الموضوع السابق: حقيقة تعلم آدم الأسماء


الخلافة:

يقول الله تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 31)

إن كلمة خليفة تطلق على المعاني التالية:

  1. الذي يخلف عن قوم أو شخص خلا.
  2. الذي ينوب عن حاكم أعلى في حياته لتنفيذ أحكامه ببلد آخر.
  3. الذي يقوم من بعد شخص ليضطلع بسلطاته ويدير أعماله، أو يواصل نسله وولده.

ولكن معنى هذه الكلمة في القرآن الكريم يتردد في ثلاثة استعمالات:

أولاً- الخليفة بمعنى النبي، كما في آيتنا الحالية؛ لأن فضيلة آدم لا تتوقف على مجرد الأبوة لجيل جديد، بل إن فضيلته الكبرى هي تشرفه بالنبوة كما تصرح هذه الآية. وقد وُصف داود ؏ بهذه الصفة في قوله تعالى: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ…) (ص: 27).

ثانيًا- الخليفة من يخلف عن قوم هلك من قبل، كما جاء على لسان هود ؏ : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) (الأَعراف: 70).

ثالثًا- الخليفة الذي يخلف عن نبي ويقتدي بأثره، ويوجه قومه إلى شريعته، ويجمع شمل أمته من الأنبياء كان أو غيرهم؛ كما قال موسى لهارون “عليهما السلام”: (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (الأَعراف: 143).

اعتراض الملائكة على الاستخلاف؟

 يتبين من نص ما قاله الملائكة أنهم لم يكونوا بسؤالهم يعترضون على الله سبحانه وتعالى، ولا يحتجون باستحقاقهم للخلافة، وإنما كانوا يستفسرون عن الحاجة الداعية إلى تأسيس هذا النظام الجديد مع ما يضمره من خطر سفك الدماء وانتشار الفساد. كان سؤالهم استفهاما عن الحقيقة، وكان الجواب الممكن إما بالنفي الباتّ لإمكان سفك الدماء والفساد بعد الخلافة، أو بإقرار ذلك الإمكان مع تأكيد أهمية هذا النظام لبني نوع الإنسان، وإيضاح أن نفع النظام الجديد أكثر من ضرره.

وكان الوجه الثاني للجواب هو الأصح لنظام الخلافة الإنسانية، وهو الذي صدر الجواب به: إنه لم ينفِ عن النظام إمكانية حدوث شيء من سفك الدماء والفساد، فذلك ممكن على يد بعض الجناة، ولكنه صرح بأن النظام سينتج عنه شخصيات عظيمة متحلية بعديد من صفات الله عز وجل، ولذلك فلا بد من خلق مثل هذه الشخصيات القادرة على إظهار الصفات الإلهية على الأرض، على الرغم من وجود الشخصيات الناقصة أيضا، فذلك أنفع جدا لنظام العالم.

وكان من الممكن أن يكون هذا الوجه من الجواب على قسمين:

  • الأول: أن يدعم بالأدلة العقلية.
  • الثاني: أن يؤيد بالدليل العلمي، فيظهر مواهب الخليفة الأول وكفاءاته بصورة واقعية، ويكشف للملائكة وجود الكُمَّل من أتباع آدم. ومثل هذا الجواب يكون أقوى تأثيرا وأعظم إقناعا. وهذا ما اختاره الله تعالى إذ علّم آدم صفاته، فأثبت بالاتصاف بها أنه لا يمكن أن يُظهر الصفات الإلهية ظهورا كاملا إلا من يكون مخيرا بين الخير والشر، فيطغى عليه الحب الإلهي فيندفع نحو إنماء قوى الخير في نفسه ليتقرب إلى الله.

ويتبين من قول الملائكة أنهم قد اطمأنوا بجواب الله كل الاطمئنان، وأنهم اعترفوا بأن علمهم ناقص ومحدود بالنسبة إلى علم الإنسان الموهوب من لدن الله تعالى، وأنهم أقرّوا بأن الله تعالى هو وحده العليم الحكيم الذي لا يخلو فعل من أفعاله من الحكمة الكاملة. وأن الرد المفصل لما جرى لآدم إنما يهدف إلى تحديد الغاية من خلق الكون وتعيين حكمته، ويرمي إلى بيان أن سبب نزول الوحي السماوي في كل زمن إنما هو لتحقيق هذه الغاية.

أما قول الملائكة: (لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا) (البقرة: 33) فليس المراد منه الأمر البديهي من أن علمهم مقصور على ما علمهم الله، وإنما لبيان أن علمهم لا يزداد كازدياد علم الإنسان الذي زوده الله بالقدرة عليه، وأن ما آتاهم الله تعالى من قوى لا يستطيعون بها أن يدركوا شأوَ الإنسان في علومه المتنوعة الجامعة، أي أنهم أيقنوا بأن الإنسان مخلوق لحكمة، وأنه مكلف بعمل لا يستطيعونه، وأن خلق الإنسان لفعلٌ حكيم من أفعال الله عز وجل، وإن كان بعض جنسه سببا لسفك الدماء وإثارة الفتن. (قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَاتُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُون)(البقرة: 34).

مع أن الملائكة فهموا على وجه الإجمال الغرض من خلق آدم ؏ ولكن استكمالا للدليل أمر الله تعالى آدم ببيان كمالات الخاصة من أُمته أو نسله لكي تتبين الحقيقة عمليا بعد أن اتضحت علميا.

كما ليس المراد من تعليم آدم أن الله أجلسه أمامه يعلمه، وإنما معناه أنه تعالى آتاه علم الصفات الإلهية واللغة وخواص الأشياء إما بالوحي الخفي أو بالوحي الجليِّ أو بكليهما. أما والأمر كذلك فقد انكشف للجميع أن الله تعالى العليم الخبير، هو الأعلم بحاجات الأرض ومقتضياتها لنزول الفضل الإلهي، وهو أعرف لما تتطلب صفاته عز وجل. إنه العليم بما أودع في الملائكة من القوى: ظاهرة يبدونها، وباطنة لا يمكن لهم إظهارها. ومن الخطأ أن يتصور أحد أن الملائكة حاولت إخفاء شيء عن الله تعالى، وإنما يُراد بالكتمان هنا: العجزُ والقصورُ الفطري، إذ إنهم لا يملكون الإرادة والحرية التي يتمتع بها الإنسان ولكنهم يظهرون ما زُوِّدوا به من صفات، ويكتمون ما ليس بوسعهم من صفات.

الملائكة:

وفي الآيات الكريمة جاء ذكر الملائكة، ويحسن بنا أن نذكر هنا ببعض التفصيل، إذ إن الجيل الجديد من الشبان المتأثرين بالفلسفة العصرية بعد أن أخطأوا الطريق إلى معرفة الله تعالى، وتقاصروا عن إدراك وجوده وصفاته عز وجل، ظنوا أن وجود الملائكة باطل لأنه ينافي الألوهية؛ والذين لم تزل بهم عقيدة دينية طمأنوا أنفسهم بقولهم إن الملائكة ليست إلا من قبيل المشاعر الصالحة التي يختلج بها قلب الإنسان.

والواقع أن وجود الملائكة لا يتعارض أبدا مع كمال الألوهية، وأيا كانت الصورة التي اخترتموها من هاتين الصورتين، فإن وجود الملائكة لا يكون مظنة الارتياب والاعتراض. فإذا كان الله تعالى فعّالا منذ الأزل تسألنا: هل كان يتخذ عندئذ وسائط من مخلوقه لأجل القيام بأعماله؟ أي هل كانت هناك سنن طبيعية لوجود هذا الكون عند بدء الخليقة أم كان كل تطوّر يحصل بنفسه دون أي قانون أو سبب كعجائب الشعوذة والسحر؟ ولئن سلّمنا بأن كيان هذا العالم وبنيته تقتضي خضوع كل تطور حادث فيه لقاعدة أو سنّة ما اضطررنا للتسليم بأن الله عز وجل خلق بعض الوسائط لتكوين هذا العالم، وأصدر سننا خاصة سببت وجود هذا العالم بهذه الصورة. فإذا سلمنا بذلك، ولا بد من التسليم، فلا مفر إذن من الإقرار بأن وجود الملائكة أسمى من الاعتراض، لأنه إذا لم يكن اختيار وسيلة ما منافيا لقدرة الله تعالى فإن اختيار وسيلة غيرها لا يُعد أيضا منافيا لقدرته عز وجل. وكذلك إذا اعتقدنا بأن لله عز وجل علاقة فعالة بإدارة هذا العالم اليوم أيضا، فلا داعي إذن إلى الاعتراض على وجود الملائكة. فإن الله تعالى يستعمل النطفة الإنسانية للولادة، ويبرد غليل الإنسان بالماء، وينوّر على العالم بالشمس. وإذا كانت هذه الوسائط لا تنال من قدرته، فكيف يكون توسيطه تعالى للملائكة في إدارة نظام هذا الكون مدعاة إلى المساس بكبريائه وجبروته؟ والحق كما يتبين من القرآن، وتصدقه نواميس القدرة الإلهية، أن الله عز وجل، بقدرته الكاملة أخضع نظام العالم لقانون واسع متشعب. يقول تعالى: (رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا* وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا) (النازعات: 29-30)، وتدلنا هذه الآية على أن النظام السماوي مؤسس على قانون كامل منه ما هو خفي كالليل، ولا يتبين إلا بإمعان النظر وإمعان التدبر؛ ومنه ما هو ظاهر واضح وضوح النهار، ويتبين من الوهلة الأولى. هذان النوعان من نواميس القدرة بيِّنان للناظرين فيهما، فالشمس والقمر مثلا يعرف الناس بعض تأثيراتهما، ولكن بعض أسرارها في غاية الخفاء حتى أن العلماء المتخصصين لا يزالون يبحثون فيها لمعرفة أسرارهما.

إن أول حلقة في سلسة العلل والمعلولات هي الملائكة. فالقول بأن وجودها ينافي القدرة الإلهية وهمٌ أوهى من بيت العنكبوت. فإن العالم كله قائم على آلاف العلل والمعلولات، ولا يقول عاقل بأن هذه القوانين تتعارض مع قدرة الله تعالى، فكيف يكون وجود الملائكة كحلقة أُولى في السلسلة مما ينال مع قوته وسلطانه عز وجل. إذا كان النور سببا لإبصار العين، وذبذبات الهواء علة لحاسة السمع ولا يمس ذلك قدرة الله، فكذلك وجود الملائكة كعلة في إدارة نظام هذا الكون لن ينال شيئا من قدرة الله تعالى.

وكما أن الملائكة هي العلة الأولى لخلق الإنسان، كذلك هي العلة النهائية للاتصال بالله تعالى. ونوجز القول هنا عن الملائكة بأنهم كائنات روحانية، خلقهم الله تعالى كالحلقة الأولى في خلق العالم المادي، وجعلهم المدبرين له. وهم ليسوا عند الله تعالى كأصحاب الحظوة المقربين عند الملوك؛ بل إن الله تعالى أوجدهم سببا مبدئيا وعلة أُولى لإدارة نظام هذا العالم، ولإجراء التطورات والتغيرات الظاهرة في الكون، وهم لا يبرحون قائمين على إحداث التطورات في العالم بإذن الله تعالى، وطبق القواعد التي حددها عز وجل.

إن الذين مروا بتجارب روحية أُتيحت لهم معرفة الملائكة ومشاهدتهم، فقد ورد في الإنجيل نزول الملائكة على بعض الصالحين والصالحات، ونزول جبريل على المسيح الناصري ؏ وذكر القرآن الكريم والأحاديث النبوية نـزول الروح الأمين جبريل على سيدنا ومولانا محمد المصطفى ﷺ. وفي هذا العصر حظي مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية بهذا الاتصال الملائكي.

كما إنني تشرفت شخصيا ببعض المشاهدات بفضل الله تعالى ورحمته. إن الذين يحسبون الملائكة مجرد قوى كامنة في الإنسان يبنون رأيهم على الوهم والجهل وإنكار تجارب الصادقين، ولكن المرء إذا نال المشاهدة الشخصية لا يمكن له إلا اليقين بحقيقة وجودهم.


الموضوع التالي: حقيقة السجود لآدم، إبليس والشيطان