قبل ما يقارب السنتين، وأنا في الطريق مسافرا، قال لي أخ أحمدي بسيط ولكنه مخلص، عادة ما يوصلني إلى المطار والحدود، وكانت علائم السرور بادية عليه، بأنه قد رأى أمير المؤمنين الليلة في المنام، ثم بدأ يحدثني بالرؤيا فقال:
“رأيت أن أمير المؤمنين قد جاء إلى هنا إلى الأردن، وكان الوقت شهر رمضان، وكان يخطب فينا في مدينة الزرقاء، وأثناء الخطاب توقف قليلا ونادى قائلا بصوت مرتفع نسبيا: على الجُنُبِ فيكم أن يخرجوا!.. فلم يخرج أحد.. ثم كرر النداء بصوت أعلى وأكثر حزما: على الجُنُب فيكم أن يخرجوا!.. فخرج ثلاثة ناكسي رؤوسهم أذلاء ووقفوا عند المنصة، فقال لهم حضرته: اخرجوا.. ولا حاجة بكم أن تصوموا.. ثم قال حضرته: هؤلاء هم المنافقون!”
فاستغربت من رؤياه هذه، إذ أنه بالفعل كانت هنالك فتنة في مدينة الزرقاء، وكان على رأسها ثلاثة، وكان قد رُفع فيهم تقرير إلى أمير المؤمنين، ولم يكن هذا الأخ بالذات يعلم عن أمرهم شيئا، كما لا يعرف عن هذا التقرير الذي لا يعرفه سوى دائرة ضيقة من ثلاثة أو أربعة، والأعجب أنه قال بأن هذا الحدث سيحدث في رمضان، وكان رمضان سيهلُّ علينا بعد ما يقارب الشهرين! فقلت له: إذن ستعرف الخبر في رمضان.
ثم بالفعل في رمضان، جاء أمر أمير المؤمنين بطردهم من نظام الجماعة! والعجيب أن هذه الرؤيا قد حددت عددهم، ومكانهم، ووقت طردهم أيضا، فهل هذا يمكن أن يُعزى هذا إلى الصدفة أو حديث النفس؟!
كان هذا الأمر كافيا لهذا الأخ الكريم، عندما علم بخبر طردهم لاحقا، أنهم لا شك على الباطل، وأن حججهم وفتنتهم التي يقدمونها لا قيمة لها ولا وزن، وأن اتهاماتهم للأحمديين ولنظام الجماعة كاذبة، لأن الله تعالى قد منَّ عليه بهذه الرؤيا التي آتته يقينا لا يمكن أن يتولد بحجة ولا بإقناع.
وهذه القصة ليست سوى عينة من قصص كثيرة، كثيرا ما تحدث مع الأحمديين، ولكنني اخترتها خاصة لأنها تتعلق بالمنافقين والمرتدين الذين يشككون بكل شيء وعلى رأسه الوحي، وخاصة وحي المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام، فإذا كان الوحي قد جاء للبسطاء من الأحمديين، وأخبر عن حالهم هم وموقفهم وعاقبتهم قبل الوقت، ثم تحقق تماما، فهل يبقى لاعتراضهم أي قيمة؟
وهكذا، فقد أخبر الله تعالى عددا من الأحمديين عن طريق الرؤى والتجارب الروحية بعاقبة هذا المعترض المرتد الأخير منذ سنوات، بل بعضهم منذ عشرات السنين، وقبل أن تبدأ بوادر فساد إيمانه بالظهور، بل كان يبدو في قمة إخلاصه. وكان بعضهم قد أرسلوا إليه هذه الرؤى وأخبروه بها، وبعضهم لم يخبروا، وبعضهم أخبروني شخصيا فسعيت لتأويل الرؤى حينها على وجه حسن ما أمكن، أو قلت لهم أن يستغفروا الله تعالى فلعلها تخبر عن حالهم هم أو لعلها من حديث النفس أو نفث الشيطان، وهذا كان اتِّباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤى، إذ لا بد للسعي لتأويل الرؤى على أحسن وجه ما أمكن. وعندما بدأت أموره تتردى، بدأت الرؤى تتكاثف أكثر، وبعضهم أخبر بتفاصيل مذهلة عن حالته، وهم لم يكونوا يعلمون شيئا!
وبالطبع، هذا لا يعني أن الجماعة قائمة على الأحلام والأوهام كما يحاول هؤلاء الترويج له مستهزئين، فالجماعة تقدِّم حججا بالغة راسخة قوية ومنظومة متكاملة فكرية أعادت للإسلام بهاءه وجعلته عصيا على الشبهات، وهذا ما جذب كثيرا من الأحمديين أيضا بفضل الله تعالى، لأن الجماعة الحق لا بد أن يكون الحق على لسانها وفي عملها. وعلى نطاق العمل أيضا نجد أن الجماعة تقدم أمثلة من التفاني والإخلاص والتحاب والتوادد والتراحم مما يذهل كل مراقب، ويضطر بأن يعترف بهذه الميزة للجماعة المفقودة عند غيرها. فهذه كلها علامات الصدق والحق. ولكن الله تعالى أيضا لا يترك عباده دون أن يمنَّ عليهم بأخبار الغيب التي تولِّد فيهم اليقين الحقيقي الذي لا يتولد بمجرد مناقشة المسائل العقلية المحضة التي تجلب فقط نوعا من اليقين الاستنتاجي الذي يسمى علم اليقين، والذي من السهل جدا أن يتلاشى عند اضطراب أو محنة؛ لأن العقل يكون مغيبا في حالة الحب الشديد أو الخوف الشديد أو القلق الشديد، ولا يجلب الطمأنينة سوى ثمرات الوصال الإلهي التي تجعل الإنسان يتحدى الصعاب ويمخر عبابها بكل قوة. وهذه كانت سمة المؤمنين منذ عصر الصحابة الكرام إلى اليوم.
أما هل من الضروري أن ينشر كل من يتلقى وحيا وحيه؟ فالواقع أن أولياء الأمة كانوا يتلقون الوحي الكثيف، وقلَّما كانوا يخبرون عنه، لأن هدفه في الواقع هو التثبيت وإظهار الحب الإلهي، وهو هدية وتجربة شخصية غالبا ما تخص صاحبها، وكانوا يرون إظهار الوحي بغير ضرورة من سوء الأدب مع الله تعالى، لأن العلاقة الخاصة بالله تعالى تكون كعلاقة الحبيب بحبيبه الذي لا يفشي تفاصيلها للناس، كما أنهم كانوا يخشون الوقوع في العُجب والكبرياء نتيجة إظهار هذه التجارب الروحانية مع الله تعالى. فلم يظهروا إلا ما يؤمرون به من الله تعالى مضطرين. وقد بيَّن المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام أنه لا يجوز نشر الوحي والحديث فيه لغير المأمور والمبعوث لهذه الأسباب، وذكر أنه ينشر وحيه مضطرا وبأمر من الله تعالى، ولهذا بدأ بنشر وحي له في كتبه كان قد تلقاه قبل سنوات، وهذا بعد أن أمره الله تعالى وبعثه في عام 1882، وإلا قبل ذلك فكان يراه خاصا به ولا حاجة لنشره. وهكذا بالنسبة للخلفاء، فرغم أنهم يتلقون الوحي الإلهي كثيرا، إلا أنهم لا يفشون إلا ما يؤمرون به، مع أنهم يُطلعون على أمور وأخبار تتعلق بكثير من التفاصيل حول الأشخاص وأحوالهم، ولا أقول ذلك نظريا فحسب، بل بفضل الله تعالى قد اطلعت على بعض هذه الأمور من الخلافة مباشرة.
وهنا ربما من المناسب التبيان أن للوحي طبيعة تجعل باب التوبة والاستغفار مفتوحا لكي يغير الشخص المنذَر عاقبته. كما أن الوحي أحيانا يبين حالة الشخص في وقت ما، إذا كانت هذه الحالة حسنة، لكي يشجعه على الاستمرار فيها ولا يسير نحو عاقبته المنذَر بها. ومن أمثلة ذلك ما حدث مع مير عباس علي الذي كان من أوائل مريدي المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام ثم من أوائل المبايعين، والذي أوحى الله للمسيح الموعود في حين ما عن حاله بأن إيمانه ثابت وراسخ، ولكن في نفس الوقت كان الله تعالى الوحي قد أخبر حضرته أن فيه عيبا خطيرا قد يجعل عاقبته سيئة، وقد أخبر حضرته هذا الشخص بهذا الوحي المنذر، وحثه على أن يهتمَّ بنفسه، ولكن للأسف غلبت عليه شقوته، ووقع به ما كان أُنذر من قبل. فذكر حالة حسنة لشخص في وقت ما ستكون لاحقا عاقبته سيئة لا يعني أن هنالك خللا في الوحي، بل هذا من طبيعة الوحي، إذ إن الله تعالى ينذرنا أحيانا في الرؤى والوحي لكي يتوب الإنسان ويستغفر ويتصدق فيتغير هذا القدر، وإلا لو كان سيقع حتما، فما قيمة الإنذار؟ أما إذا لم يهتمَّ الإنسان بهذا الإنذار الإلهي فسيقع فيه ما أُنذر به حتما. فهذه الحادثة تكشف جانبا هاما من طبيعة الوحي، ولكن للأسف ترى المعارضين يذكرون جزءا منها ويتغافلون عن قصد عن الجانب الآخر، وهو أن حضرته قد أنذره من قبل عن سوء العاقبة.
باختصار، فإن الجماعة الإسلامية الأحمدية إنما هي جماعة الآخرين الملحقة بالأولين، وهي تسير على خطى الصحابة الأطهار وأولياء الأمة الصلحاء على مر عصورها، وكما أن الله تعالى قد تعهد بأن يثبت الذين أمنوا بالقول الثابت في قوله تعالى:
{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } (إِبراهيم 28)
فكما كان هذا عهده مع الصحابة والأولياء فهذا مستمر في جماعة المؤمنين الحقة، الجماعة الإسلامية الأحمدية. وصدق الله تعالى إذ قال للمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام: “ينصرك رجال نوحي إليهم من السماء”. أما المعارضون فليس لهم نصيب في هذا، وهم واقعون تحت قبضة الشيطان، وأصبح بعضهم لبعض شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ.
أما شبهاتهم، فليست سوى الشبهات ذاتها التي أثارها أعداء الأنبياء مقابلهم، دون أدنى فرق، وهم وشبهاتهم ليسوا سوى كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ.
فليفعوا ما يشاءون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.