هذا مقال مفيد جدا كتبه الحافظ مظفر أحمد، وهو مدرس في الجامعة الأحمدية في ربوة، وعنوانه:
عقوبة الزنا في الإسلام
الإسلام دين يدعو إلى إنشاء مجتمع طاهر، يسوده الأمن، يقوم على أسس الحب والإخلاص والإيثار، ويضمن للجميع بدون استثناء حفظ حقوقهم. قال الله تعالى:
(والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) (سورة الحشر: 10)
ولأجل ذلك يأمر الإسلام بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي التي تضر المجتمع أضرارا فادحة، قال الله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون) (سورة النحل: 91)
والحكمة الأساسية للعقوبات في الإسلام إنما هي ألا يسمح لأحد بإتلاف حقوق أي فرد من المجتمع، وأن يتربى أفراده على الحب والألفة بدلا من الكراهية والبغض والنفور، وأن تغمر القلوبَ السكينةُ والطمأنينةُ بدلاً من الذعر والقلق والاضطراب. فلذا لم يحدد الإسلام أي عقوبة على مجرد ارتكاب الزنا، بل على إشاعته وترويجه في المجتمع علانية. فلأجل ذلك عندما يكون الزنا من قبيل العمل الفردي الخفي، ولم يعترف به الزاني، ولم يتيسر شهود عيان أربعة، فليس في الشريعة الإسلامية أية عقوبة محددة على ذلك، بل يفوض أمره إلى الله عز وجل. ولكن لو تم الزنا علنا بحيث يشهد عليه أربعة شهود عيان عدل، فعقوبته مائة جلدة. ونفس الجريمة عندما يتفاقم أمرها ويستفحل، أي يكون المجرم، بالإضافة إلى ارتكاب الزنا، قد قام بإشاعته وتشهيره أيضا أو ارتكبه جبرا فجزاؤه الرجم، لأن مثل هذه الجريمة الاجتماعية تلحق بالحياة القومية أضرارا فادحة بل تدمرها. إذ إن الزنا وإشاعته وترويجه في أي مجتمع يسبب في أول الأمر كثرة الفحشاء فيه، ثم يتحمل المجتمع عواقبه الوخيمة والمروعة، في صورة قتل الأولاد، وقطع النسل، وإصابة أفراده بأمراض جنسية فتاكة، ذلك بالإضافة إلى أن هذا المرض المعدي يؤدي إلى تعرضه للمشاكل المعقدة التي لا تقبل الحل من جراء الولادات غير الشرعية والأولاد بدون الورثاء. ثم إن هذه الجريمة الاجتماعية تورث الحياة القومية الحرص والهوى وفقدان الثقة وانعدام الطمأنينة والاضطراب والارتباك وغيرها من الأضرار الجسيمة. كما يفقد المجتمع السكينة والحب المتبادل في الحياة العائلية، وتتلاشى القيم وتنحل عرى الأواصر القائمة على أساس القرابات وصلة الرحم. فلذلك كله قد نهى الإسلام بشدة عن الزنا كقوله تعالى: (لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا) (الإسراء: 33)
ويقول المسيح الموعود عليه السلام في تفسير هذه الآية ما تعربيه:
“(لا تقربوا الزنا) أي ابتعدوا عن المواقف التي تدفعكم حتى إلى التفكير في الزنا. فلا تسلكوا طرقًا فيها خطر الوقوع في هذه المعصية. ومن زنى فقد بلغ ذروة الإثم. إن سبيل الزنا سيئ جدا، إنه يمنع من الوصول إلى الغاية المقصودة، ويشكّل خطرًا شديدًا على هدفكم النهائي”.
(فلسفة أصول الإسلام ص28، الخزائن الروحانية ج10، ص 342)
لقد اتضح من ذلك أن الإسلام يمنع من مسببات الزنا أيضا، ونظرا لهذه الحكمة قد وردت تعاليم مفصلة في مكان آخر من سورة النور التي وردت فيها عقوبة الجلد لمرتكب الزنا. يقول الله تعالى: ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون. وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلى ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن…. الخ) (سورة النور: 31-32)
ويقول المسيح الموعود عليه السلام في تفسير هذه الآيات:
“فبما أن الله تعالى يريد أن تبقى عيوننا وقلوبنا وخواطرنا كلها طاهرة، فلذا جاء بهذا التعليم السامي. فأي شك في أن الحرية المطلقة تؤدي إلى العثار. فعلى سبيل المثال، لو وضعنا أرغفة طرية أمام كلب جائع، وظننا أنه لن يفكر في هذه الأرغفة مجرد تفكير فلا شك أننا مخطئون في هذا الظن. فقد أراد الله تعالى ألا تتاح أية فرصة للقوى النفسانية حتى ولا لممارسة نشاطات خفية أيضا. وألا يتعرض الإنسان لموقف يهيّج الخواطر السيئة”. (فلسفة أصول الإسلام ص29-30)
تبين هذه الآيات كيف أن الإسلام قبل مرحلة العقوبة يهتم بسد الطرق المؤدية إلى الزنا بالوعظ والنصيحة، وبعد مراحل الإرشاد والتوعية يقوم بتنفيذ العقوبات، في حين إنه لا يوجد في الأديان الأخرى أي تعليم كهذا في خصوص الوقاية من مسببات الزنا، عدا ما نجده من عقوبة رجم الزاني لدى اليهود، مما يشير إلى مدى انتشار هذه الفاحشة في ذلك الزمن بحيث إن مثل هذه العقوبة القاسية قد وردت في التوراة منعًا لهذه الفاحشة.
حكم الرجم في التوراة
وتذكر لنا كتب الحديث أن حكم الرجم كان موجودا في التوراة زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى الرغم من التحريفات الحاصلة في التوراة فإن هذا الحكم لا يزال موجودا في تراجمها المتوفرة حاليا، فقد ورد فيها:
“إذا وُجد رجل مضطجعا مع امرأةٍ زوجةِ بعلٍ يُقتل الاثنان، الرجل المضطجع مع المرأة والمرأة. فتنـزع الشر من بني إسرائيل. إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل، فوجدها رجل في المدينة، واضطجع معها، فأخرجوهما إلى باب تلك المدينة، وارجموهما بالحجارة حتى يموتا، الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة، والرجل من أجل أنه أذلَّ امرأةَ صاحبِه”. (سفر التثنية، الإصحاح22، الفقرات 22-24)
وهذه هي فقرة الرجم التي تذكر أن عقوبة الزاني المحصن (المتزوج) هي القتل. ولكن اليهود من جراء النقائص الأخلاقية فيهم لم يتمكنوا من الاستمرار في تنفيذ هذا الحكم. ففي زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كان اليهود الساكنون في ضواحي المدينة المنورة قد أحدثوا عقوبة من عند أنفسهم بدلا من رجم الزاني، وكانت هذه العقوبة عبارة عن تسويد وجه الزاني وإركابه الحمار معكوسا والتجول به في الطرقات. (البخاري، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب الرجم في البلاد)
في أواخر السنة الرابعة للهجرة جاء اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضية زنا بين رجل وامرأة من اليهود. فسألهم الرسول صلى الله عليه وسلم: “ماذا تجدون في كتابكم في هذا الشأن؟ فذكروا لـه ما ابتدعوه. فقال عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وكان من علماء اليهود وأسلم: لا، بل فيه الرجم. فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإحضار التوراة، فأتوا بها. فسألهم أن يقرؤوا عليه. فوضع أحدهم يده على آية الرجم، وقرأ ما قبلها وما بعدها. فاعترض عليهم عبد الله بن سلام. وقرأ بنفسه آية الرجم على الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: “اللهم إني أول من أحيا ما أماتوه من كتابك”. (المرجع السابق، وسنن أبي داود، كتاب الحدود)
آية الرجم
إن فقرة الرجم المذكورة في هذه الواقعة هي نفس الفقرة الواردة في التثنية من العهد القديم (التوراة)، والتي قرئت على الرسول صلى الله عليه وسلم مترجمة من العبرية إلى العربية، إذ كان اليهود يترجمون ويفسرون التوراة للمسلمين من اللغة العبرية إلى العربية. (البخاري، كتاب التفسير سورة البقرة الآية: قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه)
ويبدو أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أو أحد أحبار اليهود استخدم أثناء ترجمته لآية الرجم في هذه الواقعة، كلمة (الشيخ والشيخة)، تعبيرا عن الرجل المتزوج والمرأة المتزوجة، وجاء بمدلول العبارة في صورة الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها، أي: إذا زنى الرجل المسن والمرأة المسنة فارجموهما. وبما أن هذا الحكم كان قد قرئ على الصحابة واليهود في مجلس عام، واستخدمت كلمة (آية الرجم) للتعبير عن هذا الحكم، فلذا تداولت هذه الكلمة في المسلمين وراجت بكثرة حتى إن البعض ظنها حُكما من الأحكام القرآنية.
أما قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “اللهم إني أول من أحيا ما أماتوه من كتابك” فلم يكن قولا بدون داع، بل له خلفية تاريخية هامة. وذلك أن المدينة حين قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم إليها، كانت بؤرة للمفاسد الأخلاقية، وكان عبد الله بن أبيّ بن سلول ومن كان على شاكلته من المفسدين قد أنشأوا مراكز ودورا مفتوحة للدعارة، وكانوا يستخدمون فيها إماءهم.
(مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للحافظ نور الدين الهيثمي, الجزء السابع كتاب التفسير سورة النور- الآية: لا تكرهوا فتياتكم على البغاء. ص82-83، الناشر مكتبة القدس القاهرة 1353هـ)
وهكذا اتخذ العديد من النسوة الزنا مهنة ومكسبا. ويذكر لنا التاريخ في هذا الصدد اسم بغي شهيرة تدعى (أم مهزول). (تفسير الطبري سورة النور، الآية: الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك)
وبالإضافة إلى ذلك فإن حديث عائشة رضي الله عنها الوارد في البخاري أيضا يلقي الضوء الكافي على الأحوال الاجتماعية المنحطة للعرب في ذلك الزمن، فتذكر عائشة رضي الله عنها فيه أربع طرق للنكاح وكانت شائعة في العرب، وكانت إحداها فقط هي الطريقة المباحة للنكاح في الإسلام، أي أن يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها. أما الطرق الثلاث الأخرى فكانت كلها زنا.
(البخاري، كتاب النكاح باب من قال لا نكاح إلا بولي)
ونفس الشيء يذكره العلامة القرطبي، أي أنه وقت مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم كانت جريمة الزنا شائعة في نساء العرب لدرجة أن الإماء البغايا والمومسات كن ينصبن رايات على أبوابهن كعلامة لهن.
(تفسير الطبري وتفسير الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، سورة النور الآية: الزانية والزاني..)
ولعل ذلك الذي دفع العرب لوأد بناتهم غيرة أن يقعن في هذا العار. على كل حال، فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد وطد عزمه على إصلاح هذا المجتمع الفاسد بوصفه حاكما لدولة المدينة المنورة، وقال: اللهم إني أول من أحيا…..
تدبير الحفاظ الذاتي عن طريق الحجاب
وبعد حادث رجم اليهوديين هذا نزل القرآن المجيد بحكم الحجاب لتتقي النساء المؤمنات الشريفات من التأثير السيئ لهذا المجتمع الفاسد، إذ إن معاكسة النساء وإحراجهن علنا كان شغله الشاغل، ولم تكن المسلمات الشريفات أيضا في مأمن من هذه الأضرار. وفي ظل هذه الظروف نزل حكم الحجاب كتدبير للحفاظ الذاتي بقول الله تعالى:
(يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (سورة الأحزاب: 60)
هذا الحكم نزل بعد زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها مباشرة، وذلك في شعبان من السنة الخامسة الهجرية. ومن المتفق عليه أنه بعد ذلك ببضعة أشهر فقط نزلت سورة النور التي ذكر فيها واقعة الإفك وحكم الجلد (مائة جلدة) كعقوبة الزنا وإشاعته وترويجه. وفي الآيات التالية لآية الحجاب قد حذر الله تعالى المنافقين بأنهم إن لم ينتهوا عن الزنا وترويجه وتشهيره فليعاقبن بالقتل أيضا، فيقول الله تعالى:
(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاّ قَلِيلًا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) (سورة الأحزاب: 61-63)
ورغم أن كلمة الزنا لم ترد في هذه الآيات صراحة إلا أن المفسرين قد ذهبوا إلى أن المراد بها هو جريمة الزنا وإشاعته، يقول عكرمة وعطاء في قوله تعالى (في قلوبهم مرض): إن المراد به إشاعة الفاحشة وترويجها، وقال عكرمة: إنه مرض الزنا.
(تفسير الطبري، وتفسير فتح القدير للحافظ محمد بن علي الشوكاني، سورة الأحزاب في الآية: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)
وأما (المرجفون في المدينة) فهم الذين يشيعون الفاحشة فيها، والملعونين هم أولئك الزناة الذين كانوا يروجون الزنا والفاحشة فيها.
ومما لا شك فيه أن المراد من كلمة (قُتِّلوا) هو القتل أصلا، إلا أنها تعبر عن المبالغة في القتل لكونها من باب التفعيل، ومن هنا يمكن أن يعتبر الرجم ضربا من ضروب التقتيل. ولا حرج في توسيع نطاق معنى القتل فيراد به سائر طرق وصور الإعدام حسب ما تقتضيه الظروف والأحوال. وليس من شك أن عقوبة الرجم كانت رائجة في القوم وفي العرب أيضا، وربما كانت الحكمة وراءها ألا يقع دم المجرم على فرد واحد، إذ لم يكن هناك في النظام القبلي في تلك الأيام أية هيئة مقتدرة لتنفيذ العقوبات. بل من المحتمل أن يكون حكم الرجم في التوراة أيضا لنفس السبب.
على كل حال، فإن تنفيذ هذه العقوبة في زمننا بأي شكل آخر غير الرجم لا يعد مخالفة للمشيئة الإلهية، خاصة وقد استدل المسيح الموعود عليه السلام من هذه الآيات أن القتل نفسه هو العقوبة للزنا هنا، ولم يعن حضرته بكلمة (قتِّلوا) الرجم، بل القتل نفسه. فيقول حضرته عليه السلام ما تعريبه:
“إنه بناء على ما ورد في الكتاب المقدس لليهود والكتاب الكريم للمسلمين قد صار من العقائد المتفق عليها أن من يطلق عليه لفظ (الملعون) في كتب الله تعالى يعتبر دائما وأبدا محروما وغير محظوظ من رحمة الله عز وجل، كما تشير إليه الآية التالية: (ملعونين أينما ثقفوا أُخذوا وقتلوا تقتيلا) أي أن من يزنون في المدينة ويروجون الزنى فيها فهم ملعونون، بمعنى أنهم محرومون ومحجوبون من رحمة الله إلى الأبد، لذلك يجدر بهم بأن يقتلوا أينما وُجدوا. ففي الآية إشارة عجيبة أن الملعون يبقى محروما من رحمة الله إلى الأبد، وأنه خُلِق خلقة بحيث إن ثورة الكذب والفحشاء تغلبه دائما وأبدا، ولذلك أمر بقتله. لأن المصاب بمرض معدٍ والذي لا يجديه دواء فالخير في موته. وهذا ما ورد في التوراة أي أن الملعون يُهلك”. (ترياق القلوب ص 109-110، الخزائن الروحانية ج 15، ص 237-238)
وفي هذه العبارة أمران جديران بالانتباه، أولهما أن عقوبة القتل هذه خاصة بالزناة والذين يشيعون الزنا ويروجونه، وثانيهما أن هذه العقوبة تنفذ عندما يكون مرض الزنا معديا وغير قابل للعلاج، وبما أن مثل هذا المجرم المتعود لا يرجى إصلاحه، فلذا أمر بهذه العقوبة.
ثم إن الآية الأخيرة المذكورة آنفا من سورة الأحزاب جديرة بالانتباه. لقد أمر الله تعالى فيها المسلمين باتباع سنة الله الجارية في الذين من قبلهم، والمراد من سنة الله هنا في ضوء سياق الكلام هو الحكم بالقتل أو الرجم الذي وضع في شرع اليهود في زمن تفشي الزنا فيهم بكثرة.
آية الرجم ليست آية قرآنية
يبدو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ على الناس آية الرجم التوراتية في عدة مناسبات تفسيرا لهذه الآية من سورة الأحزاب المذكورة آنفا، وموضحا سنة الله الجارية في الذين من قبل، الأمر الذي جعل البعض يظنون أن الآية آية قرآنية، خاصة وقد نزلت هذه الآيات بعد حادث رجم اليهوديين ببضعة أشهر. وقد ورد ذكر قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم آية الرجم على الناس في رواية زيد بن ثابت رضي الله عنه، يقول: “سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة”. (المستدرك للحاكم، ج 4 ص 360)
غير أن زيد بن ثابت رضي الله عنه وهو أحد كُتّاب الوحي أيضا لم يعدها قط آية قرآنية. ومما يؤيد رأينا أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ آية الرجم تفسيرا لآية قرآنية، ما رواه عمر رضي الله عنه وهو: “لولا أن يقول قائلون: زاد عمر في كتاب الله عز وجل ما ليس منه لكتبته في ناحية من المصحف”. (مسند الإمام أحمد بن حنبل، ج 1 ص 223)
أي في الهامش وليس في الأصل. وأيضا ما روي عن شعبة، قال:”كان عمرو بن العاص وزيد بن ثابت يكتبان المصاحف، فمرا على هذه الآية، فقال زيد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، فقال عمرو: لما نزلت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت اكتبها، فكأنه كره ذلك”. (المستدرك للحاكم، كتاب الحدود، الجزء الرابع ص 360)
ويبدو أن ذلك كان في فترة كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينهى فيها عن كتابة الحديث منعا لاختلاطه بالقرآن الكريم. ونظرا لهذه الحكمة لم يرد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكتب لـه آية الرجم التوراتية هذه. وإن عمر رضي الله عنه أيضا كان بناء على اعتقاده بأن آية الرجم من القرآن الكريم سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكتب له هذه الآية, ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: لا أستطيع ذلك.
(كنـز العمال في سنن الأقوال والأفعال للعلامة علاء الدين على المتقي بن حسام الدين، رقم الحديث 13519 طبعة 1971 مكتبة التراث الإسلامي حلب)
يبدو أن ذلك كان بعد نزول آية الجلد في سورة النور، لأن آية الجلد تشمل عقوبة الزناة عامة, فلم يرد الرسول صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذا الحكم كتابة حكم الرجم، ذلك لأن حكم الجلد جعل الرجم مقيدا وخاصا بظروف وشروط معينة ولم يعد الرجم عقوبة عامة للزنا، وإنما حل الجلد (مائة جلدة) محله.
ما هو المراد من أحاديث آية الرجم
ولا بد هنا من توضيح الروايات القائلة بأن آية الرجم أي (الشيخ والشيخة إذا….)، آية من سورة الأحزاب نسخت كتابتها وتلاوتها وبقي حكمها.
فأما فيما يتعلق بالنسخ في القرآن الكريم فليس في القرآن أي حكم منسوخ، وأما قول بعض الفقهاء بأن هناك آيات بقيت تلاوة ونُسخت حكما فهو قول مخالف للعقل والبرهان وحرمة القرآن الكريم مخالفة صريحة، إذ الاعتقاد بوجود النسخ في القرآن الكريم يؤدي إلى عدم الثقة به وعدم الاعتماد عليه، مع أن عظمة القرآن إنما هي في كونه صرحا مشيدا على أسس اليقين، والله الحفيظ بنفسه وعد وتولى حفظه. فكيف يحق لنا بعد ذلك أن نقبل في أحكامه وآياته، رأى بعض العلماء والفقهاء الذي لا يسانده إلا قياساتهم المريبة والمبهمة. فلا شك أنه اعتقاد خاطئ مضل بيِّن التضليل، ولا يمت إلى الإسلام بصلة.
هذا، ومن الروايات القائلة بكون (آية الرجم) آية قرآنية منسوخة التلاوة ما رواه الحاكم عن عاصم عن زر قال لي أبي بن كعب وكان يقرأ سورة الأحزاب، قال: قلت ثلاثا وسبعين آية قال: قط. قلت: قط؟ قال: لقد رأيتها وإنها لتعدل البقرة، ولقد قرأنا فيما قرأنا فيها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم.(المستدرك للحاكم كتاب الحدود المجلد4 ص 359)
والمراد من هذه الرواية لدى القائلين بالنسخ أن سورة الأحزاب التي تحتوي على 73 آية، كانت في البداية بحجم سورة البقرة أي 287 آية. فنسخت تلاوة الآيات الأخرى من سورة الأحزاب بما فيها آية الرجم أيضا.
ولكن الاستدلال على وجود النسخ في القرآن من هذه الرواية لا يصح بأية صورة مطلقا، خصوصا ونحن نستطيع حل هذه الرواية حلا جيدا، وذلك أن هؤلاء لم يفهموا قول أبيّ بن كعب (كنت رأيت سورة الأحزاب وهي لتعدل البقرة)، فهمًا سليما، إنما المراد من قوله هذا أن الأحزاب قديمة النـزول والبقرة طويلة النـزول، فقد امتد زمن نـزولها من السنة الثانية الهجرية إلى التاسعة. فيقول أبيّ بن كعب رضي الله عنه أنه لما كان نـزل من البقرة ما يساوي حجم الأحزاب (أي 73 آية) كانت الأحزاب قد اكتمل نـزولها. أما قوله: كنا نقرأ آية الرجم في الأحزاب فمعناه أن الآيات من 61 إلى 63 من الأحزاب كانت أسبق نـزولا أيضا من آية الجلد في سورة النور، وإن المسلمين قبل حكم الجلد كانوا يقرأون (آية الرجم التوراتية) كتفسير للآية (سنة الله في الذين خلوا من قبل….) من سورة الأحزاب، وكان نفس الحكم أي حكم الرجم رائجا رواجا عاما. ثم نـزل بعد ذلك حكم الجلد كقاعدة للزناة عامة، وبقي حكم الرجم خاصا بمن يتعودون على ارتكاب الزنا ويشيعونه ويروجونه.
والرواية الأخرى تقول إن عمر رضي الله عنه قال: إِيَّاكُمْ أَنْ تَهْلِكُوا عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ لَا نَجِدُ حَدَّيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَمْنَا. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: زَادَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَكَتَبْتُهَا (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ). (الموطأ للإمام مالك، كتاب الحدود، باب ما جاء في الرجم)
وقد سبق أن أوضحنا أن قول عمر رضي الله عنه إنما يعني أنه كان يريد كتابة آية الرجم التوراتية في هامش القرآن الكريم كتفسير لسنة الله المذكورة في قوله تعالى من سورة الأحزاب: (سنة الله في الذين خلوا من قبل)، وهذا هو الأقرب للقياس والعقل، لأنه رضي الله عنه لم يكن يعتبرها آية من القرآن الكريم، وعدم كتابة هذه الآية أيضا يؤيد رأينا.
أما فيما يتعلق بورود حدَّي الزنا في كتاب الله تعالى، فبعد ثبوت حكم الرجم من آيات سورة الأحزاب لم يبق أي تعارض بين هذه الرواية والقرآن الكريم، لأن وجود حدين مستقلين لحالتين مختلفتين للزنا ثابت من القرآن الكريم.
أما هذه الآية المزعومة التي يعدّونها من القرآن الكريم فإن اختلاف كلمات الروايات المتعددة الواردة في شأنها نفسَه يدل على أنها ليست آية قرآنية، بل هي ترجمة عربية لآية الرجم الواردة في التوراة من اللغة العبرية؛ حيث تقول إحدى الروايات: “الشيخ والشيخة فارجموهما البتة”. (الموطأ للإمام مالك، كتاب الحدود، باب ما جاء في الرجم).
بينما تقول الأخرى: “الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، نكالاً من الله”.
وتقول الثالثة: “الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة” (المستدرك للحاكم، كتاب الحدود صفحة 359).
إذن فلا يمكن أن تكون هذه الكلمات المتضاربة وحيًا قرآنيًا.
الحكم بمائة جلدة
أما حكم الجلد الذي ورد في سورة النور والذي نزل بعد نزول عقوبة الزنا وإشاعته في سورة الأحزاب فهو قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بها رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، وليشهد عذابَهما طائفة من المؤمنين) (سورة النور: 3)
ولقد اختلف العلماء كثيرًا فيما إذا كان حكم هذه الآية عامًّا أم خاصًّا، فمعظمهم يذهبون إلى أنه خاص، وأن عقوبة “مائة جلدة” ليست إلا للزناة غير المتزوجين رجالاً ونساءً، وأن عقوبة المتزوجين منهم هي الرجم حسب السنة. وكأن السنة خصصت القرآن الكريم. غير أن العلماء والسلف الصالح قد سلموا بأن حكم الجلد حكم عام، يشمل جميع أنواع الزناة، مع استثناء تلك الحالات الخاصة التي خصصتها بعض الآيات القرآنية الأخرى التي تنص على الرجم كما ذكرنا سابقا، فيقول العلامة الرازي رحمه الله: “اتفقت الأمة على أن قوله سبحانه وتعالى (الزانية والزاني)، يفيد الحكم في كل الزناة، لكنهم اختلفوا في كيفية تلك الدلالة، فقال قائلون: لفظ الزاني يفيد العموم، والمختار إنه ليس كذلك”. (التفسير الكبير، سورة النور الآية:3)
ويقول العلامة محمود الآلوسي: “والحكم عام فيمن زنى وهو محصن وفي غيره.”
(تفسير روح المعاني، سورة النور، الآية: الزاني والزانية فاجلدوهما)
ويقول العلامة ابن حيان: “و الحكم في الزانية والزاني للعموم في جميع الزناة.” (البحر المحيط)
ويقول العلامة أبو الفرج الجوزي: “قال شيخنا علي بن عبيد الله: هذه الآية تقتضي وجوب الجلد على البكر والثيب.” (تفسير الجوزي، سورة النور الآية:3)
حكم الجلد عام
وعلى الرغم من قولنا بالرجم في أحوال خاصة، وذلك بالإضافة إلى جلد مائة جلدة، إلا أننا نختلف مبدئيا مع القائلين بالرجم، فنرى أن حكم (آية الجلد) عام، وأن عقوبة الزنا في الأحوال العادية إنما هي مائة جلدة، وإنه ليس من المعقول تخصيصها بحجة أن بعض الزناة المتزوجين قد رجموا، فلذا إن العقوبة الواردة في سورة النور (وهي الجلد) ليست للزناة غير المتزوجين، وأما الزناة المتزوجون فعقوبتهم الرجم. فنحن لا نقبل ذلك لأنه يخالف تلك الآية القرآنية التي تذكر أن عقوبة الزانية الأمة المتزوجة نصف عقوبة الزانية الحرة المتزوجة، فيقول الله تعالى: (فإذا أحصِنَّ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب….) (سورة النساء: 26)
فتبين هذه الآية أن العقوبة المحددة للزنا عقوبة يمكن تقسيمها إلى نصفين، وهي مائة جلدة ونصفها خمسون جلدة، في حين أن الرجم لا يمكن أن ينقسم إلى نصفين. إذن فالقول بأن عقوبة الرجم نسخت عقوبة الجلد لا يستلزم نسخ آية النور (آية الجلد) فحسب، بل أيضا يفسد معنى هذه الآية من النساء، إذن فالعقوبة العامة لجميع الزناة من الأحرار المحصنين وغير المحصنين، رجالا ونساء على سواء إنما هي مائة جلدة.
وبالمناسبة يجب ألا يفوتنا أن حد مائة جلدة هذه أيضا لا يقام بمجرد الشبهة، بل في حالة أن يتم الزنا علنا بحيث يشهد عليه أربعة شهود عيان عدول شهادة واضحة تماما، بأنهم رأوا بأعينهم فلانا وفلانة وهما يرتكبان هذا الفعل الشنيع، وأنهم لم يخططوا لمشاهدتهما مسبقا. فعندئذ بعد ثبوت جريمة الزنا تنفذ هذه العقوبة وهي مائة جلدة، وذلك منعا لهذه الفاحشة المبينة.
فقصارى القول إن الشروط المشددة التي وضعها الفقهاء في ضوء القرآن الكريم والسنة لا يمكن أن تتوفر بسهولة في كل قضية، اللهم إلا أن يتم الزنا علنًا.
وأرى من اللازم هنا أن أتناول الحديث عن السوط أو الجلد بشيء من الإيضاح. فأما فيما يتعلق بنوعية الجلد، فالجلد الذي يتم في بعض الدول التي تدعي بتطبيق الشريعة الإسلامية، حيث يضرب الجلاد المجرم بكل ما أعطي من قوة، وهو مقيد مكبل فليس هذا الأسلوب من الإسلام في شيء، بل إن لفظة (جلدة) نفسها تعني ضرب الجلد بحيث لا يؤثر فيما تحته، وتحدد نوعية عقوبة مائة جلدة، قد كتب المستر (لين) واضع القاموس العربي الإنجليزي الشهير في قاموسه تحت كلمة (جلدة): أي ضرَبَ أو آذى جِلده. إذن فيجب ضرب مائة جلدة بحيث يؤلم الجلد فقط ولا يؤثر كثيرا فيما تحت الجلد. حتى إن الفقهاء اشترطوا ألا يرفع الجلاد يده كثيرا أثناء الجلد لكيلا يكون الضرب شديدا.
وأما فيما يتعلق بالسوط، فالـمِجْلَد في اللغة هو ذلك السوط الذي تضرب به النساء وجوههن أثناء النياحة والندب. وقد ذكر أن السياط المستخدمة للعقوبة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين كانت عبارة عن سعف النخل أو النعل أو الجلد المغطى بالقماش. وهذا يؤكد أن هذه العقوبة لم تهدف إلى الإيذاء، بل كان هدفها الأساسي هو إصلاح المجرم بعقوبة تذلـله وتوقظ ضميره.
ويجب ألا يفوتنا أيضا أن حكم الرجم المشروط بشروط معينة وأحوال خاصة لم ينسخ بنـزول آية الجلد في سورة النور، بل ينفذ الرجم بلا شك كلما توفرت تلك الشروط. (أي كون الزناة متعودين على الزنا، وقيامهم بإفساد المجتمع بإشاعة الفاحشة وترويجها)
هذا، وإن هناك إشارة إلى تنفيذ هذه العقوبة المشددة على من يشيعون الفاحشة في آية أخرى وردت بعد آية الجلد في النور نفسها، ألا وهي: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة) (سورة النور: 20)
وهناك فرق دقيق جدير بالانتباه وهو أنه عندما وردت عقوبة مائة جلدة في سورة النور ذكرت بكلمة العذاب فقط، حيث يقول الله عز وجل: (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) (سورة النور:3)
والمراد من العذاب هنا هو عقوبة مائة جلدة. كما قد استخدمت كلمة العذاب في سورة النساء بمعنى مائة جلدة، فيقول الله تعالى: (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب). (سورة النساء: 26)
أي إن عقوبة ارتكاب الزنا للإماء المتزوجات هي نصف عقوبة المتزوجات الحرائر، (وهي مائة جلدة)، وكأن المراد من العذاب في هذه الآية هو مائة جلدة التي يمكن نصفها. ولكنه عندما ذكرت إشاعة الفاحشة في الآية التي نحن بصددها (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة ….) فلم يرد هنا كلمة العذاب فقط، بل (عذاب أليم)، أي عذاب مؤلم قاس جدا. والظاهر أن هذه العقوبة أي الرجم التي ينص عليها القرآن الكريم والسنة أشد وأقسى من مائة جلدة.
واقعات الرجم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
ونرى من الأنسب أن نوجز هنا واقعات الرجم التي وقعت في العهد النبوي صلى الله عليه وسلم وهي:
1: فاطمة العامرية من قبيلة جهينة زنت، واعترفت بحمل الزنا، فرجمت. (صحيح مسلم، كتاب الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنا)
2: ماعز بن مالك الأسلمي اعترف بالزنا على الملأ مرة بعد أخرى، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم برجمه. وتذكر الرواية أيضا أن ماعزا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عند سؤاله أنه متزوج.
(صحيح البخاري، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب لا يرجم المجنون والمجنونة)
3: ونجد قصة الزنا بالجبر في رواية وائل بن حجر، وتقول الرواية: إن مجرما رُجم. (وسيأتي ذكر هذه القصة بالتفصيل بعنوان عقوبة الزنا بالجبر وذلك تحت آية المحاربة)
(الترمذي، كتاب الحدود باب ما جاء في المرأة إذا استكرهت على الزنا)
4: وهناك واقعة تذكر خادما زنى بامرأة سيده فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم برجم المرأة وجلد الخادم مائة جلدة وأجلاه مدة سنة. (صحيح مسلم، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا)
وقد اختلف العلماء في زمن هذه الواقعات، فالذين يقولون بأن عقوبة الزنا إنما هي مائة جلدة يرون أن كل هذه الواقعات كانت قبل نزول الحكم بالجلد في سورة النور، ويستدلون على ذلك بحديث عبد الله بن أوفى الذي سئل: هل رجم الرسول صلى الله عليه وسلم قبل سورة النور فقط أم بعدها أيضا، فأجاب: لا أدري. (البخاري، كتاب المحاربين، باب رجم المحصن)
ولكن جوابه هذا لا يدل على أنه أنكر وقوع الرجم بعد سورة النور إنكارا قطعيا، وإنما يدل على اعترافه بعدم العلم.
أما القائلون بالرجم فيرون أن واقعات الرجم وقعت بعد سورة النور أيضا، وهذا هو الأصح، لأن حجة هؤلاء بأن زمن رواة واقعات الرجم كان فيما بعد نزول سورة النور لحجة قوية. وعلاوة على ذلك فإن الشهادة الداخلية لواقعات الرجم أيضا تؤيد موقفهم، إذ ورد في إحدى الواقعات المذكورة آنفا أن خادما زنا بامرأة سيده فجلد، أما المرأة فرجمت.
والظاهر أن هذا الجلد لم يكن إلا بعد سورة النور. ثم إن الرجم ثابت في زمن الخلفاء الراشدين أيضا. إذن فكل ذلك يدل على كون الرجم حكما مستقلا بذاته كما سبق أن أوضحنا ذلك في ضوء الآيات: 61 إلى 63 من سورة الأحزاب. فالأقرب إلى العقل والمنطق، في ضوء هذه الآيات، أن نقول في واقعات الرجم أنه إذا كان أحد المسلمين قد رجم قبل سورة النور أي حتى شهر شوال من السنة الخامسة الهجرية فكان ذلك بسبب عادة الرسول صلى الله عليه وسلم لموافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء ولم ينـزل في شأنه أي حكم قرآني. (البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم)
وإن واقعات الرجم التي تمت بعد شهر شوال من السنة الهجرية الخامسة فكانت طبقا لما ورد في الآيات 61 إلى 63 في سورة الأحزاب.
فعقوبة الرجم التي نفذت في ضوء الآيات المذكورة آنفا حتى بعد نزول حكم الجلد في سورة النور أيضا لا تتعارض مع حكم الجلد، لأن كلا الحكمين مستقل بذاته متوقف على حالات وشروط خاصة. وأما فيما يتعلق بشروط الرجم فنجد في سورة الأحزاب شرطين واضحين يوجبان هذه العقوبة القاسية وهما:
أولا: عدم امتناع الزناة المتعودين عن هذه العادة السيئة، كما يتبين ذلك من قوله تعالى:
(لئن لم ينته المنافقون).
ثانيا: إشاعة الفاحشة وترويج المنكرات كما يتضح من قوله تعالى: (والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة).
ومما يلفت النظر أننا عندما نحلل واقعات الرجم المذكورة فيما سبق نجد هذين الشرطين متوفرين في كل هذه الواقعات. فكان الزنا والفحشاء، كما تذكر الواقعات متفشيين بكثرة في مجتمع ذلك الزمن. وكان الاعتراف بالزنا أيضا من عوامل إشاعة الفاحشة، وأيضا كان المجرمون متعودين على الزنا حيث إنهم رغم كونهم متزوجين، كانوا لا يقلعون عن هذه العادة الخبيثة، ومن أجل كل هذه الأسباب عوقبوا بالرجم.
قصارى القول إن السبب الأساسي لفرض العقوبة على الزاني في الإسلام إنما هو إشاعته وترويجه، وإلا فنحن نجد في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم عدة أحداث لم يتم فيهما إشاعة الفاحشة وترويجها، وكذلك لم يعترف الزناة بالزنا، بل حلفوا على عدم ارتكابه، ومع ذلك كله لم يعاقبوا شيئا. ومن قبيل هذه الأحداث أن رجلا رأى امرأته لحظة ارتكابها للزنا، ثم إن المولود من ذلك الحمل كان يشبه الزاني، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يزد على قوله للمرأة: “لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن.” (البخاري، كتاب التفسير، سورة النور، باب ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين)
عقوبة الزنا بالجبر أيضا الرجم
ثم إن هناك في القرآن آية أخرى يستنبط منها أيضا أن الرجم تقع في بعض حالات خاصة، ألا وهي آية المحاربة في سورة المائدة، فيقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ). (سورة المائدة:34)
ويتبين من سبب نـزول هذه الآية أن الزنا بالجبر أيضا يدخل في نطاق المحاربة، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: إن هذه الآية نـزلت في أناس من “عرينة” ارتدوا عن الإسلام، وقتلوا راعي الرسول صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل، وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام.(تفسير الطبري، سورة المائدة، الآية (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله)
ثم إن الإمام البخاري رحمه الله لم يضع باب الرجم في كتاب الحدود كما فعل غيره، بل وضعه في كتاب المحاربين، وبدأ هذا الكتاب بآية المحاربة ليشير بأسلوبه الخاص اللطيف إلى أن عقوبة الرجم مستنبطة من آية المحاربة، كما جاء الإمام في كتاب المحاربين نفسه برواية عبد الله بن أوفى رضي الله عنه وهي أنه سئل: هل رجم الرسول صلى الله عليه وسلم قبل نزول سورة النور أم بعدها، فقال: لا أدري، ذلك ليشير الإمام إلى أن للرجم علاقة واضحة بآية المحاربة.
كما نجد في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم واقعة الزنا بالجبر التي لا تذكر أن الزاني كان محصنا (أي متزوجا)، ولكنه مع ذلك رُجم. فيروي وائل بن حجر أن امرأة من المدينة كانت في طريقها إلى المسجد للصلاة بالليل، فاختطفها رجل في الطريق واغتصبها. فقبض الناس على المجرم عندما سمعوا صراخها، فجاءوا به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فرجم بعد ثبوت جريمة الزنا بالجبر. (الترمذي، كتاب الحدود، باب في المرأة إذا استكرهت على الزنا)
ففي هذه الواقعة قد عوقب الزاني بالجبر بعقوبة الرجم. هذا، وإن المفسرين أيضا قد عنوا بهذه الآية (آية المحاربة) الزنا بالجبر، فيقول العلامة القرطبي في تفسير هذه الآية: “قال مجاهد: المراد بالمحاربة في هذه الآية الزنا والسرقة وليس بصحيح….اللهم إلا أن يريد إخافة الطريق بإظهار السلاح قصدا للغلبة على الفروج، هذا أفحش المحاربة وأقبح من أخذ الأموال. وقد دخل هذا في معنى قوله تعالى: (ويسعون في الأرض فسادا) (تفسير الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، سورة المائدة الآية إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله)
موقف مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية
هذا، وقد ذكر مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية عليه السلام عقوبة السارق وعقوبة الزاني جنبا بجنب وذلك في كتابه “الحرب المقدسة”، (وكان عبارة عن مناظرة كتابية جرت بينه وبين قسيس مسيحي يدعى عبد الله آتهم)، فيبدو أنه قد أشار بذلك إلى نفس الآية (آية الرجم) فيقول حضرته وهو يرد على اعتراض القسيس القائل بأن الإسلام يعلِّم الجبرية:
“أنت إلى الآن تجهل عقيدة المسلمين، ألا تفهم أنه لو كان الإنسان مجبرا مكرها عند القرآن الكريم لما أمر القرآن صراحة بقطع يد السارق ورجم الزاني، ولم يرجم أحد، لقد ذكر القرآن الكريم خيار وحرية الإنسان لا في آية واحدة أو آيتين بل في مئات الآيات”. (الحرب المقدسة، ص 170، الخزائن الروحانية المجلد السادس ص 252)
ويقول أيضا: “لقد أجاز الفقهاء استخدام الدف للإعلان عن عقد القران. كما يجوز أيضا استخدام المزمار بنية الإعلان العام عن النكاح للحفاظ على النسب، ذلك لأنه لو لم يحفظ النسب لكانت هناك مظنة للزنا الذي يسخط الله عليه سخطا شديدا، حتى إنه أمر برجم الزاني لذا فلا بد من الاهتمام بالإعلان”. (الملفوظات، المجلد الثالث، ص403)
موقف الخليفة الثاني للمسيح الموعود عليه السلام
هذا، وقد أكد الخليفة الثاني رضي الله عنه في بيان عقوبة مائة جلدة على أن الجلد لم تنسخه السنة، وأنه لو كان هنالك أي وجود لما “يسمونه آية الرجم”، فهي ليست إلا آية من التوراة. كما يرى حضرته أن حكم مائة جلدة حكم عام، ولا فرق في هذا الشأن بين المحصن وغير المحصن. وإنه في بعض المواضع الأخرى من كتبه لم يسلم بالرجم فحسب، بل عده حدا من حدود الشريعة الإسلامية، فيقول حضرته رضي الله عنه في كتابة “دعوة إلى الحق” الذي كتبه خصيصا لتبليغ والي أفغانستان في سنة 1925 ما تعريبه:
“ومن التطورات السياسية التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم كعلامة من علامات زمن المسيح الموعود ترك الحدود الشرعية، كما روى الديلمي عن علي رضي الله عنه أن من علامات ذلك الزمان ترك حدود الله عز وجل. ولقد تحققت هذه العلامة أيضا إذ إن الحدود متروكة في هذه الأيام في الحكومات الإسلامية إلا ما شاء الله. فلا يعاقب الزاني بالرجم ولا السارق بقطع اليد، لا في الدولة التركية ولا في العربية، ولا في المصرية، ولا في الإيرانية، حتى ولا في بلاد سيادتك أنت. بل وإن بعض الدول الإسلامية محظور عليها تطبيق هذه الحدود بالاتفاقيات والمعاهدات. وظهور هذه العلامة واضح كل الوضوح، إذ لم يكن في حسبان أحد في العصور الإسلامية المزدهرة أن تتخذ الأحكام الإسلامية مهجورة لهذه الدرجة، وأن تكون الدول الإسلامية غير قادرة على تطبيق الحدود الشرعية، رغم رغبتها في التطبيق”.
وفي خطاب لـه حول فلسفة العقوبات في عام 1935 قال حضرته:
“يقول الله تعالى في القرآن الكريم في شأن العقوبة: جزاء سيئة سيئة مثلها، أي إن الأصل أن تكون العقوبة حسب نوعية الجريمة. ومن ناحية أخرى يتضح من القرآن الكريم والأحاديث النبوية أنه ليس المراد من المساواة بين الجريمة والعقوبة مساواة ظاهرية، بل يراد بها على العموم مساواة معنوية، كمثل الزنا، فقد قررت الشريعة عقوبته في بعض الحالات الجلد، وفي بعضها الرجم، وعلى الرغم من أن العلماء قد اختلفوا في الرجم، إلا إنني الآن لست في صدد بيان مسألة فقهية، إنما أضرب مثلا. فأية علاقة بين الزنا وبين الجلد أو الرجم”.
وفي 1958م أوضح حضرته هذا الأمر كمسألة فقهية أيضا، وكتب في سجل المسائل الدينية أن العقوبة للزاني المحصن أيضا هي مائة جلدة، أما الرجم فينفذ أيضا في حالات استثنائية، فيقول حضرته رضي الله عنه:
“أما نحن فنرى أن عقوبة الزاني المحصن إنما هي الجلد. إلا إذا كان قد تعود على الزنا، وقام بإفساد الفتيات، ففي هذه الصورة يعد بلا شك مستوجبا للرجم. غير أن الشروط هي نفس الشروط أي تواجد أربعة شهود عيان، ولكن ذلك من المستحيل تقريبا.” (سجل المسائل الدينية رقم 32، 17/6/1958)
فالخليفة الثاني رضي الله عنه، يرى أيضا إلى جانب عقوبة الجلد، الرجم وذلك في أحوال معينة.
فخلاصة الكلام أننا قد قدمنا في هذا المقال موقفا تجاه إحدى أهم المسائل الإسلامية المختلف فيها، وذلك في ضوء النصوص من القرآن الكريم والأحاديث النبوية وكتب المسيح الموعود عليه السلام مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية، وخليفته الثاني رضي الله عنه. وخلاصته أن عقوبة الزنا في الحالات العادية هي مائة جلدة، إلا أن الرجم أيضا ثابت من القرآن الكريم، وذلك في حالات معينة، كأن يكون الزناة قد قاموا بإشاعة الفاحشة وترويج الخلاعة أيضا، وأن يكونوا معتادين على ارتكاب هذه الجريمة الخبيثة، ويسعون في المجتمع فسادا، أو يزنون جبرا واغتصابا، وهكذا يقومون بمحاربة الله ورسوله والمجتمع كله.