مكانة القدس وأهميتها بالنسبة للأديان الثلاثة

ملاحظة: المقالة الأصلية كتبت بتاريخ 10 من كانون الأول 2017، وننلقها للقارئ الكريم لفائدتها.


القدس ميراث ذرية إبراهيم

ظُهْر هذا اليوم كان لي لقاء على الهاتف مع محطتنا الإذاعية “صوت الإسلام” (Voice of Islam) الناطقة بالإنجليزية والتي تبث من لندن وتغطي العاصمة البريطانية، وكان البرنامج حول القدس ومكانتها بالنسبة للأديان الثلاثة ثم الأحداث المستجدة أخيرا.

وإجابة على السؤال حول مكانة وأهمية القدس بالنسبة للأديان الثلاثة قلتُ فيما قلته إن القدس بل وفلسطين وبلاد الشام بالنسبة للمسلمين إنما هي ميراث ذرية إبراهيم عليه السلام، وقد أعطى الله تعالى هذه الأرض مؤقتا لبني إسرائيل عندما كانت فيهم النبوة والكتاب، ثم أصبحت ميراثا لبني إسماعيل ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم. فالعقيدة الإسلامية ترى أن بني إسرائيل جزء من التاريخ الديني للمنطقة، ولكن دورهم قد انقضى وانتهى. ونرى أن الله تعالى قد حقق وعده بأن جعل هذه الأرض ميراثا لذرية إبراهيم، وكانت في نصيب بني إسماعيل لما يقارب 1300 عام، ولم تخرج إلى اليوم من يدهم – وإن كانت قد خرجت مؤقتا لأقل من مئة سنة في زمن الصليبين- رغم الاحتلال والظروف الخاصة وإن كانت قد سقطت من يدهم سياسيا. فنظرية الإسلام نظرية متكاملة تطابق الواقع ولا تقصي أحدا، بل تعتبر اليهود جزءا من التاريخ الديني المشترك وتثبت أن وعد الله تعالى قد تحقق وما زال متحققا.

كيف ترى اليهودية التاريخ؟

أما اليهودية، فهي ترى أنها منفصلة عن هذا التاريخ، وبالتالي فإن وعد الله تعالى لم يتحقق معها إلا لفترة محدودة جدا من الزمن لا تتجاوز السبعة عقود ثم خرجت من أيديهم. ثم إن اليهود لا يرون داود وسليمان أنبياء كما نراهم نحن المسلمين، بل يرونهم ملوكا فاسدين، أحدهم ارتكب سيئة عظيمة بأن أحب زوجة أحد أبرز وأخلص قواده فأرسله إلى الموت ليتزوج بها! وبدلا من أن يعاقبه الله تعالى وحده على ذلك فقد قضى أن يعاقب بني إسرائيل إلى الأبد بسبب هذه الفعلة! ثم أنجبت هذه المرأة ابنا وهو سليمان؛ ذلك الملك الذي كان غارقا في الملذات والفساد حتى إن زوجاته الوثنيات أغرينه وجعلنه يكفر في آخر عمره ويعبد آلهة أخرى! وهذا الملك هو الذي بنى الهيكل أو المعبد. فأي قدسية يكتسبها المعبد إن كان بانيه ملكا لا يحظى بالقداسة بل أصبح كافرا في نهاية المطاف؟! فالمعبد يحظى بالقدسية إذا كان من أنشأه شخص مقدَّس.

أما بإصرار بني إسرائيل على عزل أنفسهم عن التاريخ المشترك لأبناء إبراهيم وإنكارهم للإسلام فهم يحكمون على أنفسهم بأن صلتهم بهذه الأرض وبهذا التاريخ ليست سوى صلة عابرة لا قيمة لها ولا وزن، وأنه لا مقدسات لهم في هذه الأرض؛ إذ أن المعبد الذي يتباكون عليه والذي بناه ملك فاسد من وجهة نظرهم لم يبقَ سوى سنوات قليلة في التاريخ ثم دُمِّر ولم يبقَ له أدنى أثر.

المسيحية والقدس

أما فيما يتعلق بالمسيحية، فإن قوة ارتباطها بالقدس هي أكبر بكثير من صلة اليهود، إذ أن القدس كانت مهد المسيح ومسرح تبشيره ودعوته ثم معاناته وتعليقه على الصليب وقيامته كما يعتقدون. وإن كنا لا نرى أنه قد صُلب أي مات على الصليب كما يعتقدون إلا أننا نشاطرهم الرؤية حول أن القدس مكان مقدس لهم. والواقع يؤكد ذلك؛ إذ وكنائسهم كانت منذ زمن المسيح وما زالت باقية وماثلة إلى اليوم، فارتباطهم بالقدس وتواصل تاريخهم معها لا سبيل إلى إنكاره.

وقد تعززت الأهمية الدينية للقدس بالنسبة للمسلمين بحادثة الإسراء، فهذا الأهمية وإن كانت مبنية بداية على الوعد الإبراهيمي الذي تقرُّ به التوراة وينكره اليهود اليوم إلا أن التوجه إلى بيت المقدس كقبلة أولى ثم حادثة إسراء النبي صلى الله عليه وسلم التي أنبأت فيما أنبأت به بأن القدس ستصبح ميراثا للمسلمين تحقيقا للوعد الإلهي وأن المسجد الأقصى سيبنى فيها إعلانا لهذا الميراث، وأنها ستبقى مدينة الأنبياء والصلاة والحرية الدينية لكل الأديان برعاية الإسلام والمسلمين، قد زادت من تلك الأهمية وأكَّدتها.

قداسة القدس بين اليهود والإسلام

فنظرية الإسلام نظرية شاملة غير إقصائية حتى لليهود أنفسهم، أما نظرية اليهود فهي نظرية تُجرِّد القدس من القداسة عندهم وتجعلها ليست أكثر من مجرد مدينة كانت عاصمة لدولة عابرة استمرت لما يقارب سبعين عاما ثم زالت. وبما أنه لا يوجد أثر لأي مقدسات يهودية في القدس، بما أن تاريخ اليهود قد انقطع عنها ولم يكن سوى تاريخ عابر فيها، فمن السخف الادعاء بالحق الديني التاريخي وخاصة بالنظر إلى معتقداتهم هم. فموقف الإسلام من قداسة القدس بالنسبة لليهود أعظم من موقفهم هم أنفسهم!

ترامب ونقل السفارة إلى القدس

أما حول ما جرى حاليا، فإن موقف الرئيس الأمريكي ترمب إنما هو موقف أحمق منحاز، ولا يختلف عن موقف الإدارة الأمريكية تاريخيا. فقرار نقل السفارة إلى القدس كان اتُّخذ من خلال قانون صدر عن الكونغرس في 23 تشرين الأول عام 1995 ويقضي بنقل السفارة في موعد أقصاه 31 أيار 1999. ولكن الرؤساء كلنتون وبوش وأوباما تلكأوا في تنفيذ هذا القانون رغم وعدهم بتنفيذه، أما ترمب فقد جاء ليعلن هذا الإعلان، ولا ندري إن كان سينفذه على أرض الواقع أم لا، ولكن هدفه ليس سوى مصلحته الخاصة، وبخاصة إنقاذ نفسه من الأزمة الحالية التي يواجهها والتي قد تؤدي إلى عزله عن منصبه بسبب الاتصالات مع روسيا. أما تكرار الإسرائيليين والأمريكيين لقولهم إن “القدس الموحدة” عاصمة إسرائيل ولن تتقسم مرة أخرى، فهو تعبير يثير السخرية ويوحي وكأن العرب والمسلمين قد قسَّموا القدس بعد أن كانت موحدة، لا أن القدس قد احتُلَّت من قبل إسرائيل على مرحلتين!

وعد الله بضياع فلسطين من يد المسلمين وعودتها بعد توحدهم

وقلت إن على المسلمين أن يتذكروا بأن القدس مغتصبة من خمسين عاما وليس بالأمس أو في الأسبوع الماضي، وأن السبيل لتحريرها يكون برصِّ الصفوف وتوحيد العرب والمسلمين وإنهاء الخلافات فيما بينهم التي تمزقهم وتقضي على مستقبلهم. وبيَّنت بأن الله تعالى قد حذَّر المسلمين من ضياع هذا الميراث المقدس من أيديهم إذا ابتعدوا عن الدين ولم يعودوا صالحين في عين الله تعالى، وفقا لقوله تعالى:

{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ } (الأنبياء 106-107)

وهذا في الواقع تكرار للوعد الذي قطعه الله تعالى لبني إسرائيل وذكَّرهم به في الزبور، والذي جاء فيه:

{كُفَّ عَنِ الْغَضَبِ، وَاتْرُكِ السَّخَطَ، وَلاَ تَغَرْ لِفِعْلِ الشَّرِّ، 9لأَنَّ عَامِلِي الشَّرِّ يُقْطَعُونَ، وَالَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ الرَّبَّ هُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ. 10بَعْدَ قَلِيلٍلاَ يَكُونُ الشِّرِّيرُ. تَطَّلِعُ فِي مَكَانِهِ فَلاَ يَكُونُ. 11أَمَّا الْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ الأَرْضَ، وَيَتَلَذَّذُونَ فِي كَثْرَةِ السَّلاَمَةِ.} (اَلْمَزَامِيرُ 37 : 8-11)

وبيَّنت بأن هذه المفاهيم قد وضحها الخليفة نصره الله تعالى في خطبة الجمعة الأخيرة؛ إذ حثَّ على وحدة المسلمين ونبذ الخلافات فيما بينهم لكي ينالوا حقوقهم ويفشلوا مخططات أعدائهم.

من المؤسف أن العرب والمسلمين قد ضلوا وزاغوا عن مبعوث السماء الذي جاء لإنقاذهم وإعادة العزة والمجد لهم وذلك بتوحيدهم تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم ليصبحوا صالحين في عين الله تعالى ويعود إليهم ميراثهم. ولكن عزاءنا هو أنه لا بد لقدر الله تعالى أن يتحقق ويأتي ذلك اليوم الموعود، فنسأل الله تعالى أن يقربه وأن يقلل أيام تيه العرب والمسلمين الذي هم فيه الآن، آمين.

(ملاحظة: أعتذر لليهود!
فلم أجد لهم معبدا أو مقاما دينيا في القدس اتصل به تاريخهم واستمرت علاقتهم به دون انقطاع لأضع صورته إلى جانب المسجد الأقصى وكنيسة القيامة)

About الأستاذ تميم أبو دقة

من مواليد عمَّان، الأردن سنة 1968 بدأ بتعلَّم القرآن الكريم وحفظ بعض سوره وفي تعليمه الديني في سنٍّ مبكرة وبدأ بتعليم القرآن في المساجد في الثانية عشرة من عمره. انضم إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية عام 1987 قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر وكان من أوائل الأحمديين العرب. يعمل في خدمة الجماعة في المكتب العربي المركزي وفي برامج القناة الإسلامية الأحمدية وفي خدمات التربية والتعليم لأفراد الجماعة وفي العديد من الأنشطة المركزية. أوفده الخليفة الخامس نصره الله تعالى ممثلا ومندوبا لحضرته إلى عدد من الدول، وكرَّمه الخليفة نصره الله بلقب “عالِم” في العديد من المناسبات. عضو مؤسس ومعدّ في فريق البرنامج الشهير “الحوار المباشر” الذي انطلق رسميا عام 2006 والذي دافع عن الإسلام ضد الهجمة المسيحية التي انطلقت على بعض القنوات في بداية الألفية وأخمدها، والذي أسهم في تعريف الجماعة الإسلامية الأحمدية إلى العالم العربي، والذي يبث الآن مترجما ترجمة فورية إلى العديد من اللغات. وهذا البرنامج أصبح نموذجا للعديد من البرامج المشابهة في اللغات الأخرى. شارك ويشارك في العديد من البرامج الأخرى وخاصة المباشرة في اللغة العربية وفي بعض البرامج باللغة الإنجليزية. عضو هيئة التحرير لمجلة “ريفيو أوف ريلجنز” الإنجليزية العريقة التي بدأ إصدارها في زمن الإمام المهدي والمسيح الموعود عام 1902م.

View all posts by الأستاذ تميم أبو دقة