يمكن أن نقسّم موضوع الخلافة بصفة عامة إلى ما يلي:

  1. تعريف الخلافة
  2. ضرورة الخلافة
  3. قيام الخلافة
  4. أمارات الخليفة
  5. صلاحيات الخليفة وسلطته
  6. قضية عزل الخليفة

وسأحاول أن أتناول كل هذه المواضيع بشرح موجز،

والله الموفِّق والمستعان.

 

تعريف الخلافة

أول سؤال يتبادر للذهن هو تعريف الخلافة، أي ما هو المراد من الخلافة وأي شيء يسمى نظام الخلافة؟ فاعلموا أن الخلافة كلمة عربية تعني لغويًا المجيء بعد أحد أو خلْفه، أو القيام مقامَ شخص آخر أو النيابة عنه. أما في المصطلح الديني فكلمة الخليفة تُستخدم بمعنيين:

أولهما: المصلح الرباني الذي يُبعث من عند الله لإصلاح الناس، وعليه فإن جميع الأنبياء والرسل يسمَّون خلفاء الله بهذا المعنى، لأنهم يعملون نُوّابًا لـه ﷻ، وبهذا المعنى سمَّى اللهُ آدم وداودَ خليفةً في القرآن الكريم.

ثانيا: ذلك الرجل البار الصالح الذي يقوم مقامَ نبيٍّ أو مصلحٍ روحيٍ بعد وفاته ليكمل مهمته ويقود جماعته، مثلما قام أبو بكر ؓ خليفةً بعد رسول الله ﷺ وبعده عمر ؓ.

ضرورة الخلافـة

والسؤال الثاني هو عن ضرورة الخلافة، أي لأي غرض يتأسس نظام الخلافة؟ فاعلموا أنه لا يخلو فعل من أفعال الله من حكمة، ولما كان عمْر الإنسان محدودا بحسب النواميس الإلهية، بينما تقتضي مهمةُ الإصلاح والإشراف على شؤون المؤمنين وتربيتهم أمدًا طويلا، لذا فقد سنّ الله تعالى بعد النبوة نظام الخلافة لتتم مهمة النبي بعد وفاته بواسطة خلفائه. فكأن البذر الذي يُزرَع بيد النبي، ينمّيه الله عن طريق الخلفاء ليسلم من الأخطار التي تحدق به في أول الأمر حتى يصبح دوحةً عظيمة. ومن هنا يتضح أن نظام الخلافة في الحقيقة فرعٌ لنظام النبوة وتتمة له، ولهذا قال سيدنا رسول الله ﷺ “ما كانت نبوةٌ قط إلا تبعتْها خلافةٌ”. (كنـز العُمّال، الجزء السادس ص 119)

قيام الخلافـة

بما أن نظام الخلافة فرعٌ لنظام النبوة وتتمةٌ له، لذلك فقد تولّى الله ﷻ إقامته بنفسه، كما هو حال النبوة، وذلك لكي يتولى منصبَ الخلافة مَن كان في علم الله الأصلحَ والأجدر لحمل هذا الحمل بين الموجودين وقت الانتخاب. وبما أن جماعة المؤمنين تكون قد نشأت بعد بعثة النبي وتكون قد تربّت تحت فيوض النبوة، لذلك يجعل الله للمؤمنين أيضا نصيبا في انتخاب الخليفة لكي يجدوا في صدورهم انشراحا وانبساطا في مؤازرته والامتثال لأوامره. وهكذا فإن انتخاب الخليفة يصطبغ بصبغتين بشكل غريب، حيث يتم انتخاب الخليفة على أيدي المؤمنين في الظاهر، لكنه في واقع الأمر يأتي تحقيقًا لقضاء الله وقدره، بحيث يتحكم الله في قلوبهم ويصرفها إلى صاحب الكفاءة المطلوبة لذلك المنصب، ولأجل ذلك نسب الله تعالى اختيار الخلفاء إلى نفسه في كل موضع من القرآن الكريم، وقال مرارا إني أنا أجعل الخليفة، وإشارةً إلى هذه الحقيقة قال النبي ﷺ عن خلافة أبي بكر ؓ: “يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر” (مسلم، فضائل الصحابة). وقد بيّن المسيح الموعود ؏ هذا الأمر نفسه في كتابه “الوصية” حيث قال إن الله أقام أبا بكر ؓ بعد وفاة النبي ﷺ، فأنقذ الجماعة الموشكة على الانهيار…. وقال وهو يتحدث عن نفسه: “سيكون مِن بعدي أفراد آخرون تظهر بهم قدرة الله الثانية”. لقد ثبت مِن هنا قطعًا أن لرأي المؤمنين أيضا دخلاً في اختيار الخليفة، لكن واقع الأمر أن قدر الله يعمل عملَه.

أمارات الخليفـة

ثم ينشأ التساؤل عن الأمارات التي يمكن بها معرفة الخليفة الحق. فاعلموا أن للخليفة الحق علامتين بارزتين بحسب القرآن والحديث، أُولاهما هي تلك التي ذُكِرت في سورة النور في قوله تعالى: ﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ (النور:56).. أي أن الله سيقوّي ويعزّز الدين بالخلفاء الصادقين ويبدّل خوف المؤمنين أمنًا، وهؤلاء الخلفاء يعبدونه وحده فقط ولا يشركون به شيئا. فكما تُعرف كل شجرة بأثمارها المادية فإن الخليفة الحق يُعرف بأثماره الروحية التي قدّرها الله له منذ الأزل.

أما العلامة الثانية فقد وردت في الحديث، وهي أنه يجب أن يتم انتخاب الخليفة – عدا الظروف الاستثنائية – بإجماع المؤمنين أو الأغلبية الساحقة، وذلك لأنه مما لا شك فيه أن قضاء الله يعمل عمله، إلا أن الله حسب تدبيره الحكيم يجعل لرأي المؤمنين دخلا في اختيار الخليفة في الظاهر كما قال رسول الله ﷺ عن خلافة أبي بكر “يدفع الله ويأبى المؤمنون” (البخاري، كتاب المرضى).. أي لن يدَع قدرُ الله أحدًا ليُنتخَب خليفةً غيرَ أبي بكر، كما أن جماعة المؤمنين لن تتفق على غيره. فالعلامة الثانية لكل خليفةٍ حقٍّ أن المؤمنين ينتخبونه أولاً، ثم ينصره الله ويؤيده بعمله ثانيا، ويتقوّى به الدينُ. وهناك علامات أخرى لا يتسع المجال لذكرها هنا مفصلا.

بركـات الخلافـة

إن نظام الخلافة – كما ذُكِر أعلاه – نظام جدُّ مباركٍ يُطلِع الله به قمرَ النبوة بعد غروب شمسها في الظاهر، ويعصم الجماعة الإلهية الحديثة الولادة مِن أضرار تلك الصدمة التي تقع عليها كالكارثة بعد وفاة النبي. إن مهمة النبي كما يثبت من القرآن الكريم تتمثل في تعليم جماعة المؤمنين دينيًا وتربيتهم روحيًّا وأخلاقيًّا ولَمِّ شملهم وتنظيمهم، بالإضافة إلى تبليغ الهداية، وكل هذه الأعمال تنتقل بعد وفاة النبي إلى الخليفة الذي يحمي الجماعة من التشرذم، ويُبقيها منظومة في سلك  واحد متين.

وعلاوةً على ذلك فإن شخص النبي يشكّل لأفراد الجماعة مركزًا روحيًا لأواصر الحب والإخلاص، يتعلمون به درسًا ذهبيا للوحدة والتضامن والتكاتف، والخليفةُ يتسبب في تجدُّد درس الوفاء هذا، ولذلك قد وصف رسول الله ﷺ الجماعة التي تلازم الخليفة – لكونها متحدة على يد واحدة – أنها نعمة كبيرة، واهتمّ بها جدًّا، ولعن الذي يحاول خلق الفُرقة فيها، فقال ﷺ: “مَنْ شَذَّ شذَّ في النَّارِ.” (المستدرك).. أي أن الذي ينشقّ عن الجماعة ويُحدِث فيها الفُرقة والتشتت فإنه يفتح باب النار على نفسه. ويقول النبي ﷺ في موضع آخر: “عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين” (مشكل الآثار للطحاوي، باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله ﷺ في الزمان الذي يجب على الناس فيه الإقبال على خاصتهم وترك عامتهم).. أي أيها المسلمون، يجب أن تتّبعوا سنّتي في الأمور الدينية، كما يجب أن تتبعوا في زمن خلفائي من بعدي سنتهم أيضا، لأنهم سينالون الهدى من الله.

فنظام الخلافة نظام جد مبارك يؤدي إلى وحدة الجماعة والمركزية اللتين تكون الجماعة الحديثة الولادة بأمس الحاجة إليهما، كما يتجلى بفضل الخلافة نور النبوة على رأس الجماعة. وهذه من أكبر النعم وأعظم البركات.

صلاحيات الخليفـة

أما فيما يتعلق بصلاحيات الخليفة فيجب أن تتذكروا نقطة أساسية لاستيعاب هذا الأمر، وهي أن الخلافة مؤسسة روحية ينـزل فيها حق الحُكم من الأعلى إلى الأسفل (أي مِن الله تعالى إلى خليفته في الأرض)، وبما أن نظام الخلافة فرعٌ للنبوة، ومن ناحية أخرى قد اكتملت الشريعة إلى الأبد، لذا فإن الخلافة تحظى بصلاحيات واسعة داخل حدود الشريعة والسنة النبوية.. أي أن الخليفة يحوز أوسعَ الصلاحيات لتنظيم الجماعة الإلهية وتنسيقها ضمن حدود الشريعة الإسلامية وداخل نطاق سنة نبيه المتبوع.

إن الشباب المعجبين بالديمقراطية المعاصرة يتعجبون من سعة صلاحيات شخص واحد، ويقولون: كيف يمكن أن يملك شخص واحد صلاحيات واسعة هكذا؟ ولكن عليهم أن يفكروا أن الخلافة ليست قِسْمًا من أي نظام ديمقراطي أو دنيوي، وإنما هي جزء لنظام ديني وروحاني يتفرع حقها من حق الله، وتكون يد الله مع الخلفاء دائما. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ما دامت الحدود الشرعية القوية محيطة بالخليفة ولا يستطيع أن يتجاوز حدود سنة نبيه المطاع، فكيف يجوز إذًا الاعتراض على سعة صلاحياته؟ ومن المؤكد أن شخص الخليفة بعد النبي نعمة ورحمة، وإن كثرة الرحمة واتساعها مدعاة للبركات لا للاعتراض.

هذا، ويقول الإسلام أيضا، بما أن رأي المؤمنين أيضًا يتدخل في انتخاب الخليفة في بادئ النظر لذا عليه أن يستشير المؤمنين في القضايا الهامة. إنه ليس ملزَمًا بالتقيد بمشورتهم في كل الأحوال، لكنه مُطالَبٌ بأخذ المشورة، وذلك لكي تستمر التربية الدينية للجماعة على الصعيد السياسي وغيره من ناحية، ومن ناحية أخرى تتولد البشاشة والانبساط أكثر في الجماعة بقبول مشورتهم في الأمور اليومية. أما في الأوضاع الخاصة فليبقَ مبدأُ ﴿فإذا عزمت فتوكل على الله﴾ أيضا ساريَ المفعول. هذه نكتة لطيفة، ولكن قليل هم الذين يتفكرون.

 مسألة عزل الخليفـة

إن الذين لا يدركون منـزلة الخلافة ومكانتها السامية يتخبطون أحيانا لسفاهتهم في مسألة عزل الخليفة. إنهم يعتبرون الخلافة نظاما دنيويا مثل الأنظمة الديمقراطية الأخرى، ومن ثَمَّ يبحثون عن طريقٍ لعزل الخليفة حسب الضرورة. هذا الخيال ينمّ عن جهل وغباء، وهو ناجم عن عدم إدراك المنـزلة الحقيقية للخلافة. الحقيقة – كما ذكرنا آنفا – أن الخلافة نظام روحاني يستند إلى قدر خاص من الله كتتمةٍ للنبوة. لا جرم أن فيه – حسب مشيئة الله – دخلاً لآراء الناس أيضا في بادئ النظر، لكنه في الحقيقة يقوم بمشيئة الله الخاصة، ثم إن الخلافة من أسمى النعم الإلهية؛ فلا مجال لعزل الخليفة بحال من الأحوال. ولهذا قال رسول الله ﷺ مشيرا إلى خلافة عثمان ؓ: “يَا عُثْمَانُ إِنَّهُ لَعَلَّ اللهَ يُقَمِّصُكَ قَمِيصًا فَإِنْ أَرَادُوكَ عَلَى خَلْعِهِ فَلا تَخْلَعْهُ لَهُم” (سنن الترمذي، كتاب المناقب). وهذا الحديث الموجز يتضمن فلسفة القيام المبارك للخلافة، كما يميط اللثام عن الجهود الخبيثة التي ستُبذَل لعزل الخليفة.

ثم لا يفكر هؤلاء السفهاء في أنه إذا كان الله تعالى هو الذي يختار الخليفة، ومع ذلك يرون أنه يجوز النقاش حول عزله، فلِمَ لا يجوز النقاش حول عزل النبي، والعياذ بالله؟ فالحق أن عزل الخليفة لا يمكن طرحه على بساط البحث نهائيا. هناك سبيل وحيد فقط لعزل الخلفاء، ألا وهو أن يرفعهم الله من الدنيا بالموت. تذكروا جيدا أن قضية عزل الخليفة فرع لإقامة الخلافة، وليس سؤالا مستقلا، فإذا ثبت بصورة قطعية أن الله هو الذي يجعل الخليفة – كما يعلن القرآن مرارا وكما صرّح بذلك رسول الله ﷺ بخصوص خلافة أبي بكر ؓ وخلافة عثمان ؓ – فمن المحال أن ينشأ في قلب المؤمن الصادق، ولو للـحظة واحدة، السـؤال عن عزل الخليفة.

إن الإسلام دين النظام والنسق بحيث لا يسمح لأتباعه بالتمرد أو الإطاحة بالحكام الدنيويين العاديين الذين يصلِون إلى سُدّة الحُكم بناءًَ على رأي الناس أو يرثونه عن آبائهم، “إلا أن تروا كُفْرًا بَوَاحًا”، في تصرفاتهم.. كما قال رسول الله ﷺ.. فكـيف يـسمح بخلـع خلفاء الله وخلفاء النبي الطاهرين؟ هيهات هيهات!….”

(“الفرقان” الصادرة في ربوة، عدد مايو/يونيو 1967)

بقلم: حضرة مرزا بشير أحمد ؓ

ترجمة: الداعية محمد أحمد نعيم

نقلا عن: عن مجلة التقوى لسان حال الجماعة الإسلامية الأحمدية العالمية

 

About الخليفة الثاني للمسيح الموعود المصلح الموعود مرزا بشير الدين محمود أحمد رضي الله عنه

View all posts by الخليفة الثاني للمسيح الموعود المصلح الموعود مرزا بشير الدين محمود أحمد رضي الله عنه