لقراءة الفصل السابق من هنا: إني آنست نارا – نزول الوحي على سيدنا موسى ؏
دعوة سيدنا موسى
كلما يُبعث نبي من الأنبياء يكذبه الناس لسببين: إما أنهم يعتبرون دعواه أعلى من قدره ومكانته، أو يظنون بأنهم أسمى من أن يتبعوه. وهذا نفس ما حدث لسيدنا موسى ؏. فالبعض ظنوا أن من المستحيل أن يكلم الله عز وجل عبدًا من عباده، بينما احتقره الآخرون ظانين أنهم أعز وأرفع من أن يطيعوا شخصًا كموسى ؏.
والناس الذين يرغبون في الأمور المادية السياسية يحاولون إثارة مشاعر الراغبين في الأمور الدينية ضد المرسل كي يوهموهم بأن ما جاء به هذا النبي إنما هو خداع وتلبيس يريد به إفساد دينهم الذي هم عليه. ويحرضون ضده الراغبين في الأمور المادية والسياسية بأن ما معه ليس بسحر وخداع فحسب، بل خداع خطير سوف يوقع به الفرقة بينكم ويشتت شملكم. فإذا كنتم تريدون خيرًا لشعبكم فتصدوا لهذا المدعي وإلا سوف يحول شعبنا المتحد إلى أحزاب متناحرة متحاربة.
(فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَـذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ) (يونس: 77).
منذ بدء الخليقة نجد أعداء الله لا يزالون يلجأون إلى هذه المكيدة الشيطانية التي لم تفقد قوتها في الفتك والتدمير. وإن الذين يلجأون إلى الكذب والخداع لا يقدرون على تحقيق الأهداف المنوطة بأنبياء الله عليهم السلام. إن الأنبياء يأتون لتغيير أحوال الشعب دينيًا وأخلاقيًا ومدنيًا وسياسيًا، إما عاجلاً أو آجلاً. ولما كان معظم الناس يظنون أن ما يتبعه آباؤهم هو الدين الحق، فكأنهم قصدوا بقولهم هذا أنه يريد إغواءنا عن الدين الحق، ولكنهم ذكروا هذا الأمر ذكرًا يحدث هيجانًا عنيفًا في قلوب العامة ضد نبيهم.
لقد رمى هؤلاء الناس نبيًا كريمًا كموسى ؏ بالسحر والخداع، فحرموا بسبب هذا الاتهام من أن يبحثوا أمره موضوعيًا، وهكذا وقعوا في الفخ الذي نصبوه له حيث بدأوا بأنفسهم يبحثون عن السحرة لمبارزته. ولكن عندما يقف الحق في مواجهة الباطل تنكشف الحقيقة للعيان. فأعمال المفسدين لا تؤول إلا بالفساد والشر، إذ يستحيل أن يأتي أحد بأعمال فاسدة ثم يجني منها خيرًا وصلاحًا. فالله تعالى يشير إلى هذه الحقيقة قائلاً: إننا لا نَدَعُ أعمال المفسدين لتأتي بما يرجون، بل إننا نجعلهم يتقلبون ويغيّرون حالتهم من حين لآخر فلا ينجحون في مراميهم. والله عز وجل ليس بحاجة إلى اللجوء إلى الكذب والخداع لنشر دينه، بل كل شيء خاضع لأمره، ولذلك فإنه ينشر دينه بأمره وقدرته.
كان بنو إسرائيل في صف موسى، فخاف فرعون أن يتعاظم شأنهم ويتفاقم خطرهم فيضعف حكمه ويذهب سلطانه، ولذلك كان يضطهدهم ويعذبهم. ولكن هذا كان غباءً شديدًا منه، لأن العنف والعدوان دونما مبرر يقوّي أسباب التمرد ولا يجدي نفعًا. وقد نصح سيدنا موسى شعبه قائلاً: عليكم أن تثقوا بالله ثقة كاملة، موقنين بأن الذي أنتم بصدد إنجازه هو مطلب سماوي يريد الله تحقيقه.
أمر الله تعالى أتباع موسى ؏ أن يقيموا متجاورين ليتمكنوا من التعاون والمساعدة فيما بينهم. لأن الفئات الضعيفة تعيش في شكل تجمعات في المدن. ووجه أنظارهم إلى ضرورة الدعاء والعمل بمثابرة، لأن الإقامة تشير إلى معنى الثبات والمداومة. وأخيرًا توجه الله تعالى إلى النبي موسى ؏ بأن عليك أن ترفع معنويات أتباعك بذكر الأخبار السارّة لهم، لأن اليأس والقنوط هو أكبر الآفات.
لقد وضّح الله جلّ شأنه مسألة دينية هامة تتعلق بالسياسة والحكم، حيث بيّن أنكم مأمورون بطاعة الحاكم أو الملك، ولكنه إذا تدخل في أمور دينكم ولجأ إلى استخدام القسر والجبر عليكم ليردكم عن الحق، فعليكم أن تهاجروا من بلده. أما إذا حال دون هجرتكم فقد صار في عداد الطغاة ويجوز لكم شرعًا محاربته، لأنكم عندئذٍ تكونون على الحق ويكون هو على الباطل، ولن تعتبر مخالفتكم له مخالفة للحق والقانون. ذلك كما أنه لا يحق لأحد أن يعيش في بلد ما وهو مخالف لقوانين تلك البلاد، كذلك تمامًا لا يحق لحاكم أن يُكره أحدًا على العيش في بلده بالرغم من الخلافات الدينية الحادة القائمة هناك.
عندما نزل السحرة في ساحة المبارزة أبدى موسى كراهية واستغناءً عن مبارزتهم فقال: افعلوا ما أنتم فاعلون، أما أنا فأراه لغوًا وعبثًا. يظن الناس عمومًا أن موسى ؏ كان استعد لمبارزتهم فورًا، ولكن هذا خطأ، لأنه كان يدرك جيدًا أنهم سحرة وأن ما يأتون به سيكون لغوًا لا حقيقة فيه، فأبدى كراهيته واستغناءه عن التصدي لهم، ولكنه لم يرفض مواجهتهم على الفور صراحةً ربما لأنه فكر أن الحقيقة سوف تنكشف تلقائيًا لدى المواجهة العملية، وعندها سوف يخبرهم برأيه صراحةً. وهذا ما حصل فعلاً حيث قال لهم عند انكشاف أباطيلهم: (مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) (يونس: 82).
عندما يقف الحق في مواجهة الباطل تنكشف الحقيقة للعيان. فأعمال المفسدين لا تؤول إلا بالفساد والشر، إذ يستحيل أن يأتي أحد بأعمال فاسدة ثم يجني منها خيرًا وصلاحًا. فالله تعالى يشير إلى هذه الحقيقة قائلاً: إننا لا نَدَعُ أعمال المفسدين لتأتي بما يرجون، بل إننا نجعلهم يتقلبون ويغيّرون حالتهم من حين لآخر فلا ينجحون في مراميهم.
لقد علّمنا الله عز وجل هنا درسًا عظيمًا في الأخلاق، ألا وهو: أن صدق الهدف أو صحة المبدأ لا يسمح للإنسان باللجوء إلى طرق غير مشروعة لتحقيقه، بل يجب اتخاذ وسائل مشروعة وفاضلة لتحقيق الهدف مهما كان ساميًا وهامًا. ولكن للأسف أن أكثر الناس يجهلون هذه الحقيقة في عصرنا هذا، وهذا الوباء في انتشار متزايد حيث يستسيغون الكذب لتوطيد الحق. ما قيمة الحق الذي لا يستطيع أن يزدهر وينتصر دون الاستعانة بالكذب والخداع؟…
تفسير واجعلوا بيوتكم قبلة
- يجب أن تعيشوا معًا. ذلك أن البيوت لن تكون متقابلة إلا إذا عاشوا مجتمعين متجاورين.
- يجب أن تتعاونوا فيما بينكم. ذلك أن الغاية من اتخاذ البيوت المجاورة أن يسهل عليهم مساعدة بعضهم بعضًا.
- يجب أن تبنوا البيوت في جهة واحدة.. أي أن تعيشوا تحت نظام واحد وتعملوا لتحقيق هدف موحّد.
- يجب أن تكون بيوتكم من نوع واحد. وقد أشار بذلك إلى ضرورة علاقة قوية بين الغني والفقير منهم لتحقيق الرقي القومي، وأن يكون للقوم كلهم طابع واحد، وأن يكون كل واحد منهم واقفًا على حال أصحابه، أما إذا عاش أحد في القصر بينما بات أخوهُ في الكوخ دون أن يتفقد ذاك حال هذا فمن الصعب أن ينشأ بينهما ترابط قوي. كما وجّه أنظارهم إلى ضرورة الدعاء والعمل بمثابرة. وباختصار، تعلّم الآية سبعة دروس تستطيع أية أُمة أن تحقق بالعمل بها تقدمًا قوميًا، وهذه الدروس هي: الاجتماع، الوَحدة، التعاون، النظام، الترابط بين الغني والفقير، الدعاء، المثابرة على العمل.
(وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ) (يونس: 88).
لا تعني الآية أن الله جلّ شأنه آتى آلَ فرعون زينة وأموالاً بهدف أن يقوموا بإضلال الناس، وإنما اللام في (ليضلوا) تدُلُّ على معنى الصيرورة والعاقبة، والمعنى: إنك يا ربِّ، آتيتهم زينة وأموالا، ولكنهم، بدلاً من أن يشكروك عليها، صاروا يُضلُّون الناس. وهذا أسلوب يعبَّر به عن الأسف، حيث يقول: ما أشدَّ شقاوةَ هؤلاء القوم، إذ أصبحوا ناكرين لهذه النعمة الإلهية العظيمة، بل يُضلُّون الآخرين أيضًا!
وهو دعاء عليهم ولا شك، ولكنه في الحقيقة ليس بدعاء سيء، بل هو دعاء خير لهم، لأنه ليس بدعاء شخص غاضب ناقم عليهم، وإنما هو دعاء نبي رحيم مشفق عليهم. يقول فيه موسى ؏: يا رب، لقد أعطيتهم أولادًا وأموالاً، وكان الحري بهم أن يكونوا لك شاكرين، ولكنهم صاروا لصنيعك ناكرين. وقد تجاوز نكرانهم بحيث إنهم بدأوا يضلون الآخرين، وساءوا لدرجة أن قلوبهم لن تميل إليك إلا برؤية العذاب الأليم. فإنني أتضرع إليك أن تدمّر أموالهم وتعرّضهم لصدمات مؤلمة في أولادهم علّهم يعودون إلى سبيل الهدى، فأتِ بالعذاب من أجل هدايتهم.
إنه يدعو الله تعالى أن يعذبهم بأولادهم وأموالهم لأنها سبب انحرافهم عن الهدى، فإذا أوذوا فيها رجعوا إلى صوابهم ومالوا إلى الهدى. وإذن، فهذا ليس بدعاء عليهم وإنما هو دعاء لهم، لأنه ليس لضلالهم وإنما لهدايتهم. لا جرم أنه يدعو عليهم بالعذاب، ولكن الذين لا يهتدون إلا بالعذاب يصبح هذا الدعاء رحمةً لهم. ومثاله كأن يطلب أحدُ أقارب المريض من الطبيب أن يبتر عضوه الفاسد كيلا يسري فساده إلى الجسم كله، فلا شك أن طلبه هذا رحمة بالمريض. كذلك كان دعاء موسى ؏ في الحقيقة دعاءَ رحمةٍ وشفقةٍ لا دعاءَ عَذابٍ ونقمةٍ.
وقوله تعالى (وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ) (يونس: 89)، يعني تعريضهم للصدمات في أولادهم. وهذا يتم بطريقين؛ الأول: أن يصب على أولادهم أنواع المصائب والآلام، والثاني: أن يوفّق أولادهم إلى الإيمان، لأن ترك الأولاد دينَ الآباء وانضمامهم إلى صفوف العدو يمثل صدمة مؤلمة للآباء. وقد حدث هذا في زمن النبي ﷺ، حيث قبِلَ أولاد أعدائه الإسلام…
سمع فرعون من موسى ؏ ذكر صفات الله تعالى وبأنه تعالى يُنـزل الوحي أيضًا، فبما أنه كان يجهل هذه الأمور فقال في دهشة: يا موسى، ما هذا الإله الجديد الذي لم نسمع عنه من الأولين قط؟ قال موسى ألا ترى أن الدنيا تدار بنظام واحد، وأن كل مخلوقٍ مزوّدٌ بما يحتاج إليه من الأعضاء، وعالمٌ بطريقة استعمالها منذ لحظة خلقه.
فقال فرعون لموسى (فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى) (طه: 52)؟ أي إذا كان الأمر كما تقول فماذا يكون مآل آبائنا الذين كانوا يجهلون هذه الأُمور؟ وقد أراد بذلك استثارة عواطف القوم ضد موسى مستخدمًا نفس السلاح الذي ما زال أعداء الأنبياء يستخدمونه في كل عصر. إن أهل الباطل يحاولون دائمًا إثارة عواطف القوم ضد أهل الحق، فيقولون لهم مثلاً إذا كنتم صادقين فهل كان آباؤنا كاذبين ومن أهل النار؟ عند ثورة العواطف يغيب عن أنظار القوم كل دليل وبرهان. فمثلاً إذا دعوت إلى التوحيد يهبّ الواحد من المشركين ويقول لقومه انظروا ماذا يقول هذا؟ إنه يقول إن آباءكم كانوا جاهلين حمقى وأغبياء حيث سجدوا للأصنام والأوثان! فمن ذا الذي يصدق أن آباءه كانوا جاهلين؟ إن الكافرين أيضًا يحبون والديهم، فلا يتحملون الطعن فيهم. فحين يُعرض عليهم الشرك بهذا الأسلوب ويقال لـهم إن آباءكم كانوا مشركين، ويقول هؤلاء عن آبائكم إنهم كانوا جاهلين وكافرين، فإنهم يثورون ضد دعاة التوحيد قائلين إن هؤلاء يسبون آباءنا، فاقتلوهم، وانهبوهم، واطردوهم من بلدكم؛ فإنا لن نتحمل الإساءة إلى آبائنا. فأعداء الحق يلجأون إلى هذا السلاح الخطير دائمًا، ولكن هذا السلاح لم يفلح في الدنيا أبدًا. بل إن الفطرة السليمة هي التي تتغلب عليه في كل عصر…
بعد أن قال موسى لفرعون إنما الجزاء بيد الله تعالى وحده الذي عنده علم كل شيء، فما يمكنني أن أخبرك عن مصير آبائك، حاول شرح الأمر لـه أكثر فقال ألا ترى كيف خلق الله الأرض خلقًا يستطيع به الإنسان الانتفاع بها إلى أقصى حد ممكن. ثم إنه تعالى جعل في الأرض سبلاً تمكّن الإنسان من السفر من قطر إلى آخر. وأنـزل من السماء ماء تخرج به الأرض نباتها لكي تأكلوا أنتم ودوابكم أيضًا. فلم لا تدركون من هذه الظاهرة أن الله تعالى ينـزل من السماء أيضًا الماء الروحاني، أي الوحي، ويخرج به علومًا روحانية شتى لكي ينتفع بها الناس من الطراز الأول، وغيرُهم أيضًا الذين هم كالأنعام كل بحسب قدره وكفاءته.
هنا يذكر الله تعالى مكرًا آخر لفرعون. فإنه لم يقل لموسى إنك تريد الإطاحة بعرشي لكي تتربع عليه أنت، بل عرض الأمر أمام القوم كقضية قومية فقال لـه: هل جئتنا لتطردنا بمكائدك من بلدنا؟ وهذا يعني أنه أراد إثارة الشعب وإلهاب الحماس فيهم ضد موسى حيث قال إنه يريد طردكم من أرضكم ليستولي على الحكم. علمًا أن فرعون كان يحكم مصر في ذلك الوقت كما حكم الإنجليز الهند فترة من الزمن، لذلك رأى من الضروري أن يثير السكان الأصليين ضد موسى حتى يضفي على القضية طابعًا قوميًّا.
يبدو أن فرعون كان أكثر عدلاً من أهل مكة وكذلك من المشايخ والقسيسين في هذا العصر. ذلك لأنه حدد بالتشاور مع موسى ؏ مكانًا للمناظرة لا يكون فيه خطر الشغب على موسى بل يتمتع بكل حقوقه. ولكن المشايخ أو القسيسين عندما يدعون خصمهم للمناظرة يدعونه إلى مكان يكثر فيه أتباعهم، وذلك لكي يثيروا الشغب ضد خصومهم ويوسعوهم ضربًا ولكمًا.
كان موسى ؏ يريد أن تتم المناظرة في مكان يكون سويًّا للطرفين، لذلك قال (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) (طه: 60).. والمراد من يوم الزينة يوم العيد. وكان ذلك يومًا مقدَّسًا لديهم لا يُعتدى فيه على أحد كأيام الحج المقدسة عند العرب. ثم إنه ؏ حدد وقت الصباح وهو وقت جيد، إذ يكون الدماغ نشيطًا حينذاك ويستوعب الأُمور بسهولة، أما فيما بعد فيكون متعبًا لكثرة الأشغال، ويصعب عليه التركيز.
إن الأكثرية العظمى من الناس اليوم يرون، لسوء فهمهم، جوازَ استخدام الطرق غير المشروعة بكل أنواعها من أجل تحقيق هدف نبيل. والحق أن محاولة نيل هدف بطرق غير مشروعة تشكل بحد ذاتها دليلاً على زيف ذلك المبدأ. هذه هي المكيدة التي لجأ إليها فرعون وأصحابه حيث حرضوا القوم على أن لا يدخروا وسعًا في اللجوء إلى كل مكيدة وخدعة وزيف بهدف التغلب على موسى. عليهم أن يستنـزفوا كل مكر وتدبير في هذا السبيل بغض النظر عن كونه مشروعًا أم غير مشروع. استعدّ السحرة لمواجهة موسى ؏، وبالرغم من أن فرعون كان معهم وبرغم أنهم كانوا مصابين بالكبر والغرور إلا أنهم قالوا لموسى في أدب: هل أنت ستبدأ أم نحن نبدأ؟ وقد كتب صاحب “مثنوي رومي” أمرًا لطيفًا بهذا الصدد، فقال إن أدب السحرة هذا هو الذي تداركهم، فإن الله تعالى الذي يعطي الجزيل على عمل بسيط قدّر عملهم هذا، ووفقهم للإيمان. (مثنوي مولوي معنوي ص 185).
يبدو من قوله تعالى (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) (طه: 67)، أنه كان بداخل حبال السحرة وعصيهم الزئبق أو اللوالب المرنة، فكانت تتحرك نتيجة الضغط عليها. وهناك مخترعات مماثلة لذلك تُستورد من أوروبا في هذه الأيام بكثرة. ويبدو أن مثل هذه الصناعة كانت موجودة في مصر، وهي التي قد استعملها السحرة.
أي لما أحس موسى الخوف أوحى الله إليه أن ليس بداخل هذه الحبال والعصي إلا اللوالب وما شابه ذلك. فاضربها بعصاك بقوة، فتنكسر اللوالب بداخلها وتتوقف هذه عن الحركة. وهكذا سوف تلتهم عصاك حبالهم وثعابينهم التهامًا معنويًّا، أي ستكشف للناس شعوذتهم وخُدعتهم.
إن قوله تعالى (فأُلْقِيَ السَّحَرةُ سُجّدًا) ملفت للنظر، حيث يبين أن هزيمة السحرة كانت واضحة جدًّا حتى بدا وكأن قوة غيبية قد نـزعت الأرض من تحت أقدامهم، فخروا ساجدين. وبما أن هزيمتهم قد جعلتهم يوقنون بأن الله تعالى يؤيد موسى بنصره فما لبثوا أن قالوا (آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) (طه: 71). لقد قال فرعون من قبل بكل كبرياء وغطرسة إني سأجمع سحرة هم أكثر حذقًا ومهارة من موسى، ولكن لما خر السحرة على قدمي موسى منهزمين استشاط فرعون غضبًا، وقال لهم إخفاءً للعار الذي لحق به، سوف أعاقبكم الآن لأنكم آمنتم من دون إذني.
كان السحرة قبل قليل يتسولون إلى فرعون، أما الآن فقد جعلهم الإيمان شجعانًا حتى إنهم وقفوا في وجه فرعون وقالوا لسنا لنطيعك الآن أبدًا، إنما نطيع أمر الله تعالى فقط. فغاية ما يمكن أن تفعله هو أن تقضي على حياتنا الدنيا. فافعَلْ ما بدا لك، فلا نبالي بذلك أبدًا. إننا مسرورون بأن الله تعالى قد هدانا بفضله إلى الحق، ولن تقدر قوة في الدنيا على ردنا إلى الكفر ثانية.
ويقول الله تعالى في مكان آخر (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) (النمل: 13).. أي أن معجزة اليد البيضاء كانت من بين تسع آيات أريناها على يد موسى من أجل فرعون وقومه، ولكنهم لم ينتفعوا منها مطلقًا… وهي:
1- معجزة العصا. 2- معجزة اليد البيضاء
3- معجزة الطوفان 4- معجزة الجراد
5- معجزة القمل 6- معجزة الضفادع
7- معجزة الدم 8- معجزة القحط والمجاعة.
9- معجزة عبور البحر.
هجرة بني إسرائيل وعبور البحر
(وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (يونس: 90).
وقوله تعالى (بَغْيًا) يعني أنه ما كان لفرعون أي حق قانوني لاضطهادهم، وقوله (عَدْوًا) يعني أنه لم يعد لديه أي حق أخلاقي كذلك.
وما نطق به فرعون عند الغرق يدل على غاية هوانه وتذلُّله. ذلك أنه لو قال “آمنتُ برب موسى” لا يكون قد تذلّل كثيرًا، لأن موسى ؏ كان قد تربى في بيته وكان يحظى لدى القوم بالتقدير والاحترام، ولكنه تاب عند الغرق قائلاً: (آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ) (يونس: 91). وكأنما قال: إنني أؤمن برب صانعي اللَّبِن هؤلاء، إذ كان يعاملهم باحتقار وازدراء شديدين، مسخِّرًا إياهم في أعمال الطين واللَّبِن.
إن الإيمان إنما ينفع في حالات معينة، أما إذا تبين الحق وحصحص فلا قيمة للإيمان عندئذ، لأن الثواب إنما يترتب على ما يبذله الإنسان من جهد وتضحية لأمر ما، أما الأمر الذي لا يكلّف فهمه جهدًا ولا عناء فلا يثاب عليه بشيء.
إن الله تعالى يجزي الإنسان جزاءً حكيمًا. لقد آمن فرعون إيمانًا كان بمثابة قالبٍ بدون روح، فجزاه الله ﷻ بحسب هذا، حيث نجّى بدنه دون الروح، ليصير عبرةً لمن بعده.
أما قوله تعالى (نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) (يونس: 93).. فاعلم أن القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الوحيد الذي يذكر نجاة جثة فرعون من الغرق، بينما التوراة لا تذكر شيئًا عن ذلك، ومِثلُها كتب التاريخ. ومَن أصدق من الله قِيلاً. فاليوم، وبعد مرور ثلاثة آلافٍ من السنين، قد عُثر على جثة فرعون “مِنِفَتاح” صاحب موسى، وهي محفوظة الآن في المتحف المصري بالقاهرة. وقد رأيته بأم عيني. إنها جثة شخص قصير القامة نحيف الجسم، تعلو وجهه ملامحُ الحَنَقِ والغضب والحمق. ما أبعد الشُقَّة الزَّمَنيّة بيننا وبينه، ومع ذلك فإن الله -جلّ شأنه- لم ينقذ جسمه من الفناء فحسب، بل أبقاه جثةً محفوظة إلى الآن، لتكون عبرة لمن بعده…
بني إسرائيل وصحراء سيناء
لما خرج بنو إسرائيل من مصر إلى كنعان اضطروا للمرور بمنطقة قاحلة جدًّا غير مسكونة تتخللها بعض المدن والقرى على مسافات بعيدة. ولا تزال هذه المنطقة هكذا، والمرور بها ليس بأمر هين. لا شك أن القطار يمر بها الآن، وسهل فيها السفر، إلا أن الأمر لم يتغير حتى الآن فيما يتعلق بكونها غير مأهولة لأنها خالية من الأراضي الصالحة للزراعة والإقامة. أرضها عبارة عن البراري التي لا زرع فيها ولا ماء.
بالاختصار، تبلغ صحراء سيناء من الخطورة والوعورة بحيث كان من العسير على الجماعات الكبيرة أيضًا أن تمر بها إلا باتخاذ تدابير استثنائية. أما الإقامة بهذه البرية فكانت أشد صعوبة. فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا: أن بني إسرائيل الذين خرجوا من مصر متشردين بائسي الحال، والذين يقال أن عدد رجالهم، البالغين عشرين سنة والصالحين للخدمة العسكرية، قد وصل ست مئة ألف -علمًا أن هذا العدد قد ورد في التوراة (الخروج 12: 37)، وهو خطأ بالبداهة، أما القرآن فيقول (وَهُمْ أُلُوفٌ)(البقرة: 244)- كيف مروا بهذه البرية، ثم كيف أقاموا فيها قرابة ثمان وثلاثين سنة؟ هذا سؤال لا يزال يحير العالم على مر القرون.
لقد ردت التوراة على هذا التساؤل بأنهم مروا وعاشوا بهذه البرية نتيجة معجزة نـزول المن وبأن اثنتي عشرة عينًا قد انفجرت دونهم في صخرة حوريب. تقول التوراة إن الله تعالى أعان هؤلاء المقهورين وهيأ لـهم من فضله أسباب الطعام والشراب.
تعالوا لنرى الآن هل يوجد شيء في برية سيناء ينطبق عليه ما ورد في التوراة من وصف؟
لقد ذكر القرآن والحديث الحقائق التالية عن المن:
- أولاً: يقول الله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) (البقرة: 244).
- ثانيًا: يقول الله تعالى (وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (البقرة: 58).
- ثالثًا: عن سعيد بن زيد ؓ قال قال رسول الله ﷺ: الكَمْأةُ من المنِّ” (البخاري: التفسير: باب قوله تعالى وظلّلنا عليكم الغمامَ وأنزلنا عليكم المن). وفي رواية أخرى عن أبي هريرة ؓ “أن ناسًا من أصحاب النبي ﷺ قالوا: الكمأة جُدَرِيُّ الأرض. فقال النبي ﷺ: الكمأة من المنِّ” (الترمذي: أبواب الطب، باب ما جاء في الكمأة).
نعلم من الآيات والأحاديث المذكورة أعلاه ما يلي:
- الأول: أن بني إسرائيل لم يخرجوا من مصر وهم ملايين بل كانوا ألوفًا.
- الثاني: أن الأشياء التي قد هيأها الله لهم كطعام كانت تمثل غذاء عالي الجودة، ولم تكن من المواد الرديئة غذاءً وطعمًا.
- الثالث: أن الأشياء التي تيسرت لهم كطعام لم تكن من نوع واحد، بل كانت أنواعًا شتى والكمأة واحدة منها.
والغريب أن المن مذكور في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع: في سورة البقرة، وسورة الأعراف، وسورة طه؛ وفي جميع هذه الأماكن قال الله تعالى (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (البقرة: 58)؛ مما يوضح جليًّا أن الله تعالى قال ذلك إبطالاً للظن أن ذلك الطعام كان من نوع واحد، أو مما تملّه الطبائع أو مما هو رديء في قيمته الغذائية.
إن ما فهمتُه في ضوء آيات القرآن والأحاديث المذكورة أعلاه إنما هو أن الله تعالى قد أنبت بفضله ورحمته في دشت سيناء الكمأة والترنجبين وغيرهما من الأشياء التي كانت تنمو بسرعة وتمدّ بني إسرائيل بالغذاء بلا تعب. كما جاءت طيور الزرزور وغيرها بكثرة لأن تلك المنطقة يكثر فيها الجراد، والزرازير تحب مثل هذه المناطق لأنها تأكل الجراد بشهية. وبما أن بني إسرائيل كانوا يجدون هذا الطعام بلا تعب فأطلق الله تعالى عليه اسم المن.. أي الطعام الذي هو منة إلهية بحتة. ولم يكن هذا الغذاء من نوع واحد، بل من أنواع مختلفة. ذلك لأن كلمات الحديث الشريف تدل دلالة واضحة على أن المن كان أنواعًا عديدة بيد أنه وُجدت في كل هذه الأنواع مشابهة، وهي أن بني إسرائيل ما كانوا يحصّلونها كادحين في أعمال الحراثة وما شابه ذلك. ولكن هذه الأغذية وطيور الزرزور التي أتت في البرية بكثرة كانت تصيب البطن بالإمساك، لذا أنبت الله تعالى لهم الترنجبين بكثرة، حيث كان تناوُلُه مع الأغذية الأخرى يحافظ على صحتهم. فمن الحقائق التي لا يحوم حولها الشك أن توفُّر المن هناك بهذه الكثرة في تلك الأيام كان معجزة من المعجزات، ولكن المن في حد ذاته هو من الأشياء المتوفرة في هذه الدنيا، وكان غذاء يمكن تناوله لمدة طويلة. كما خلق الله تعالى معه الترنجبين حتى يزيل الآثار الجانبية للطعام البري الجاف، ويحافظ على صحتهم.
هذا التفسير يرد على جميع الإشكالات والأسئلة مثل: كيف عاشوا على المن لهذه المدة الطويلة؟ وكيف كانوا يحصلون عليه طول السنة؟ وأن طعمه كان كطعم الزيت، وأنه كان يُخبز ويؤكل كأرغفة. ذلك لأن المن لم يكن اسمًا لشيء واحد، بل هو اسم لمجموعة أشياء كثيرة. كما ليس في هذا التفسير ما يتعارض مع العقل؛ فإن الشعب الذي كان لا بد له من العيش في الصحراء من أجل المكاسب السياسية العليا كان بإمكانه أن يعيش على طير الزرزور وغيرها من الأطعمة. ثم إن عيش هذا الشعب في البرية بسهولة بالعدد الذي ذكره القرآن ليس بالأمر المستحيل.
عبور بني إسرائيل البحر:
…(فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (الشعراء: 64)…
وقوله تعالى إشارة إلى معجزة أظهرها الله لموسى عندما كان يخرج ببني إسرائيل من مصر إلى الشام، وطاردهم فرعون مع جنوده لإعادتهم. وقد ورد في التوراة: “وَمَدَّ مُوسَى يَدَهُ عَلَى الْبَحْرِ، فَأَجْرَى الرَّبُّ الْبَحْرَ بِرِيحٍ شَرْقِيَّةٍ شَدِيدَةٍ كُلَّ اللَّيْلِ، وَجَعَلَ الْبَحْرَ يَابِسَةً وَانْشَقَّ الْمَاءُ. فَدَخَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ عَلَى الْيَابِسَةِ، وَالْمَاءُ سُورٌ لَهُمْ عَنْ يَمِينِهِمْ وَعَنْ يَسَارِهِمْ. وَتَبِعَهُمُ الْمِصْرِيُّونَ وَدَخَلُوا وَرَاءَهُمْ. جَمِيعُ خَيْلِ فِرْعَوْنَ وَمَرْكَبَاتِهِ وَفُرْسَانِهِ إِلَى وَسَطِ الْبَحْرِ. وَكَانَ فِي هَزِيعِ الصُّبْحِ أَنَّ الرَّبَّ أَشْرَفَ عَلَى عَسْكَرِ الْمِصْرِيِّينَ فِي عَمُودِ النَّارِ وَالسَّحَابِ، وَأَزْعَجَ عَسْكَرَ الْمِصْرِيِّينَ، وَخَلَعَ بَكَرَ مَرْكَبَاتِهِمْ حَتَّى سَاقُوهَا بِثَقْلَةٍ. فَقَالَ الْمِصْرِيُّونَ: نَهْرُبُ مِنْ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّ الرَّبَّ يُقَاتِلُ الْمِصْرِيِّينَ عَنْهُمْ.
فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: مُدَّ يَدَكَ عَلَى الْبَحْرِ لِيَرْجعَ الْمَاءُ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ، عَلَى مَرْكَبَاتِهِمْ وَفُرْسَانِهِمْ. فَمَدَّ مُوسَى يَدَهُ عَلَى الْبَحْرِ فَرَجَعَ الْبَحْرُ عِنْدَ إِقْبَالِ الصُّبْحِ إِلَى حَالِهِ الدَّائِمَةِ، وَالْمِصْرِيُّونَ هَارِبُونَ إِلَى لِقَائِهِ. فَدَفَعَ الرَّبُّ الْمِصْرِيِّينَ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ. فَرَجَعَ الْمَاءُ وَغَطَّى مَرْكَبَاتِ وَفُرْسَانَ جَمِيعِ جَيْشِ فِرْعَوْنَ الَّذِي دَخَلَ وَرَاءَهُمْ فِي الْبَحْرِ. لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ وَلاَ وَاحِدٌ. 29وَأَمَّا بَنُو إِسْرَائِيلَ فَمَشَوْا عَلَى الْيَابِسَةِ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ، وَالْمَاءُ سُورٌ لَهُمْ عَنْ يَمِينِهِمْ وَعَنْ يَسَارِهِمْ. فَخَلَّصَ الرَّبُّ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ إِسْرَائِيلَ مِنْ يَدِ الْمِصْرِيِّينَ. وَنَظَرَ إِسْرَائِيلُ الْمِصْرِيِّينَ أَمْوَاتًا عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ. وَرَأَى إِسْرَائِيلُ الْفَِعْلَ الْعَظِيمَ الَّذِي صَنَعَهُ الرَّبُّ بِالْمِصْرِيِّينَ، فَخَافَ الشَّعْبُ الرَّبَّ وَآمَنُوا بِالرَّبِّ وَبِعَبْدِهِ مُوسَى” (خروج 14: 21 و31).
لقد وردت هذه القصة في القرآن الكريم في مواضع أخرى أيضًا.. فجاء قوله: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)(الشعراء 64)، وجاء أيضًا: (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لاَ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى* فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ* وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى)(طه 78-80).
بالجمع بين كل هذه الآيات تبدو تفاصيل الحادثة كما يلي: كان بنو إسرائيل سائرين يريدون الأرض المقدسة. وعندما لحق بهم فرعون بجيشه أصابهم الهلع وظنوا أنهم مدركون. ولكن الله تعالى طمأنهم بأن أوحى إلى موسى أن يضرب البحر بعصاه ففعل. فتراجع الماء على الجانبين وظهر لهم طريق في البحر وتقدموا فيه، وكان الماء يمتد على الجانبين، فيتراءى لهم مرتفعًا كالتلال. وتبعهم فرعون وجنوده يطاردونهم. ولما وصل بنوا إسرائيل إلى الجانب الآخر سالمين تراجع الماء مرة أخرى وأغرق المصريون.
ولفهم هذا الحادث يجب أن نتذكر أن القرآن الكريم يعلمنا بأن كل المعجزات تكون من الله تعالى، ولا دخل و لا تصرف للإنسان فيها. فكان ضرب موسى البحر بعصاه بمثابة علامة لا غير، وليس معناه أنه كان لموسى أو لعصاه أي دخل في تراجع ماء البحر…
والمعجزة في هذا الحادث هي أن الله تعالى أتى ببني إسرائيل إزاء البحر في وقت الجَزْرِ، وما أن رفع موسى يده بالعصا لضرب البحر حتى بدأ الجَزْرِ وتراجع الماء. وعندما دخل فرعون مع جنوده البحر وقعت لهم من العوائق غير العادية أثناء العبور ما قلل سرعتهم كثيرًا، وكانوا لا يزالون في وسط البحر عندما أدركهم المَدَّ فغرقوا…
…انطلق فرعون مطاردًا بني إسرائيل بعد خروجهم من موطنهم بيوم على الأقل، ولذلك سبقوه إلى ساحل البحر حيث كان الجَزْرُ قد بدأ. ثم لما لمحوا جيش فرعون قريبًا منهم دخلوا الطريق الخالي من الماء وقطعوا معظمه. ولما وصل فرعون إلى الساحل اندفع بجيشه وراءهم مع مركباته.
وتسببت الأرض الرخوة في تأخير مسيرة فرعون، إذ غاصت مركباته فيه وتعطلت. ولقد استغرق ذلك وقتًا طويلاً تمكن بنوا إسرائيل أثناءه من الخروج من المنطقة، وخلفوا جيش فرعون وراءهم. وفاجأ المد جيش فرعون وزاد في ارتباكه فلم يستطع أن يتقدم أو يتأخر. وفي النهاية أغرق الماء معظم جيشه معه. وبسبب اندفاع الماء خرجت جثثهم على الساحل فيما بعد. وقد أسلفت الرد على من يسأل: إذا كان موسى قد استفاد من ظاهرة المد والجزر، فأين المعجزة؟ وقلت أن المعجزة هي أن الله تعالى أتى به عند ساحل البحر في وقت بداية الجَزْرِ…
لقراءة الفصل التالي: قصة موسى مع السامري وعبادة العجل