ليس كل الظواهر الطبيعية المؤسفة كالفيضانات والزلازل والعواصف والبراكين الخ عقوبات إلهية، بل منها ما يحدث لأسباب مختلفة لا بد أن تخدم غرضاً ما لا نحيط به وعلمه عند الله تعالى، لأن الظواهر الطبيعية كلها بيد الله تعالى.

عندما نقول ظواهر أو كوارث طبيعية فلا نعني أنها مستقلة عن الله تعالى وقدرته وعلمه وإرادته، بل هي بالكامل تعمل وفق سنن الله تعالى وحكمته وتحكّمه سبحانه وتعالى. فكون بعضها عقوبات كما ورَدَ في القُرآن الكَرِيم وفي كتب الأديان الأخرى لا يعني أنَّ جميع هذه الظواهر هي أيضاً عقوبات، بل منها ما هو حوادث فقط لا علاقة لها بعقوبة أحد ولكن قد تكون في وجه وجزء منها في الجانب الآخر عقوبة لأحد، فالله تعالى هو الذي يحكم كُلّ شيء في هذا الكون وهو تعالى الذي يحدّد الوقت المناسب لعقاب مَن يشاء فيختار الأسباب بعلمه وحكمته لتكون حوادث عادية من جهة وعقاباً لأحد أو لمجموعة ما من جهة أخرى، وكلها تخدم أغراضاً ومصالح لا نحيط بأكثرها علماً وأكثرها نتيجة إهمال الإنسان وأخطائه وظلمه لنفسه، فالتلوث البحري على سبيل المثال هو نتيجة إلقاء الناس بالمخلفات المختلفة في الماء، بل حتى الجو يسوء نتيجة الدخان المتصاعد من المخلفات الصناعية التي يتقاعس البشر عن تدويرها أو التخلص منها بطريقة تضمن المحافظة على الغلاف الجوي للأرض. كما أنَّ الكوارث الطبيعية التي تسير وفق أسباب وقوانين كونية والتي يرسلها الله تعالى بحكمته حيث يشاء والتي تكون عقاباً هنا وحادثة اعتيادية وتوظف الطبيعية منها لأغراض ومنافع أخرى هناك إنما تقدّم كلّها للإنسان رسالة مهمة وهي الدرس والتحذير والعبرة مما يحدث نتيجة لعدم الاهتمام والأخطاء الفادحة. أما المظاهر الطبيعية التي لا تكون نتيجة مباشرة لفعل الإنسان ففيها جوانب كارثية وأخرى مفيدة أيضاً، فالمطر في مكان ما على سبيل المثال قد يكون سبباً للهلاك، بينما في مكان آخر بنفس الوقت أو بغيره يعتبر المطر نعمةً عظيمةً للزروع والحاجات المختلفة.

إذن، كُلّ مَن يشاهد أو يسمع أو يشعر بهذه الظواهر فإن الرسالة التي تصل إليه مباشرة، هي أنَّ عليه أخذ الحذر والعبرة من هذه الكوارث، فالحيوانات التي ماتت والبشر الآخرين الذين قضوا في طوفان نوح لم تكن العقوبة تشملهم ولكن كانت مجرد حادثة طبيعية أصابتهم فقط بينما عوقب قوم نوح المعتدين بنفس الظاهرة الطبيعية، فتكون الظاهرة كارثة/عقوبة من جهة وحادثة عادية أو نعمة من جهة أخرى، فيجب النظر عندها؛ هل هنالك فساد مادي وأخلاقي مستشر في تلك البقعة من العالم تزامن مع عدم استقرارها بهذا الشكل المهول أم أنَّ كل شيء على ما يرام. فإذا لَمْ يتّعظ الإنسان ويسارع إلى الاعتماد على الله تعالى والتزام تعاليمه ومن بينها أن يحافظ على البيئة وحمايتها وصيانتها فلن يلوم إلا نفسه.

يمكن مراجعة كلام خليفة المسيح الرابع حضرة مرزا طاهر أحمد رَحِمَهُ الله في هذا الشأن بتفصيل رائع من سلسلة مقالات حضرته بعنوان “كوارث طبيعية أم عقوبة إلهية؟” المنشورة في مجلة “مراجعة الأديان” الأعداد ديسمبر 1993-أبريل 1994.

فالمحصلة هي أنَّ المسؤولية تقع على المجتمع كلّه في المحافظة على الأخلاق والتعاملات الإنسانية ولا يمكن النهوض بمجتمع دون تعاون الجميع. أي أنَّ الحل هو في إصلاح النفس. وفي هذا الجانب نقتبس من كلام خليفة المسيح الرابع في موضع آخر حيث يقول حضرته رحمه الله:

لمْ يُعهد بمسئولية تعليم الجمهور إلى الحكومات وحدها بـل إنَّ فِعـل الخيرات واجتناب الشرور هي مسئولية الشعب نفسه. ففـي المجتمعات المتطورة يقوم جامعو القمامة بجمع النفايات مـن البيـوت والطرقـات للتخلص منها، أما في البلاد الفقيرة فتُلقي ربّة البيت ببساطٍة المهمـلات والنفايات في الطرقات العامة فتمتلئ بالأقذار ولا تصلح للمارّة. وطبعـاً تقع على السُكان مسئولية المحافظة على النظافة داخل البيوت، ولكن لا بد من أن يكون هناك نظام يحفظ الطرقات وسبل المرور نظيفة. ومما يؤسف له أنٌ الغرب الذي تعلم أهمية المسئولية الجماعية في المحافظة على نظافة الأماكن العامة، لم يدرك بعد حاجته الماسّة إلى حمل مـسئولية تطهير المجتمع من نفايات الإجرام البشري، التي تنسكب كـل يـوم في البيوت والطرقات والأماكن العامة! يعاملُ الإسلام هذه المسألة بشمولٍ أوسع. ويقع العبء الأول على كبار العائلة لتقليل النفايات الإنسانية، كي يكون الإسهام بالخير نحو المجتمع أكثر منه بالشر. ثم يثبّث الإسلام المسئولية على المجتمع –على المستوى الفردي والجماعي– فيشنّ حرباً مقدسة ضد الشر، ولا يتوسّل إلى ذلك بالسيف أو بالقوانين المقيِّدة للحرّية بل بالوعظ والنصح والحكمة وحسن المشورة. إنَّ الوعظ والترغيب بصبر –في نظر القرآن– هما أفضل الوسائل لتطهير المجتمع من الأمراض الاجتماعية: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آلِ عِمْرَانَ). ينبغي أن يكون من بينكم جماعة تكرّس جهودها لوعظ الناس بفعـل الخير، وتأمرهم بفعل ما هو طيّب واتباع الإنصاف، وتنهاهم عن الشرور. وهؤلاء هُم المفلحون، أي أنَّ مثل هذه المجتمعات سوف تفلح وتزدهـر ويكتب لها البقاء، لأنه يمكن فهم المفلح هنا على أنه الأصلح للبقاء. وينبغي ألا يفهم من هذه الآية أنَّ أسلوب الإسلام في صيانة الـصحة العامة والرخاء يعفي الحكومة فلا تؤدّي أي دور فيه، كـلا، فالجانـب القانوني وتطبيقاته هي بالطبع من اختصاص الحكومات، ولكن الحقيقـة التي أحاول التأكيد عليها –طبقاً للإسلام– هي أنَّ الأجهـزة الحكوميـة وحدها غير كافية لكبت ومنع وتقليل الجريمة. فإذا سُمح للميول الإجرامية أن تنمو وتزدهر في البيوت والمجتمعـات بصفة عامة، فإن خير ما تستطيع الحكومة فعله هو إزالة أعراضـها مـن وقتٍ لآخر. أما الجذور المسببة للشرّ فهي أعمق من أن تصل إليها ذراع القانون مهما طالت. إنَّ اجتثاث الشرّ هو المهمة الأوّلية للأُسر والقـادة الدينيين وقادة الرأي العام في كل مجتمع. وبهذه الآية ونظائرها من القرآن الكريم تحت نظر نبي الإسلام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أعلنَ ذات مرة أن الأمم السابقة وصلت إلى حال مأساوي لأن النـاس عـصوا السلطات ومالوا إلى العدوان، فلم ينْه بعضهم بعضاً عن ارتكاب المظالم. ثم عقَّبَ على ذلك بقوله: “كلا والله لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عـن المنكـر ولتأخذُنَّ على يد الظالم ولتأطرُنّه –أي تردُّنه– على الحق أطْراً ولتقصُرنه –أي تحبسُنه– على الحق قصرا أو ليضربن اللهُ بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكُم كما لعنهم.” (رواه أبو داود والترمذي). وعن النبي ﷺ أنَّ مِن أخطر علامات انحطاط الأمم أنَّ الناس يفقـدون الشجاعة فلا يُبدون سخطهم على المجاهرة بأعمال الفسق وسوء السلوك، ويضرب النبيُّ ﷺ مَثلَ هذه الأمم في حديث له ﷺ عن النعمان بن بـشير رضي الله عنهما قال: قال النبي: “مَثلُ القائم في حدود الله –أي مَن يدفع ويُزيل المحارم التي نهى اللهُ عنها والواقع فيها –أي مرتكبها– كمَثل قوم اسـتهموا –أي اقترعـوا– على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها. وكان الذين في أسفلها إذا استَقوْا من الماء مَرُّوا على مَن فوقهم فقالوا: لو أنّا خرقنا في نـصيبنا خرقاً –أي فرجة يصلون منها إلى الماء– ولم نُؤذ من فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإنْ أخذوا على أيديهم –أي منعوهم من فعـل ذلك– نجوا ونجوا جميعا.” (رواه البخاري). وأخشى أنَّ هذا المثَلَ ينطبقُ إلى حَدِّ كبير على المجتمعات في عالمنا المعاصر.” (الإسلام والتحديات المعاصرة، ص 108-110) (يمكن تحميل الكتاب من هنا)

وفي نفس الخصوص نقتبس من كلام خليفة المسيح الخامس حضرة مرزا مسرور أحمد أيَّدَهُ اللهُ بِنَصْرِهِ العَزِيز حيث يتناول هذا الموضوع كما يلي:

النقائص والعيوب دوماً على نوعين أحدهما النقائص والعيوب الفردية والثاني النقائص والعيوب الملّية القومية، وكذلك للمحاسن أيضاً نوعان، هما المحاسن الفردية الشخصية والمحاسن القومية. فالنقائص الفردية هي ما توجد في الأفراد شخصياً لكنّ القوم على المستوى القومي يكون منزهاً منها. وكذلك حال المحاسن، إِذْ يتحلّى بها بعضُ الأشخاص ولا يتّصف بها القوم كلّهم. الأفراد يتمكنون من خلق بعض المحاسن فيهم بعلمهم وببذل الجهود، وكذلك تتسبب أوضاع كُلّ إنسان وبيئته في وجود النقائص عنده. بخصوص الحسنة والسيئة يجب الأخذ بعين الاعتبار أنَّ الصلاح أو الطلاح أو النقص أو الميزة تتولّدُ من تأثيرات البيئة أو المحيط. ومثَلها كمثل البذرة التي لا تنبت إلا في المشاتل والمستنبتات أو التربة الصناعية التي تتمتع بجذب الماء وإنبات البذرة وتنْميتها، فهي تُصنع للزراعة وتوضع في الأواني الكبيرة. وهذه الزراعة تتمّ في قاعات كبيرة. باختصار لا تنبت البذرة دونها. فالاستفادة من أي بذرة على وجه صحيح ونيل الهدف من زرعها يحتاج إلى تربة ملائمة أو بيئة تماثلها. فبدونها إذا نبتت البذرة فسوف تموت عاجلاً، ومثل ذلك تنشأ الحسنة والسيئة التي تنشأ بسبب النقائص أو الميزة إنما تنشأ من تأثيرات البيئة والمحيط. … إذا كان الفساد قد أصاب الكلَّ فالجزء أيضاً يتأثر به. فإذا كان المحيط في منطقة معينة فاسداً فلا بد أن يتأثر به سكانها كلُّهم. فلنأخذ مثال الجسم الإنساني، فإنْ أكَلَ أيُّ إنسانٍ سَمًّا فيستحيل أن لا يؤثّر ذلك السمُّ في يده وقدمه ودماغه أو أعضاء جسمه الأخرى. كلّا بل سوف يؤثِّر في الجسم كله. وكذلك حين نأكل اللحمَ والفواكه والمأكولات الأخرى يستفيد منها كُلُّ جزء من جسمنا. لأن كُلّ هذه الأعضاء أفرادٌ للكل أي الجسم. ولذا تتأثر من السمّ والطعام الطيب أيضا. وكذلك الحسنة والسيئة التي تصيب القوم كلَّهم تؤثّر في جميع أفراد القوم. فالسيئات القومية لا يتمكن من مقاومتها جزءٌ معين من الجسم أو الفرد الواحد، أو لا يتم الإصلاح القومي نتيجة مساعي فردٍ واحدٍ فقط. كما لا يمكن بها إزالة السيئات ونشر الحسنات. لأن الكل يؤثر في الجزء حتما. باختصار، من القاعدة أنَّ الكلّ إذا استفاد من شيء استفاد منه الجزءُ أيضاً، وكذلك إذا تضرّر الكل تضرّر الجزء أيضا. فإزالة سيئات الأفراد بعد تشخيصها وعلاجها ممكنة، كما أنَّ أحداً إذا نشأ لديه إحساسٌ شخصي فيمكن أن يزيله ببذل الجهود شخصيا. أما إزالة المفاسد القومية فتقتضي تفكير القوم كلهم. وإذا لَمْ ينهضوا قومياً لإزالة السيئات ولمْ يبذلوا الجهود لها وَلَمْ يستعدّوا لعلاجها فتلك السيئات والنقائص تنتشر فيها قومياً ثم يأتي زمانٌ تؤدّي فيه إلى هلاك القوم كلِّهم. فإذا كان واجباً من ناحية أن يستعرض كُلُّ واحدٍ مِنّا نقائصَ نفْسهِ ففي الوقت نفسه يجب أن ننظر إلى نقائصنا الجماعية من حيث القوم أيضاً ونُشخِّصها ثم نهتمُّ جماعياً لتداركها وعلاجها. وفي هذا العلاج يجب أن يؤدي كُلُّ واحدٍ دورَه، لأننا لا نستطيع أن ننجح دون بذل المساعي الجماعية للعلاج. إذا نظرتم في القانون المادّي أيضا فتجدون أنَّ أيّ فلّاح مثلاً لا يقدر على حماية أرضه من الفيضانات بإقامة السدّ، لأن بناء السدود والتخطيط له من مهمّات الحكومة. حيث تقوم الحكومة بالمساعي العامة، لأن الحكومة تمثّل المجتمع. فالمناطق التي حكومتها فاسدة يتضرر القوم كلهم، كما رأينا في باكستان في الآونة الأخيرة في الفيضانات في الصيف ونلاحظه دوما. إنَّ الاحتماء من بعض الكوارث الطبيعية ممكن، وصحيح أنَّ مقاومة الكوارث الطبيعية صعب، إلا أنَّ الاحتماء من بعضها ممكن، إِذْ قبل حدوث بعضها تظهر مقدِّماتها التي تنبِّه عنها، لكنّ الإنسان لعدم مبالاته لا يهتمُّ بها، ويتضرّر. باختصار إذا لَمْ يبق عند القوم أو الحكومة إحساسٌ بمسئولياتهم فتزداد الأضرار أضعافاً مضاعفة. وهذا ما نلاحظه في العالم بشكل عام. فالإحساس القومي ضروري للإصلاح، فقََدْ قَالَ سيّدنا المُصْلِحُ الموعودُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وهو يلفت انتباه الجماعة إلى أهمّية النظر إلى هذه السيئات وكيف يجب أن نفكر فيها. قَالَ إذا فكَّرت الجماعة في هذا الخصوص مِن بعض النواحي وعالجَتْها فيمكن أن يكون ذلك مُفيداً، ولها وسائل مختلفة، فهذه الوسائل يمكن أن تشخِّص الأمراض الجماعية، وبعد التشخيص يمكن العلاج.” (من خطبة الجمعة بتاريخ 13/02/2015)

إذن ليست كُلّ الظواهر الطبيعية عقوبات إلهية بل تكون عقوبات تارة وحوادث تارة أخرى وفيها منافع نعرف منها ونجهل ومن أسبابها أخطاء الإنسان أيضاً، ولكنها بمجموعها عبارة عن دروس وعِبَر وتحذيرات لإصلاح النفس ومن ثم يتحقق صلاح المجتمع وتجنّب كوارث جمة، وهي مسؤولية الجميع.

وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

About الأستاذ فراس علي عبد الواحد

View all posts by الأستاذ فراس علي عبد الواحد

One Comment on “هل كل الكوارث الطبيعية عقاب إلهي ؟”

  1. بارك الله فيكم “سبحان الله كل ما حولنا يخبرنا ان الله عزى وجل واحد أوحد لاشريك له غني عن الحاجة للغير؛انما نحن الضعفاء لاحول لنا ولاقوة الا بالله عزى وجل نحتاج اليه سبحانه وتعالى والى بعضنا البعض لتفاوت كفائتنا وقدراتنا التي هي في الاصل محدودة وعلينا ان لا نحتقر ابسط الأمور ناهيك عن اكبرها.
    شكرا لكم.

Comments are closed.