لقد أنزل الله تعالى كتابه الكريم على قلب سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ووصفه بالمكنون الذي لا يمسه إلا المطهرون وهو كتاب لا تنقضي عجائبه الى يوم القيامة وقد حاول السلفيون او اهل السنة والجماعة تحجيم ابعاد النص بالزام الامة في فهم القرآن الكريم على وفق فهم السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم وبعيدا عن مناقشة أبعاد هذه المقولة وأبعادها إلا أنني لدي اعتراض على اعمام هذه المقولة التي فرزت نمطا حرفيا من التعامل مع القرآن الكريم أفضى بحركة التفسير للنص والخطاب القرآني إلى الجمود وقطع العلاقة مع النص القرآني بعد القرون الثلاث المفضلة بنص حديث النبي عليه الصلاة والسلام، ولو كان الأمر في التفسير القرآني وقفا أو حكرا على طبقة معينة من البشر لكان أحق بها النبي عليه الصلاة الذي لم يؤثر عنه إلا تفسير بعض آيات القرآن الكريم في كل ما حوته كتب الصحاح والمسانيد والسير وهذه التفاسير المأثورة تخضع لمعيار الجرح والتعديل لأن التفاسير المأثورة عن النبي لم تتلاقفها الأمة بالتواتر كما تلاقفت الكتاب الحكيم عن النبي عليه الصلاة والسلام، ورغم ذلك فأن كتب التفاسير والأحاديث تروي لنا خلاف الصحابة والتابعين في تفسير النص القرآني وتأويله وهذا يدل على عدم وجود تفسير قاطع يرجح وجها معينًا دون غيره.

إن الوحي القرآني الكريم وحي فريد وهو كغيره من أنواع الوحي وحي رمزي يهدف إلى نثر معاني عديدة بعدد من الأحرف قليل جدا وهو من عظيم بلاغته وبديع صنعه وإن التعامل الحرفي مع تلك النصوص حجب عن الكثير روائع هذا النص الالهي المحكم المتقن والبليغ وجعله ينحسر في تفسيرات حرفية جامدة بل فيها من المعيب الكثير بل ويتعارض مع احكام اخرى في القران الكريم.

ونحن لا ننكر بأن السادة الصوفية والاسماعيليين كـ (رسالة أخوان الصفا) تعاملوا مع النص القرآني ودلالاته الروحية الرمزية بكثير من الاتقان رغم شطحاتهم التي أبعدتهم في نهاية المطاف عن جادة الصواب إلا أن تفسيرهم في كثير من الأمور جعل من النص القرآني أكثر حيوية وتاثيرا في النفس وملامسة للواقع على العكس من التفاسير الجامدة المأثورة عند أهل السنة الباقين. ولعل المزاوجة بين القواعد التي وضعها المفسرون الأوائل والفقهاء من أهل السنة وبين ما ذهب إليه الصوفية والاسماعيليون وغيرهم يعطي لنا أبعادا عظيمة في التفسير متجنبين الشطح الذي قد يحصل فيها نتيجة الاستغراق في التأويل الروحي كما حدث على سبيل المثال مع الإسماعيليين ومصطلح القيامة وظهور القائم وانتهاء الحكم التكليفي واباحتهم للمشاعة الجنسية ونكاح المحارم وكذلك الحال مع الصوفية الذي أنكر البعض منهم الظاهر وركزوا على الباطن فقط وادعوا بان هناك باطنا يخالف الظاهر.

إن النص القرآني ووصفه لسلوك الأنبياء وسيرهم يعطي دلالة أو يرسم صورة عاكسة لمجمل تاريخ أممهم كما هو الحال في قصة آدم مع إبليس التي اختصرت تاريخ الأنبياء والأديان وصراعهم مع أهل الباطل فكان آدم هو رمز لكل نبي يقيمه الله تعالى في الأرض وزوج آدم هو الجماعة المؤمنة به كما كان إبليس رمزا لكل عدو يواجه الأنبياء

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ

فإبليس هو فرعون وهو النمرود وهو ابو جهل وغيرهم ممن عادوا الأنبياء .

وهذا الأمر لم يكن بغريب عن الأديان السابقة فقصة سفر التكوين لا يمكن القبول بحرفيتها ولا يمكن القبول بفكرة إن الشيطان يمكن أن يدخل إلى الجنة بأن يتلبس بجسم الأفعى بعد أن أخرجه الله منها ولا يمكن أن نفهم بأن الله قد خلق آدم على صورته بهذا المعنى الحرفي الضيق وكذلك لا يمكن أن نؤمن بأن الشجرة المنهي عنها هي العنب لأنه العنب وإنما هي دلالات روحية ترمز إلى معاني عديدة وعميقة قد تناولناها في محاضرات مسموعة ومقالات مكتوبة سابقًا، ولقد أول المسيحيون زواج سيدنا من المرأة الحبشية (الكوشية) ومعارضة مريم النبية لهذا الزواج فقالوا إن زواج موسى من الكوشية يدل على قبول الأمم بدعوة المسيح ومعارضة مريم كانت ترمز إلى معارضة اليهود وهم أبناء قوم المسيح لدعوة المسيح خاصة إذا ما علمنا إن مريم كانت الأخت الشقيقة لسيدنا هارون أخو موسى.

ولم يكن الأوائل من المسلمين ببعيدين عن تأويل النصوص فقد أولوا دابة الأرض إلى أنها نوع من البشر حيث قال الماوردي: وفي هذا القول منه إشارة إلى أنها من الإنس وإن لم يصرح به.

وقد ورد في تفسير القرطبي
قلت: ولهذا ـ والله أعلم ـ قال بعض المتأخرين من المفسرين: إن الأقرب أن تكون هذه الدابة إنساناً متكلماً يناظر أهل البدع والكفر ويجادلهم لينقطعوا، فيهلك من هلك عن بينة: ويحيا من حيّ عن بينة

إن النبي والأنبياء عليهم الصلاة والسلام وسيرهم ما هي إلا رموز لما ستمُر به أممهم لذلك الخطاب القرآني كان يتوجه إلى الأنبياء نيابة عن أممهم فأي عتب ظاهري أو تحذير لهم إنما هو بالحقيقة عتاب وتحذير لأممهم وفي هذا لا يختلف المفسرون معنا فعل سبيل المثال لننظر إلى هذا النص في سورة المؤمنون الذي هو ظاهرا موجه للأنبياء

ا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ
وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ

فمن غير المعقول أن الرسل يتقطعون أمرهم بينهم ويفرقون أممهم وإن الله تعالى يذرهم في غمرتهم، وكذلك علينا أن ننظر إلى هذا النص من سورة النمل

يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ، إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ

هذه القاعدة الاشراقية يجب أن نستشرفها في آيات كثيرة تتحدث وتعالج سير الأنبياء وهذا ما فعله الإمام أحمد عليه السلام عندما أول ما ورد في الكلام الموجه إلى زوجتين من زوجات النبي بأنه خطاب موجه أيضا في الآخرين إلى فرقتين عظيمة من أتباعه ستختلفان فكلمة الزوج كما هو معلوم وكما بينا سابقا تنطبق على الأتباع أيضا

إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ
إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ
فهذه الاية ضمنت معاني حدوث فرقة عظيمة وفتنة ظلماء لا تنجلي إلا ببدر ينير في سماء الأمة
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

فكان البدر هو إمام الأمة في الآخرين والسراج المنير الذي ينبلج في القرن 14 هجري كطلوع بدر السماء في الليلة (14) …

أما اليوم نجد إن ما ترسخ في عقول عوام المسلمين الفهم الحرفي فقط وأصروا على فهم القران بفهم السلف الصالح رغم إن السلف الصالح لا يؤمن بما يؤمن به العوام اليوم والسبب هو جهود حثيثة ومستمرة لتغييب هذا الاستشراقات والتركيز على الفهم الحرفي للنص الذي اتسمت به بعض تفاسير العصور الأولى بترتيب رباني محكم من أجل ترسيخ تلك النصوص أولا ومراعاة لمستوى العقل الجمعي في القرون الأولى، في حين شهدت حركة التأويل واستشراق النص القرآني بعدما تزاوج العرب بغيرهم من الأمم ودخل الفرس والترك وغيرهم إلى الإسلام وبعد أن ترجمت كتب الفلسفة والمنطق ودخل العرب إلى الأندلس وأوربا وبدأ العقل العربي يرى ما لم يكن يراه في السابق وبدأ يجمح في سماوات المعرفة لذلك فارت العلوم عندهم وانطلقوا في سماوات تأويل النص القرآني وأبدعوا إلا إن تلك الحركة الفكرية والروحية ما فتأت أن طمست بعد الانحطاط الاخلاقي والحضاري العربي واضمحلال دورهم الإنساني وسقوط هذا الأرث وبروز ظاهرة العودة إلى فهم السلف في صحراء الجزيرة من جديد لتقيم ما أعوج من الشطحات التي رافقت تأويل النص القرآني وأسهمت في انتشار البدع والشرك في هذه الأمة وتعيد للأمة بعضا من صوابها وبعضا من رشدها غير إن تلك الحركة سقطت فيما سقط به اليهود من تمسك مقيت بالحرف وترك وتجافي ذلك الأرث بل ومحاولة حثيثة من أجل طمسه وإبراز جانب واحد منه للاسف مما أثر على حيوية النص القرآني وجعله محبوسا في نتاج الفكر السابق بدون أن يستثمر ما وصلت إليه العلوم والمدارك في استلهام معاني جديدة للنص القرآني الذي قال عنه النبي بأن عجائبه وغرائبه لا تنتهي أبدا، هذه الحركة الفكرية النجدية وجدت لها عوامل مساعدة في بروز التفكير العقلاني والاغراق في العقلانية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين فوظفت جنوح الناس نحو العقلنة إلى رفض التراث الروحي بأكمله في ضرب الأرث الصوفي بشقيه السني والشيعي، في حين إن هذه الحركة ظلت متمسكة بأقوال أشد غرابة من ما يسمونه بخزعبلات الصوفية، ولذلك سقطت تلك المدرسة وجرى عليها قانون الزمن والتقادم الذي هو سمة كل صنع يتدخل الأنسان به فمصيره إلى الزوال ليقيم الله تعالى صرحا اسلاميا شامخا تمثل في حركة التجديد الأحمدية التي قادها أحد علماء المسلمين فخر البنجاب المولوي غلام أحمد القادياني الذي ألف كتابا عظيما سمي بكتاب البراهين الأحمدية الذي جعل العقل والوحي أداتان من أدوات المعرفة والوصول إلى اليقين ونوال برد الأمان فأسهم في إحياء ما اندثر وقدم للنص القرآني هو وجماعته خدمات جليلة جعلت من نصوص القرآن تحاكي الواقع المعاصر وتبين لنا بأن آيات القرآن الكريم أعظم من أن يحيط بأبعادها مفسر ما لذلك تعامل الأحمديون وخاصة بعد إعلان الإمام أحمد نفسه مهديا ومسيحا موعودا ببراعة مع النص القرآني وقدموا للعالم مستويات عميقة في فهم النص القرآني الذي أخبر بسور عديدة عن واقع الأمة بعد قيامة القائم وفلسفت التأريخ واستدارة الزمن حتى يكاد المرء أن يقرأ المستقبل بحسب اسقاطات تلك الفلسفة المستنبطة من القرآن الكريم بجلاء ووضوح .