المقالة السابقة: الطاعة إبراهيم ؏ والتضحية في سبيل الله، والوعد الإلهي لذريته وتطهير البيت


الرسل الذين بشروا بهلاك قوم لوط ؏

مَن هم هؤلاء الرسل الذين أخبروا إبراهيم بهلاك قوم لوط عليهما السلام؟ يرى بعض المفسرين أنهم أُناس، بينما هم ملائكة عند الآخرين. وأرى أنهم بشر سُمّوا ملائكة لصلاحهم، كما وُصف سيدنا يوسف ملكًا في القرآن الكريم. ولو قيل: لماذا لم يزفّ الله البشرى لإبراهيم مباشرة دون واسطة هؤلاء الرسل؟ فالجواب أنه قد جرت سُنّة الله فيما يتعلق بالأنباء “أن المرء يَرى ويُرى له” بمعنى أنه تعالى يخبر المؤمن بمشيئته بطريق مباشر وأيضًا بواسطة الآخرين. وبما أن هؤلاء الرسل كانوا متجهين إلى لوط بهدف خاص، وكان عليهم أن يمروا على إبراهيم أيضًا ليخبروه بالعذاب، فلذا زفّ الله بواسطتهم البشرى لإبراهيم حتى تخفّ صدمته بخبر العذاب. وبما أن إبراهيم ولوطًا عليهما السلام كانا غريبين في المنطقة، إذ كانا قد هاجرا إليها من بلاد أُخرى، فمن الممكن تمامًا أن يكون الله تعالى قد أوحى إلى بعض صلحاء تلك البلاد يخبرهم بهلاك القوم، لكي يأخذوا لوطًا إلى مكان محفوظ قبل حلول واقتراب موعد العذاب، حيث أن لوط قد تلقى من الله تعالى نبأ هلاك القوم من قبل وكان قد أنذرهم منه.

فما أن وصل الضيوف بيت إبراهيم حتى قام لتوّه فذبح عجلاً وقدمه إليهم شواءً طيّبًا، دون أن يسألهم ما إذا كانوا قد تناولوا الطعام، أو ماذا سيأكلون؟ الآن أم بعد قليل؟ ولكنه عندما وجدهم لا يأكلون أدرك على الفور أن وراءهم هدفًا لم ينتبه إليه، لأنهم لو كانوا مسافرين عاديين لقبلوا ضيافته، فإن المسافر في مثل هذه البرية لا يستطيع العيش بدون الاستجابة لمثل هذه الدعوة. وقد قلق في نفسه أن يكون قد قصّر في إكرام ضيوفه مما كرّه إليهم أكل طعامه. ولكنه لم يبد قلقه بلسانه، إذ ليس من اللباقة أن يقول أحد لضيفه: هل قصّرت في ضيافتك، لأن هذا قول محرج. ولكن هؤلاء أيضًا لاحظوا قلق إبراهيم وحيرته من أمارات وجهه، فهدّأوا من روعه قائلين: لا تقلق، فإننا لم نترك الطعام لتقصير منك في ضيافتنا، وإنما جئناك حاملين خبر العذاب لقوم لوط لذلك لا نرى من اللائق أن نأكل بهذه المناسبة…

وقد بدا على سيدنا إبراهيم الخوف ولكن ليس على نفسه، وإنما على قوم لوط ؏، ومثل هذا الخوف لا يقدح في شأن النبي، بل هو على عظيم تقواه وسمو أخلاقه. فأول ما سمع إبراهيم نبأ هلاك القوم أصابه الفزع وتحير في أمره، ولكنه لما تلقى البشارة من الله بأنه سوف يعوّضه بأُمّة أفضل من الأشرار الهالكين خفّ همه وهدأ باله برؤية هذه المحبة الإلهية، فتشجع وبدأ يتوسل إليه عز وجل مسترحمًا لقوم لوط.

ما أكثر ما كان إبراهيم حظوة لدى الله، فإنه تعالى لم يقل له: اسكت فإنني لن أسمع لدعائك، بل قال له في لطف: دعك يا إبراهيم من هذا السؤال، فقد حان الآن ميعاد ربّك وقد جف القلم، ولا رادَّ لقضاء الله.

… لما لاحَظَ الضيوف آثار القلق لدى إبراهيم زفّوا إليه البشرى الخاصة به وقالوا: إن الخبر المحزن الذي أتينا به لا يخصك، بل نبشّرك بولادة غلام عليم.

ولا جرم أن هؤلاء الضيوف أو أحدًا منهم قد تلقى وحيًا حول ما سيحدث مع إبراهيم ولوط عليهما السلام، ولا غرابة في ذلك، إذ هكذا جرت سنة الله تعالى فيما يتعلق بالأنباء، فقد قال النبي ﷺ “يراها المؤمن أو تُرى لـه” (الترمذي: الرؤيا) بمعنى أنه ﷻ يخبر المؤمنَ بمشيئته ﷻ مباشرةً وبواسطة الآخرين أيضًا.

وعندي أن إبراهيم ولوطًا كانا غريبين في تلك المنطقة إذ هاجرا إليها من العراق، حيث ورد في التوراة أنهما كانا من سكان قرية للكلدانيين اسمها أُور (تكوين 11: 28 و31). وبعد ما اشتدت المعارضة وحاول قومه إحراقه في النار التي جعلها الله ﷻ برْدًا وسلامًا عليه، قام إبراهيم بالهجرة إلى أرض كنعان حيث يخبرنا سبحانه وتعالى: (ونَجَّيْناه ولوطًا إلى الأرضِ التي بارَكْنا فيها لِلعالَمين) (الأنبياء: 72)، أي نجّاه الله إلى أرض كنعان التي تسمى اليوم فلسطين حيث توجد أماكن مقدسة لليهود مثل أورشليم وغيرها. (راجع أيضًا تكوين 12: 5)

وكانت تلك المنطقة شبه غريبة للوط لأنه قد أتاها قبل فترة قصيرة، وكان خروجه من بين أهلها المجرمين سوف يعرّضه لكثير من الصعوبة والعناء؛ فأوحى الله إلى هؤلاء الضيوف -الذين كانوا على ما يبدو من سكان المنطقة نفسها- أن يقوموا بتهدئة خاطر لوط وأن يشيروا عليه بالمكان المناسب الذي سيهاجر إليه.

وأما قول الضيوف لإبراهيم (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ) ففيه تأكيد وتسلية من الله تعالى لإبراهيم ؏ الذي كان رقيق القلب جدًّا حيث يخبرنا الله تعالى (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 114). ذلك أن خبر هلاك القوم كان سيمثّل صدمةً فاجعة لإبراهيم، فتخفيفًا من صدمته زفّ الله لـه البشرى بولد عليم بواسطة هؤلاء الضيوف. فكأنه تعالى أنـزل السكينة على قلب إبراهيم وقال: إذا كنا سنُهلِك قومًا فاسدين من جهة، فإننا من جهة أخرى نرسي الأساس لأمة صالحة أيضًا.

ولما كان العلم الحقيقي إنما يحصل بالنبوة فقد تنطوي كلمة (غلام عليم) على البشارة بكون هذا الغلام أي إسحاق نبيًّا أيضًا. قال لـه الضيوف: لم نبشرك عن فراغ؛ إذ لا حقَّ لنا كبشر أن ندلي بنبأ كهذا، إنما البشرى من الله تعالى، ونزفّها إليك بما مَنَحَنا الله من حق؛ أو المعنى أننا نزفّها إليك بناء على أوامره التي آتانا إياها نظرًا إلى الظروف السائدة، فلا تقنُطْ من رحمة الله.

وقولهم: (فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ) يدل على أن هؤلاء الضيوف كانوا بشرًا وكانوا غير مطلعين على درجة إبراهيم في التوكل على الله. لو كانوا ملائكة لما خاطبوا إبراهيم بمثل هذه الكلمات لأن الملائكة كانت تعرف جيدًا مقام إبراهيم في التوكل على الله تعالى.

لما سمع إبراهيم قولَهم (فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِين) ردّ عليهم بنبرة قوية: هل تظنونني ضعيف الإيمان. إنه لا ييئس من رحمة الله إلا أهل الضلال؟ إنني واثق برحمة ربي الثقة كلها، إنما أقصد من سؤالي أن أعرف: هل هذه البشرى من قبيل ثرثرة المنجمين، أم أن الله تعالى هو الذي أخبركم بها بالوحي. أما وقد كشفتم حقيقة الأمر فلم يبق لديّ الآن أدنى شك في صحة البشرى.

لاحِظوا الغيرة الإيمانية عند إبراهيم ؏. فهو مِضياف لدرجة أنه ما لبث أن ذبح عِجلاً وقدّمه لضيوفه شواءً لذيذًا، وحين وجدهم لا يأكلون خاف أن يكون قد فرّط في ضيافتهم، ولكن لما قال له الضيوف (فلا تَكُنْ من القانطين) ثارت غيرته الإيمانية، فأجابهم من فوره (ومَن يَقنَطُ مِن رحمةِ ربِّه إلا الضالّون)؟ أي أن المؤمن لا ييئس من رحمة الله أبدًا. هكذا يغار أنبياء الله ﷻ على إيمانهم ودينهم. فكم هو حريّ بكل مؤمن أن يبدي الغيرة من أجل إيمانه متأسيًا بأسوة هؤلاء الكرام! لو كان هناك شخص آخر مكان إبراهيم لقال لأولئك الضيوف: كيف أصدّقكم وقد غزاني المشيب، ووهنت عظامي واضمحلت قوتي. ولكن إبراهيم يقول: إذا كان الخبر من البشر فأرى فحصه واجبًا، وأما إذا كان من عند الله تعالى فإني أصدّقه بالرغم مما أصابني من وهن وضعف.

عندما تبين لإبراهيم أنهم لم يجدوا في ضيافته أي تقصير كما لم يأتوا له بأي خبر مخيف أدرك من فوره أنهم جاءوه بهدف آخر، إذ لو كان قصدهم زفَّ البشرى إليه فحسب لما أصابهم هذا الذعر والحزن؛ فلا شك أنهم يحملون خبرًا آخر أكثرَ خطورة، ولا يمكن أن يكون خبرًا سارًّا وإلا لما عافَوا الطعام. ولذلك سألهم (فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ)؟ (الذاريات: 32) أراكم مذعورين قلقين؛ وهذا يعني أنكم لم تأتوا لتبشروني بالمولود فقط، إنما وراءكم أمر آخر أكثر خطورة.

إن هذا الاستدلال من إبراهيم ؏ أيضًا يدل بكل وضوح على أنه كان يعتبر الضيوف بشرًا، ومن أجل ذلك نجده لا يطمئن رغم تلقيه بشارة الابن على لسانهم، بل يستنتج من امتناعهم عن الأكل أنهم قد جاءوا بخبر محزن. فلو أن إبراهيم اعتبرهم ملائكة بسبب البشرى التي زفّوها إليه لما اندهش على امتناعهم عن الأكل، ولما سألهم: (فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُون)، أي ما هو هدفهم الحقيقي إذن؟ ذلك أن إبراهيم لم ينتبه إلى أن وراءهم أمرًا خطيرًا آخر إلا بشيء واحد، هو امتناعهم عن تناول الطعام رغم كونهم بشرًا. فقال لهم: أراكم محزونين ولأجل ذلك لا تأكلون. فأجابوه قائلين: الأمر هكذا، فإننا قد أُرسلنا بخبر نزول العذاب على قوم مجرمين.

ويبدو أن الله أخبر هؤلاء الضيوف أو بعضهم عن نجاة آل لوط بواسطة الإلهام أو الرؤيا، ولكن لم ينكشف لصاحب الرؤيا مصير زوجة لوط انكشافًا واضحًا، غير أنه فهم منها أن زوجة لوط أيضًا من الهالكين، ولذلك لم يؤكد هؤلاء على هلاكها وإنما اكتفوا بقولهم بأنها بحسب تقديرنا لن تنجو من العذاب. وقد قالوا ذلك تعظيمًا لله ﷻ، أو تخفيفًا من وطأة الصدمة التي ستصيب إبراهيم ؏. ولم يكن قولهم هذا كذبًا منهم، فإن الله تعالى يلغي أنباء العذاب أحيانًا. فمن المحتمل أن يكون هؤلاء قد فكّروا لعل الله تعالى سينجي زوجة لوط لدعائه وابتهاله، فلم يجزموا بعذابها.

لماذا دعا إبراهيم ؏ أن يجنبه الله تعالى عبادة الأصنام

… قد يتساءل الإنسان هنا قائلاً: هل كان بإمكان إبراهيم أن يقع في الشرك حتى يدعو ربه قائلاً: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ

والجواب: أن قوى الإنسان وقدراته نوعان؛ منها ما يتعلق بخَلقه وبِنيته مثل الرأس وغيره، فلا يمكن أن يدعو في شأنها ويقول مثلاً: يا رب لا تَدَعْ رأسي يتحول إلى رأسين، إذ لا تبديل لمثل هذا الخلق. ولكن هناك نوعًا آخر من قدرات الإنسان المكتسبة أو الموهوبة، بمعنى أن الإنسان يمكن أن يطور قواه هذه بالجهد والتمرين، أو يعطيه الله إياها فضلاً وهبةً، ليميزه عن غيره من البشر. وبما أن مثل هذه المواهب معرّضة للانحطاط والزوال لذلك كان على الإنسان أن يستمر في الابتهال إلى الله كي يساعده في المحافظة عليها، رغم وعد الله له بذلك، فإن ابتهاله هذا يمثّل اعترافًا منه بأن هذه النِعَم أو المواهب ليست مِلكًا له، بل هي إنعام وهبة من الله الكريم. وبناءً على هذا المبدأ نفسه لا يبرح الأنبياء في الدعاء والابتهال لكي يمنّ الله عليهم بالنعم المنوطة بالنبوة، ومثالُه هذا الدعاء من إبراهيم ؏ أو دعاء النبي ﷺ: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا). وانطلاقًا من المبدأ نفسه يقوم الأنبياء عليهم السلام بالاستغفار والتوبة، فينخدع الذين لا يعرفون هذا المبدأ ويظنون خطأً أن الأنبياء أيضًا يقعون في الفواحش والمعاصي فيقومون بالاستغفار والتوبة. والحق أن استغفارهم وابتهالهم إنما يعني أن يمكّنهم الله تعالى من الحفاظ على مقام الطهارة والعصمة الذي يتبوّأونه كهِبة من الله تعالى، لأن الحفاظ على هذا المقام السامي أيضًا لا يتم إلا بفضلٍ خاص من الله ﷻ. ومن أجل ذلك ذكّرنا القرآن مرة بعد أُخرى بقوله (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (إبراهيم: 13). أي أنه يجب على الإنسان رغم رقيّه وتفوقه على الآخرين، أن يستعين بالله تعالى دائمًا، إذ لم يحرز هذا الرقي إلا بفضل الله ورحمته. وإذا فعل ذلك ضَمنَ هدايته وهداية الآخرين.

ما أروعه من مشهد لحب الله تعالى. فسيدنا إبراهيم يقول عن أولاده: يا ربِّ سأعتبرهم أولادي ما داموا مُجتنبين الشرك وإلا فلا.

لقد وضّح هنا إبراهيم ؏ أن سخط الآباء على الأولاد لا يعني أن يصبحوا قساة القلوب نحوهم، بل الطريق الأمثل هو أن يعاقبوا الأولاد في الظاهر بينما يجب أن يدعوا لهم من الصميم بالهداية، ولا يبرحوا ساعين لإصلاحهم، لا أن يتمنوا هلاكهم.

يؤكد هنا سيدنا إبراهيم لله تعالى خلوص نيته في ترك ذريته في تلك البرية لكي يستدرَّ بهذا الطريق فضلَ الله ورحمته. وذلك أن الله تعالى ينظر إلى النيّات ولا يضيع أي عمل قام به إنسان بخلوص النية. فيتضرع إبراهيم إلى الله بقوله: إلهي، لقد تركتُ أولادي هنا لخدمة بيتك ولعمرانه. لقد تركتهم عند بيتك المحرم ليعبدوك ويذكروك دائمًا. وقد تركتهم في هذه البرية على علمي بأنه لا يتيسر فيها أي شيء من المـُتع المادية. فيا ربِّ، ارحمْ ضراعتي وتقبَّلْ ابتهالي، وحقِّقْ لي الهدف الذي أتركهم من أجله هنا. فاجعلْ قلوب الناس تميل إليهم شوقًا ومحبة وتستمع لنصحهم وتنصاع، وأن ينجح أولادي في إقامة عبادتك في هذه البرية. وأرجوك، يا ربِّ، أن تتولى رعايتهم من الناحية المادية أيضًا، فإني أتركهم في برية أعرف أنه لا زرع فيها ولا خضرة، ومع ذلك أتوسل إليك أن تمدهم ليس بالرزق العادي فحسب، بل بأجود أنواع الثمار، كي يدركوا أن من يضحي في سبيلك فإنك لا تضيعه أبدًا بل تكفل حاجاته المادية أيضًا.

انظروا إلى التأثير العميق الواسع لدعاء سيدنا إبراهيم، كيف أن العالم الإسلامي اليوم كلَّه يقف فداء لاسم مكة المكرمة، وكيف أن القلوب تهفو إلى الكتاب الذي نزل فيها بكل إِجلال وإكرام. بل لقد أتاح الله ببعث الإمام المهدي والمسيح الموعود ؏ الآن مزيدًا من الوسائل والفرص لنشر هذه التعاليم المباركة.

رؤيا إبراهيم في ذبح ابنه

وأرى أن الرؤيا التي رأى فيها إبراهيم أنه يذبح ابنه إسماعيل، كان تأويلها أن يترك ابنه في وادٍ غير ذي زرع، إذ إن تركه إياه في مثل هذا المكان كان بمثابة ذبح له ولا ريب.

لم يستطع سيدنا إبراهيم فهم الرؤيا بمفهومها الصحيح تأثرًا بالتقليد الشائع في ذلك الزمن، إذ كان الناس يقدّمون حينئذٍ قرابين إنسانية، فظنّ إبراهيم أن الله يريد منه ذبح ابنه ذبحًا ماديًّا. ولم يخبره الله تعالى بتأويل الرؤيا الصحيح لكي يلغي على يد إبراهيم تقليد الذبائح الإنسانية هذا. فلما استعد فعلاً لذبح ابنه كي يحقق الرؤيا تحقيقًا حرفيًّا، أوحى الله إليه أنْ يا إبراهيم قد صدَّقتَ الرؤيا وخرجتَ ناجحًا من الاختبار، فيجب من الآن أن لا يُقتل أيُّ إنسان قربانًا لله على هذا النحو، اللهم إلا الذي يُقتل في الحرب أو في القصاص. وأعلن أنه يجب أن يأخذ القربان الإنساني من الآن طابعًا معنويًّا.

فلا تقدّموا لله لحومكم ودماءكم، بل ضحُّوا في سبيله بوقتكم وعلمكم ومالكم لتنالوا به قربه سبحانه وتعالى. فاذبَحْ الآن يا إبراهيم كبشًا من الأكباش دفعًا للبلاء، وجهِّزْ نفسك للتضحية بابنك بطريق آخر وهو أشق وأشد من هذا الطريق.

لقد بيّن الله تعالى هنا أن إبراهيم ترك ابنه في تلك البرية معتبرًا إيّاه عملاً صالحًا وبنيّة صالحة جدًا. وهكذا فإن هذه الآية تمثل ردًّا ضمنيًّا على ما اتهمت به التوراة إبراهيم ؏. فقد ورد فيها أن إبراهيم أخرج ابنه إسماعيل وزوجته هاجر من البيت وتركهما في تلك البرية النائية إرضاءً لزوجته سارة (التكوين 31: 8-12). ومعنى ذلك أن هذا النبي العظيم ظَلَمَ بعض الأبرياء إرضاءً لزوجته. ولكن القرآن يخطِّئ التوراة في ذلك مبرّئًا ساحة إبراهيم من هذا الاتهام بلسانه ؏، إذ يسجل دعاءه هذا الذي يقول فيه: يا ربِّ، إنك تعلم نيتي وأنا أترك زوجتي وابني في هذه البرية. إنني لا أتركهما هنا لغرض دنيوي، وإنما أريد به كسب رضوانك فقط.

توضّح لنا هذه الآية قوة إيمان إبراهيم ؏. فإنه يترك ابنه البكر في البرية التي يصعب وصول الماء والطعام إليها، وهكذا يدمِّر مستقبل ابنه في نظر أهل الدنيا، ولكن يقينه بوعد الله قوي وراسخ لدرجة أنه يتجه إلى شكره تعالى إِذْ وَهَبَ له على الكِبَر إسماعيل وإسحاق استجابة لتضرعاته  فيهما. وكأنّ إبراهيم ما كان يريد من الله الأولاد حتى في سن الشيخوخة إلا إذا كانوا سيضحون بأرواحهم في سبيل الله تعالى، وتوطيد دينه في العالم. والحق أنه لا يحظى بمثل هذا الإيمان والفداء والإخلاص إلا ذو حظ عظيم كإبراهيم وأمثاله. اللهم صلِّ عليهم وارفع درجاتهم.


المقالة التالية: المشابهة بين إبراهيم ؏ ومحمد ﷺ، كسر الأصنام، ومعنى الصلاة الإبراهيمية