتضت أمرا ما عجيبا. كانت لحظة مميزة للغاية.

قبيل مغادرتي لندن، اتصلت فأخبرني إخوتي أن والدتي ما زالت على قيد الحياة بل وطرأ عليها تحسن طفيف. وأقلعت الطائرة، وكنت مقررا أن أزور والدتي في المستشفى في اليوم التالي، إذ أن الطائرة تصل بعد منتصف الليل.

في الصباح، اتصلت بإخوتي قبل أن أحضر إلى المستشفى، فأخبروني بأن الأطباء قرروا إخراجها من المستشفى، وأنها في طريقها إلى البيت الآن.

وصلت إلى بيتها، وبعد وصولي بلحظات وصلت سيارة الإسعاف، وأحضروا والدتي، ورأيت أنها قد تحسنت قليلا، ثم بعد أن استراحت أخبرت بما حدث معها، وكانت تبكي.
قالت إنها عندما كانت في المستشفى، وتفاقمت حالتها، رأت في اليقظة أن ملاكا يطير في الغرفة، ثم توقف عند سريرها، وشعرت أنه قادم ليقبض روحها، فعندها نطقت بالشهادتين، وبمجرد أن انتهت منهما سمعت صوتا عظيما لمجموعة كبيرة من الناس، بل لعلهم الناس جميعا كما تقول، يصيحون باسمها، ثم بعد ذلك سمعت صوتا يقول: جاء رسول الله!
فنظرَتْ فإذا بحضرته صلى الله عليه وسلم قد جاء، وأشار بكف يده للملَك: أنْ توقف. ثم أمسك بِكُمِّ يدها اليمنى، ولم يمسك بيدها – فداه أبي وأمي- وسحبها إلى الأعلى وكأنها يساعدها على القيام وقال لها:

لقد نَشَلَكِ ابنك تميم.. فهو يحب الله ورسوله!

ثم غاب عنها المشهد، وبدأت تشعر بالتحسن وانحسار الآلام عنها، إلى أن وصلت إلى حالتها التي هي عليها.

كانت تذكر هذه القصة، وهي مستمرة في البكاء، وأخذت توصي إخواني وأخواتي بأن يؤمنوا ويتبعوا ما أنا عليه.

هي كانت قد بايعت قبل سنوات طويلة، وعرفت صدق الجماعة برؤيا حينها، ولكن شاء الله تعالى أن يثبت إيمانها بهذه الآية، وأن تشهد على صدق الجماعة.

كانت تحدث زوارها بهذه الكشف الذي حدث معها، وكانت في كامل قواها العقلية، بل طرأ بعض التحسن على صحتها، فأصبحت قادرة على تناول الطعام مجددا، واستعادت قدرتها على المشي لخطوات قليلة. فغادر إخواني إلى أعمالهم.

استمر بها الحال إلى قرابة أربعين يوما، ثم تفاقمت حالتها في الأيام الثلاثة الأخيرة، وتوفاها الله تعالى بسلام، بعد أن أدت هذه الرسالة، وغادرت الدنيا مؤمنة واثقة مطمئنة.

لا شك أن الله تعالى قد أكرمني بهذه الشهادة من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا فضل إلهي لا يسعني أن أؤدي شكره، وكلما تذكرته فاضت ينابيع المحبة الإلهية في قلبي، ولكن في الحقيقة لم تكن هذه الشهادة لي، بل كانت شهادة عظيمة على صدق دعوى المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام الذي آمنت به إماما مهديا ومسيحا موعودا، بل كانت في الواقع آية إحياء الموتى على يد النبي صلى الله عليه وسلم تصديقا للمسيح الموعود، وآية على صدق الخلافة على منهاج النبوة التي فجَّرت لحظة لقاء معها ينبوع المشيئة الإلهية لإظهار هذه الآية.

لا يمكن عزو هذا الحدث إلى الأوهام أو أضغاث الأحلام، لأن نتيجته كانت واضحة وفورية، وكان تحسن حالة والدتي وامتداد عمرها إلى هذه المدة أمرا يبدو مستحيلا بكل المقاييس، ولكن الله تعالى أراد أن يريني أنا أولا قدرته على إحياء الموتى – رغم إيماني بها، ولكن ليطمئن قلبي- وأن يعلِّمني أن عليَّ الحذر من أن أعود لمثل هذا الظن ولو دون قصد بأن هنالك ما يقيد قدرة الله تعالى أو أن أمرا ما حادث لا محالة. صحيح أن موقفي كان مبنيا على أنني مستسلم لقضاء الله وراضٍ به، ولكن الشيطان قد تسرب من هذه الفكرة أيضا، فأراد الله تعالى أن يرجمه ليخنس مخزيا كما قُدِّر له.

كان عدد من المقربين قد اطلعوا على هذا الحدث، ولكنني لم أكن أرغب – ولا زلت- بالحديث عنه، ولكني ذكرته من باب التحديث بنعمة الله تعالى وتبيانا أننا نحن جماعة المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام نتلقى ما كان يتلقاه المؤمنون، وأننا لم نغترَّ في ديننا، وأنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، وأن الخيبة والخسران لعدونا ومعارضينا الذين يسقطون في حضن الشيطان يوما بعد يوم، ويسومهم الله سوء العذاب بما كذبوا وكفروا.

إن الخوارق والتأييدات الإلهية تصاحبنا باستمرار بفضل الله تعالى، وقصصها كثيرة ومتنوعة، ويشهدها الأحمديون وأقاربهم ومعارفهم باستمرار، بل إنه لا يخلو بيت من الأحمديين من شهادة هذه الخوارق، وهي حديث المجالس بينهم باستمرار، وسببا لتقوية إيمانهم وتثبيتهم بفضل الله تعالى.

About الأستاذ تميم أبو دقة

من مواليد عمَّان، الأردن سنة 1968 بدأ بتعلَّم القرآن الكريم وحفظ بعض سوره وفي تعليمه الديني في سنٍّ مبكرة وبدأ بتعليم القرآن في المساجد في الثانية عشرة من عمره. انضم إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية عام 1987 قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر وكان من أوائل الأحمديين العرب. يعمل في خدمة الجماعة في المكتب العربي المركزي وفي برامج القناة الإسلامية الأحمدية وفي خدمات التربية والتعليم لأفراد الجماعة وفي العديد من الأنشطة المركزية. أوفده الخليفة الخامس نصره الله تعالى ممثلا ومندوبا لحضرته إلى عدد من الدول، وكرَّمه الخليفة نصره الله بلقب “عالِم” في العديد من المناسبات. عضو مؤسس ومعدّ في فريق البرنامج الشهير “الحوار المباشر” الذي انطلق رسميا عام 2006 والذي دافع عن الإسلام ضد الهجمة المسيحية التي انطلقت على بعض القنوات في بداية الألفية وأخمدها، والذي أسهم في تعريف الجماعة الإسلامية الأحمدية إلى العالم العربي، والذي يبث الآن مترجما ترجمة فورية إلى العديد من اللغات. وهذا البرنامج أصبح نموذجا للعديد من البرامج المشابهة في اللغات الأخرى. شارك ويشارك في العديد من البرامج الأخرى وخاصة المباشرة في اللغة العربية وفي بعض البرامج باللغة الإنجليزية. عضو هيئة التحرير لمجلة “ريفيو أوف ريلجنز” الإنجليزية العريقة التي بدأ إصدارها في زمن الإمام المهدي والمسيح الموعود عام 1902م.

View all posts by الأستاذ تميم أبو دقة