يحاول بعض المتنصرين في مسعاهم لمحاربة الإسلام الولوج عبثاً من خلال اللغة. والمثير للدهشة والضحك في آن هو أنهم مع جهلهم الشديد باللغة العربية وأصولها يحاولون التشكيك بلغة القُرآن الكَرِيم، ذلك الكتاب الذي وضع أصول وقواعد اللغة العربية ! ومن بين هذه المحاولات المثيرة للضحك قول بعض المتنصرين أن عبارة «ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ» (سورة البقرة: 3) الواردة في بداية سورة البقرة لا تعني القُرآن بل تقصد بذلك الكتاب أي الإنجيل، وحجتهم هي أن “ذلك” في المعاجم تقال للبعيد، فالكتاب المقصود هو الإنجيل وليس القُرآن لأنه قريب ينبغي أن يقال عنه “هذا” التي تخص القريب لا “ذلك” التي هي للبعيد فقط !
● للرد على هذا الجهل اللغوي نبيّنُ بداية أن كلمة “ذلك” تستخدم للبعيد وللقريب أيضا. جاء في المعجم:
“ذلك: اسم إشارة للبعيد، أحيانا يستعمل للقريب بمعنى: هذا.” (تاج العروس)
وفي معجم آخر:
“ويمكن استعماله للقريب مع دلالته على البعيد.. إذ إن الإشارة إلى القريب بالبعيد إنما يراد منه البعد المعنوي دلالة على علو المرتبة.” (فتح البيان)
فالمعاجم اللغوية لا تقول أن “ذلك” تستخدم فقط للبعيد، بل للقريب أيضا!
● عندما تقترن “ذلك” بالشيء القريب فلا تشير إلى البُعد المكاني ولا الزماني بل إلى بُعد المنزلة والقدر تعظيماً للشيء المذكور، مثال ذلك قول زوجة العزيز للنسوة اللاتي جمعتهن لرؤية يوسف ؑ: ﴿قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾ (يوسف: 33)، والمقصود بـ ذلك هنا هو يوسف ؑ الذي كان قريباً لهن يقف أمامهن حاضراً بينهن، ولكنها استخدمت “ذلك” بقصد التعظيم وعلو الشأن !
إن السياق البلاغي هو الذي يحدد معنى الألفاظ، فعلى سبيل المثال وردت “هذا” عن القُرآن الكَرِيم في عدد من المواضع وذلك لأنها تتحدث عن الهداية أو الإنذار الذي يقتضي القرُب وما شابه ذلك، ومثاله قوله تعالى: ﴿إنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ (الإسراء: 10)، وقوله تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ﴾ (الأنعام: 20)، بينما جائت “ذلك” في مواضع مثل قوله تعالى:
﴿لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ﴾ (البقرة: 69)
وذلك قُصد بها ما بين الفارض والبكر قريبا الذكر!
وقوله تعالى في بداية سورة الحجر:
﴿الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ﴾
فـ تلك الآيات هنا هي الكلمة “الر” الواردة في نفس الآية !
وقول يوسف عَلَيهِ السَلام:
﴿ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾
و “ذلك” هنا هي تفسير يوسف ؑ الذي ذكره قبل ذلك مباشرة لرؤيا صاحبي السجن!
وتقول العرب عموماً عن الشيء القريب والبعيد المفروغ من صحته: “ذلك مما لا شك فيه” أو “لا شك في ذلك” حتى لو كان الشيء المقصود قريبا.
الحقيقة أن هذا التعبير مستخدم أيضا وبكثرة في اللغات الأخرى، ولنأخذ مثالاً من الإنكليزية وهو عبارة: “Having said that” أو “That being said” التي تعني “والحق يقال/ما دمنا ذكرنا ذلك”، فيكون المثال المستخدم بصورة طبيعية كالتالي:
“John failed all his A levels. But having said that he is highly literate in matters of IT and has found a well paid job immediately.”
فقد استخدمت “ذلك That” لتشير إلى القريب أي الجملة التي سبقت ذلك مباشرة !
إذن القصد في قوله تعالى: ﴿ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛفِيهِ﴾ (البقرة: 3) هو التعظيم والبُعد عن الريب، أي أن القُرآن الكَرِيم كتابٌ عظيم الشأن بعيد المنال عن كل ريب !
● الأمر الآخر المهم في تحديد المعنى هو الترتيب والترابط في المواضيع والسور، فقد ورد في بداية سورة البقرة:
﴿ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾
كذلك جاء في بداية سورة آلِ عِمْرَانَ:
﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾
فـ ذلك الكتاب المنزل من عند الله تعالى إلى سيدنا مُحَمَّدٍ ﷺ بالحق ليس التوراة ولا الإنجيل.
ثم في بداية الأعراف:
﴿كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾
وفي بداية السجدة:
﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
ولننتبه إلى “نزل [عليك] و [إليك] الكتاب” وكذلك “لا ريب فيه” ! فماذا يوجد أكثر من أن الكتاب الذي يذكر في أوائل السور قد نزل على النبي ﷺ وله هو كما نزلت التوراة والإنجيل من قبل وأنه لا ريب فيه لكي يقتنع المُنصِّرون أن الكتاب المقصود هو القُرآن الكَرِيم ! لله في خلقه شؤون
● بعد ذلك يأتي السياق ليقرر ويقطع بما المقصود من “الكتاب”، وهذا نجده في سياق الآيات التي بدآت بأن ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ثم يتحدث بعد ذلك عن وجوب الإيمان به ثم حال المنافقين الذين يبطنون الكفر ويعلنون الإيمان ليخدعوا الله تعالى والمؤمنين وما يخدعون إلا أنفسهم في الحقيقة، ثم يأتي السياق بعد بضع آيات في قوله تعالى:
﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
أي إذا كُنتُم ترتابون في ما أنزلناه على عبدنا من كتاب فأتوا بسورة مثله ولو اجتمعتم لذلك !
فالسؤال -للفطاحلة- من المتنصرين:
هل المقصود الآن بالكتاب هو التوراة والإنجيل؟ وهل يسمى الجزء أو الفصل في التوراة والإنجيل سورة أم سِفراً أو إصحاحاً؟
● كما أن المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وجد معنى عظيماً لظاهر النص أي “ذلك” للبعيد كما يلي:
“هناك معنى آخر لهذه الآية غير ما سبق، وأيضاً يساير السياق مسايرة تامة.. وهو أن سورة البقرة مسبوقة بسورة الفاتحة.. التي تعلمنا منها دعاء يقول: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾. وقد أجيب هذا الدعاء لهذه الآية حيث قال الله عزَّ وجلّ: ﴿ذَٰلِكَ الْكِتَابُ﴾، أي أن الهداية التي طلبتموها في الفاتحة هي في هذا الكتاب أي القرآن. وبهذا يبقى ﴿ذَٰلِكَ﴾ بمعناه الحقيقي، أي إشارة إلى البعيد … ولا شك أن هذا المعنى في غاية الروعة والدقة، وتتضح به العلاقة بين سورة الفاتحة وسورة البقرة، ويتبين أن ترتيب سورة البقرة بعد الفاتحة ليس مصادفة، بل إن سورة البقرة تقع موقع الجواب للفاتحة. وبذلك أيضاً لا نضطر إلى ترك المعنى المعروف بكلمة (ذَٰلِكَ).” (التفسير الكبير، سورة البقرة)
للمزيد من التفصيل حول هذا الموضوع يمكن قراءة التفسير من هنا.
لقد أثبتنا أن المعاجم اللغوية لا تقصر معنى “ذلك” للبعيد فقط بل تؤكد أنها تستخدم أيضا للقريب، وقد قدَّمَ المُصْلِحُ المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ معنيين لعبارة “ذلك”، فكان الأول الذي هو المعنى الثابت للآية أن “ذلك” تعني التعظيم ودفع الريب بعيداً عن القُرآن الكَرِيم، والمعنى الآخر هو ظاهر الكلمة “ذلك” بأنها جواب سورة الفاتحة التي سبقتها، وكلا المعنيين صحيح بنفس الوقت. كما أن سياق الآيات يقطع بأن الكتاب هو القُرآن الكَرِيم كما في الآية حول تحدي المرتابين للإتيان بسورة من مثله ولو اجتمعوا له، ثم ترتيب وترابط السور التي تتحدث في مستهل كل منها حول تنزيل الكتاب الذي لا ريب فيه. وبناء على ذلك كله لم يبق ثمة مجال لشبهة المتنصرين التي تبيّن بوضوح مدى الجهل الذي أدى بهم إلى ترك التوحيد لله تبارك وتعالى إلى عبادة الميت. نسأل الله تعالى العافية! اللّهُمّ آمين
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ