انتقل إلى رحمة الله تعالى اليوم أخونا الكبير العزيز الأستاذ فتحي عبد السلام عن عمر يناهز 77 عاما، رحمه الله تعالى وأكرم نزله ونوَّر مرقده ووسع مدخله، آمين

انضم المرحوم إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية في العام 2001 بعد مسيرة حياة حافلة وبعد مروره ومعايشته لمحطات هامة في تاريخ الفكر الإسلامي والحركات الإسلامية المعاصرة. وكنت قد حثثته على أن يكتب قصة حياته وعلاقته بهذه الحركات ومؤسسيها، لأنه شاهد على العصر، بل وبعد استماعي قد وضعت له عناوين الفصول وقلت له أن يملأها بما حدثني به، وآمل أن يكون قد فعل ذلك.

انتقل من الفكر الصوفي إلى الفكر السلفي إلى المعتزلة، ثم مال نحو القرآنيين ولم ينضم إليهم، ثم التقى بالمرحوم الأستاذ مصطفى ثابت في إحدى المحاضرات في مصر، وهناك بدأ تعرُّفه على الجماعة، وبدأ بدراسة ما تيسر من كتبها، ثم بايع بعد ما يقارب السنتين.

كان حافظا للقرآن الكريم منذ صغره، ومتقنا للغة العربية، وكان يكن حبا وإخلاصا للدين، وكان قد بدأ بحياة الزهد والتقشف صغيرا ظانا أن هذا هو الطريق للوصول إلى الله، ثم اهتم بالحديث والروايات وقرر أن يطبق ما استطاع منها في حياته، ولكنه رأى التناقضات الظاهرية والإشكالات فيها، ثم بدأ يفكِّر بأن الطريق نحو إسلام صحيح هو تدقيق الحديث وتنقية الكتب كالبخاري ومسلم، وظن أن هذا هو المشروع الذي يجب أن يبذل فيه حياته.

ولد المرحوم عام 1946 لأسرة ريفية في قرية تلوانة من أعمال محافظة المنوفية في مصر، وحفظ القرآن الكريم منذ صغره، ثم درس في المدارس الأزهرية وتخرج من ثانويتها بتفوق، وتخرج في كلية الهندسة بجامعة الأزهر، ثم انضم إلى الجيش ضابطا في قوات الدفاع الجوي. وترك الجيش بعد تعرضه لاتهام بأنه يشارك بعض الانقلابيين من الحركات الإسلامية في مخططاتهم، مع أنه كان ضد هذه التحركات ويرى أن التغيير يجب أن يكون سلميا من خلال تغيير الناس وتعليمهم الإسلام الصحيح، وكان يحذرهم، ولكن بسبب لقائه بهم اعتقل معهم وقضى مدة في السجن قبل اكتشاف براءته. وتعرض للاعتقال مرة أخرى ظلما أيضا. وبعد ذلك غادر إلى العراق وعمل هناك مهندسا فترة من الزمن، ثم حدث الاجتياح العراقي للكويت عام 1991 ثم شهد ثورة الجنوب العراقي، وفي أثناء إخماد الثورة مرت عليه فترة صعبة وخطيرة للغاية، حتى إنه قد سقطت في ليلة واحدة 10 آلاف قذيفة من المنطقة التي يقطنها، وكان يدعو هو وأفراد عائلته راجيا من الله النجاة، فنجوا بفضل الله بأعجوبة، ولم تصبهم أي قذيفة رغم أن هذا بدا مستحيلا، ولكن سمعه وسمع بعض أفراد أسرته قد تضرر كثيرا نتيجة لأصوات هذه الانفجارات.

توجه بعد ذلك بأسرته إلى الأردن، ثم مكث فيها وحيدا، وهناك التقى بالمعتزلة واعتنق الاعتزال، ثم عاد إلى مصر وهناك مال قليلا نحو القرآنيين، ولكن بمجرد تعرفه إلى فكر الجماعة الإسلامية الأحمدية رأى أنها تقدم الحلول لكل ما كان يقلقه ويشغل باله.

كنت قد بدأت التواصل معه بعد فترة مبايعته، والتقيته في مصر عام 2005 في أثناء زيارتي هناك. ثم التحق بفريقنا في برنامج الحوار المباشر منذ عام 2006 في شهر نيسان، ثم لم تسمح له الظروف بالمشاركة حتى عاد مرة أخرى بعد عام 2011.

كان المرحوم يتسم بالتواضع الجم وروح الفكاهة والمرح، وكانت جلساتنا للتحضير يسودها هذا الجو اللطيف عندما يكون مشاركا معنا. كان دائم الكتابة أو القراءة، فلا تراه إذا كان وحده إلا ممسكا بكتاب يقرؤه أو دفتر يخط فيه. وكان إذا طلب منه شيء للتحضير يفاجئنا بكم هائل من الكتابة، وكنا إذا قلنا له إن بعضها لا يناسب خطة البرنامج أو الوقت كان يتقبل ذلك بسرور.

كان قد أعد مئات الحلقات لبرامج مختلفة أخرى أعدها وقدمها.

كان هائما في كتب المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام، وقد قرأها مرارا بتمعن وشارك في تدقيق بعضها، وكان يحب شعر المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام كثيرا، وكثيرا ما تراه ينشد شعره بصوت عال بهيام وطرب. وقد أعد برنامجا عن شعر المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام بعنوان “روح القدس معه” قام من خلاله بالتعليق على قوة شعر حضرته وقوة لغته وأعاجيب اختيار حضرته للألفاظ والتعابير، ولعل هذا البرنامج من أفضل ما قدَّم.

عندما بدأت ترجمة الكتب الأردية للمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام إلى العربية هام بها أيضا، وكان له هيام خاص بكتاب “البراهين الأحمدية”، إذ كان يحمله دائما معه ويتحدث عما فيه من نكات جميلة وروائع. وأعد برامج حول هذا الكتاب خاصة.

عندما أتيح له المشاركة في الجلسات السنوية المركزية كنت أرى فرحته خلال الفترة كلها كفرحة الطفل في العيد، وكان هذا السرور ينتقل إلى كل من يصادفه. وكان في جلساتنا قبل الجلسة وبعدها يحدثنا بقصصه الطريفة بأسلوبه التمثيلي الممتع، فيدخل السرور والمرح إلى الحاضرين. وقد استأذن الخليفة نصره الله بأن يلقي في نهاية الجلسة هتاف العيد، فسمح له حضرته بذلك عدة مرات.

من القصص الطريفة التي ذكرها أنه تعرض لعضة كلب مرة وعضة ذئب مرة أخرى أثناء طفولته، مما أدى إلى أن يرسل من قريته إلى المدينة المجاورة لتلقي العلاج بالإبر مرتين، والذي كان 21 إبرة مؤلمة في البطن يوميا. وكيف أنه في المرة الثانية أقام عند بيت عمه لصعوبة الذهاب والعودة كل يوم، وكانت هذه المناسبة تعرفه إلى ابنة عمه والزواج بها. وكنت أقول له مازحا: لقد قال المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام إنه يمكن أن يكون لإنسان عادي فضيلة جزئية على بعض الأنبياء، وأرى أن لك فضيلة جزئية على يوسف عليه السلام إذ أن يوسف لم يأكله الذئب أما أنت فقد أكلك الذئب!

ومن القصص الطريفة التي حدثنا بها هو أيضا أنه ذات مرة كان يسكن في بناية في القاهرة، وكان يصعد كل يوم إلى سطح البناية بعد الفجر لمشاهدة مشهد شروق الشمس، فالتفت أحد الساكنين في الطابق الأخير إليه، وأمسك به وهو نازل بعد الشروق، فقال له: ماذا تفعل هنا؟ فقال إنني كنت أشاهد شروق الشمس. فلم يصدقه الرجل، وطلب من زوجته الاتصال بالشرطة، ولكن الزوجة رجت زوجها أن يسامحه هذه المرة على ألا يكررها. فتركه الرجل. وكان لهذه العائلة صبي يتابعه ويراقب حركاته ويبدو أنه كان معجبا به. ثم مضت الأيام، وكان قد سجن ظلما بتهمة الانضمام إلى الحركات الدينية السياسية، وعاد بعد سنوات إلى المكان، وعندما التقى بالزوجة سألها عن ابنها الصبي الذي لا بد أنه قد أصبح شابا، فقالت له إنه قد أصبح مثلك يصعد كل يوم لمراقبة شروق الشمس، ثم التحق بعد ذلك بحركات دينية سياسية اقتداءً بك، واعتقل، وهو الآن محكوم بالمؤبد!

كان المرحوم غزير العلم واسع الاطلاع، وكان يكن للخلافة احتراما وتقديرا كبيرا، وكثيرا ما كان يؤكد أنه بغير الخلافة لا يمكن أن ينصلح شيء في الإسلام، لأن الذي نحتاجه ليس تجاذب الأفكار وإنما أن يكون هناك خليفة تحسم عنده الخلافات ويقودنا موجها بتوجيه الله تعالى. وكان مستعدا دوما لأن يترك أي أمر إذا لم يقبله الخليفة، وكان يشعر بنشوة عظيمة وسعادة غامرة كلما قابل الخليفة نصره الله، ويتحدث بحب ووجد عن اللقاء وعما دار فيه.

رحم الله فقيدنا العزيز وأسكنه فسيح جنانه، وجعله في صحبة من أحب، وأكرم نزله ورفع درجاته في الدنيا والآخرة، آمين.

About الأستاذ تميم أبو دقة

من مواليد عمَّان، الأردن سنة 1968 بدأ بتعلَّم القرآن الكريم وحفظ بعض سوره وفي تعليمه الديني في سنٍّ مبكرة وبدأ بتعليم القرآن في المساجد في الثانية عشرة من عمره. انضم إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية عام 1987 قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر وكان من أوائل الأحمديين العرب. يعمل في خدمة الجماعة في المكتب العربي المركزي وفي برامج القناة الإسلامية الأحمدية وفي خدمات التربية والتعليم لأفراد الجماعة وفي العديد من الأنشطة المركزية. أوفده الخليفة الخامس نصره الله تعالى ممثلا ومندوبا لحضرته إلى عدد من الدول، وكرَّمه الخليفة نصره الله بلقب “عالِم” في العديد من المناسبات. عضو مؤسس ومعدّ في فريق البرنامج الشهير “الحوار المباشر” الذي انطلق رسميا عام 2006 والذي دافع عن الإسلام ضد الهجمة المسيحية التي انطلقت على بعض القنوات في بداية الألفية وأخمدها، والذي أسهم في تعريف الجماعة الإسلامية الأحمدية إلى العالم العربي، والذي يبث الآن مترجما ترجمة فورية إلى العديد من اللغات. وهذا البرنامج أصبح نموذجا للعديد من البرامج المشابهة في اللغات الأخرى. شارك ويشارك في العديد من البرامج الأخرى وخاصة المباشرة في اللغة العربية وفي بعض البرامج باللغة الإنجليزية. عضو هيئة التحرير لمجلة “ريفيو أوف ريلجنز” الإنجليزية العريقة التي بدأ إصدارها في زمن الإمام المهدي والمسيح الموعود عام 1902م.

View all posts by الأستاذ تميم أبو دقة