من طيور الأحمدية في الغرب 61
أول مسلم في فيلادلفيا
وُلد “أنتوني جورج بيكر Anthony George Baker” في مدينة بيتسبيرغ بولاية بنسلفانيا الأمريكية في الثاني من فبراير عام 1849 لأب ألماني اسمه الدكتور “جاكوب بيكر Dr Jacob Baker” ووالدته “ماري كاثرين بلات Mary Catherine Platt” حيث تلقى الطفل أنتوني تعليمه المبكر في المدارس الحكومية ليتخرج عام 1869 من جامعة بيتسبيرغ حاصلاً على بكالوريوس الآداب ثم الماجستير في الآداب. التحقَ أنتوني فيما بعد بالمدرسة اللاهوتية الغربية لولاية بنسلفانيا ليتخرج منها في عام 1873 بدرجة البكالوريوس في اللاهوت ليُعَيّنَ فيما بعد قسيساً للكنيسة المشيخية Presbyterian Church.
تعمّق القس الجديد أنتوني بيكر في اللاهوت، وخلال فترة وجوده في أتلانتيك سيتي وجد نفسه أكثر ميلًا إلى عقائد الكنيسة الأسقفية فقرّرَ التحول إلى الأسقفية حيث خدم في عام 1878 كمساعد لعميد كنيسة القديس جورج في فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا. وبعد عام تم تعيينه كاهنًا ثم كعميد مساعد ثم رئيس الجامعة لكنائس ولاية بنسلفانيا، كما أنه كلَّل مسيرته بتأسيسه لكنيسة القديس سيمون في فيلادلفيا St. Simeon’s Church.
لم تثن واجباته ومشاغله كرجل دين أنتوني من مواصلة الدراسة في مجال آخر حيث انضمَّ أيضا إلى كلية جيفرسون الطبية بجامعة توماس جيفرسون وتخرج في عام 1887 كطبيب متخصص في طب الأطفال.
حين بلغ سن الثامنة والثلاثين قرر الدكتور أنتوني بيكر التقاعد فجأة من الخدمة الكنسية ليتفرغ لممارسة الطب. وَلَمْ يمر وقت طويل حتى شغل الدكتور أنتوني بيكر منصب الطبيب الجراح في المحميات البحرية لولاية بنسلفانيا وكان أيضاً الطبيب الرسمي في المستوصف الطبي الصيني بمدينة فيلادلفيا. وَلَمْ تمرُ عشر سنوات فقط حتى أصبح الدكتور أنتوني بيكر رئيس الأطباء في المستوصف الطبي الصيني. اشتهر الدكتور أنتوني بيكر بترجمته لـ Phonendoscope وتطبيقاتها العملية التي أصبح من خلالها استخدام السماعة الطبية الحديثة أكثر سهولة لجميع الأطباء والدارسين.
لم يتوقف عشق الدكتور أنتوني بيكر للعلوم والمعارف الدينية ومنها التي ما وراء حدود المسيحية وخاصة الديانات الشرقية، فأصبح الدكتور بيكر لغويًا بارعًا يتحدث كل اللغات الحديثة في أوروبا وأيضا العربية والصينية، فكتبَ العديد من المقالات والكُتب ووجدتْ إنجازاته الأدبية طريقها لتنتشر حول العالم وصولاً إلى الهند. ويبدو أن الدكتور أنتوني بيكر تأثر بالإسلام بشكل كبير ولكن لم يعلن عن اهتمامه الجديد بعد.
في ديسمبر عام 1904 افتتح المفتي محمد صادق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ محرر جريدة “بدر” التي تصدر في قرية قاديان الهندية قسمًا جديدًا في صحيفته تحت عنوان “تحقيق الأديان وتبليغ الإسلام”، فكتبَ في وصف أهداف هذا القسم الجديد ما يلي:
“من الآن فصاعداً قررتُ أن أنشر تقريرًا أسبوعيًا بناء على رغبة القرّاء لتقوية إيمانهم وتوسيع معارفهم، وسوف يتكون هذا العمل من جزأين؛ البحث في الأديان، والنهوض بالإسلام. … لذلك تلقيتُ هذا الأسبوع رسالة من معتنق حديث للإسلام يعيش في أمريكا لم نكن نعرفه من قبل، لأننا أصبحنا فقط على دراية بإسمه وعنوانه ودراساته الشرقية من خلال إعلان عند بائعٍ للكتب، فقََدْ كتبَ هذا العالِم نقداً لكتاب معين. ولذلك كتبتٌ له ردي في رسالة.”
ثم طبع المفتي محمد صادق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ترجمة رسالته باللغة الأردية في 25 سبتمبر 1904 وترجمة رد الدكتور بيكر. وطلب المفتي محمد صادق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في رسالته من الدكتور بيكر أن يوضح عقيدته، فكان رد الدكتور بيكر في 28 أكتوبر 1904 كالتالي:
“سأحاول التعبير قدر الإمكان عن عقيدتي وإيماني بكلمات قليلة، وسوف تفهم ذلك بنفسك. إنني مُسلَّمٌ يحمل نفس المعتقدات التي لديك وأودي واجباتي الإسلامية بأفضل ما أستطيع في بلدي. إنَّ عقيدتي حول النبي عيسى هي نفس عقيدتك. ما من إله إلا إله واحد أزلي لم يلد ولم يولد لا يماثله أحد.”
وأوضح الدكتور بيكر بأنه كان يؤدي صلواته اليومية بعد الوضوء في المنزل وأنه كان يناظر أحد المسلمين العرب من الجزائر كان يسكن في فيلادلفيا ويزوره في منزله بشكل يومي.
كانت هذه بداية لسلسلة من المراسلات وتبادل الكتب والمقالات بينه وبين المفتي مُحَمَّدٍ صادق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ والجماعة استمرت لمدة 14 عامًا حتى وفاة الدكتور بيكر سنة 1918. لقد كان الدكتور بيكر قارئًا نشطًا ومساهمًا حيوياً في مجلة “مقارنة الأديان The Review of Religions” التي أسسها المسيح الموعودعَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام.
ولعل أعظم شرف ناله للدكتور بيكر أن المسيح الموعود عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام ذكره في كتابه “البراهين الأحمدية” كما يلي:
“هناك كثيرٌ من الإنجليز في تلك البلاد الذين يثنون على جماعتنا ويوافقوننا الرأي. فمنهم الدكتور “بيكر” الذي اسمه: ايه. جورج بيكر، 404 سيس كوئي هينا ايونيو، فيلاديلفيا أميركا. وقد قرأ اسمي وذِكري في مجلة “مقارنة الأديان” ثم بعث برسالة جاء فيها ما معناه: “أوافقُ تماماً أفكار إمامكم. فقََدْ قدّم الإسلامَ أمامَ الدنيا بصورة صحيحة تماماً كما قدّمه النبي مُّحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.” (البراهين الأحمدية، ج 5)
ظهر الفهم العميق للدكتور بيكر وتقديره الكبير للتعاليم الإسلامية وحبه للنبي الأكرم مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظهر كل ذلك بشكل واضح في مجموعة المحاضرات التي ألقاها حين كان رئيساً لمعهد كووبر الأدبي في فيلادلفيا، وقد تم نشر بعض هذه المحاضرات في مجلة “مقارنة الاديان The Religion of Religions” مثل مقال فبراير 1912 “مُّحَمَّدٌ مؤسس إمبراطورية ودِين لا زالا ينتشران” ومقال أغسطس 1913 “اللهُ الواحد والإسلام هو دين كل الناس”.
وفي محاضرته المنشورة في أغسطس 1913 أكد الدكتور بيكر رحمة الله عَلَيهِ على نبوة حضرة المسيح الموعود والإمام المهدي عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام كما يلي:
“بفضل هذه الروح ذات الفلسفة والليبرالية الحقيقية أصبح من الممكن لمرزا غلام أحمد في الهند أن يباشر عمله بروح نبي حقيقي، ليس لصالح مسلمي الهند فحسب بل لصالح البشرية جمعاء. الحمد لله، فقََدْ كان مرزا غلام أحمد هو الذي كشف أوهام المسيحيين والهندوس جميعاً بروح من اللطف والاحترام لم تترك أي مشاعر سيئة عند أحد. لذلك نجدُ بكل تأكيد أن العالم بدأ يتحرك وأن النهاية ستكون لصالح معرفة الإله الواحد والإسلام الذي ستغطي الأرض كما تغطي المياه البحر.”
وفي رسالته المؤرخة في 1916 قدم الدكتور بيكر معلومات مفصلة وقيمة للبعثات التبشيرية المستقبلية للجماعة الإسلامية الأحمدية في البلاد الغربية والأجنبية حيث أكد من جديد إيمانه كما يلي:
‘بالنسبة لوثيقة البيعة للجماعة الإسلامية الأحمدية أقولُ بأني معكم بالقلب والروح، على الرغم من أنني لا أستطيع التوقيع عليها في الوقت الحالي. فهنالك بعض العقبات التي يمكن إزالتها لاحقاً. ولكنني مُسْلِمٌ حقيقي كأي مُسْلِمٍ اقرأ القرآن والأحاديث وأؤمن بها وأقوم بالمطلوب.“.
توفي الدكتور بيكر بعد تعرضه لنوبة من الالتهاب الرئوي وهو في سن التاسعة والستين في السابع عشر من فبراير عام 1918 وكان يشتهر بكونه “من أصحاب العقول الثاقبة والطاقة التي لا تكاد تنضب لدرجة مكنته من احتراف أكثر من مهنة بسلاسة تامة”. وقد كان الدكتور بيكر هو المسلم الوحيد المعتنق للإسلام من أهل البلد في فيلادلفيا الأمريكية، فتكفلت عائلته بدفنه وفقًا للطريقة التقليدية.
رحم الله الدكتور أنتوني بيكر الذي نشر المفتي مُحَمَّد صادق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بعد وصوله إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1920 كأول مبشر أحمدي مسلم في تلكم البلاد نشر حضرة المفتي محمد صادق اسم الدكتور بيكر في قائمة المعتنقين الأمريكيين للإسلام. كذلك عند زيارة أمير المؤمنين خليفة المسيح الخامس أيَّدَهُ اللهُ بِنَصْرِهِ العَزِيز لمدينة فيلادلفيا في العشرين من أكتوبر 2018 توقف حضرته عند مقبرة Laurel Hill Cemetery التاريخية للدعاء للمسلم الوفي حضرة الدكتور أنتوني بيكر أحد طيور الأحمدية في الغرب، رحمه الله وتقبّله في زمرة الصالحين، اللّهُمّ آمين.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ